واقع الجامعات العربية والتنافسية العالمية
واقع الجامعات العربية والتنافسية العالمية . . التحديات والفرص
تشكل الجامعات حجر الزاوية في نهضة المجتمعات وتطورها، إذ تُعد المحرك الأساسي لإنتاج المعرفة وبناء القدرات البشرية. في العالم العربي، ورغم وجود تاريخ أكاديمي عريق يمتد منذ جامعة القرويين في فاس، إلا أن الواقع الراهن للجامعات العربية يطرح تساؤلات جادة حول مدى قدرتها على مجاراة الجامعات العالمية من حيث التنافسية، البحث العلمي، التصنيف الأكاديمي، والاستجابة لمتطلبات التنمية الوطنية.
تصنيف الجامعات العربية: أين نقف؟
تشير تقارير التصنيفات العالمية مثل “QS World University Rankings” و”Times Higher Education” إلى أن عددًا محدودًا فقط من الجامعات العربية ينجح في دخول قوائم أفضل 500 جامعة عالميًا. غالبًا ما تهيمن الجامعات السعودية والقطرية والإماراتية على المراكز الأولى عربيًا. على سبيل المثال، جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST) وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وجامعة خليفة تتقدم باستمرار في التصنيفات. ولكن رغم هذا التقدم الجزئي، لا تزال معظم الجامعات العربية خارج نطاق التأثير العالمي الأكاديمي.
تحديات تواجه التنافسية
أول وأبرز تحدي هو التمويل، إذ تعاني كثير من الجامعات في العالم العربي من ضعف التمويل الحكومي أو من اقتصار التمويل على الجوانب التشغيلية دون الاستثمار في البحث والتطوير. قلة الإنفاق على البحث العلمي تؤدي إلى تراجع الإنتاج العلمي وضعف فرص النشر في المجلات المصنفة. ووفق تقرير منظمة اليونسكو فإن متوسط الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي، مقارنة بـ2.4% في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
ثانيًا، ضعف ربط مخرجات التعليم العالي بسوق العمل يعد عقبة رئيسية، إذ تعاني العديد من البرامج الأكاديمية من عدم التحديث بما يتوافق مع متطلبات السوق، ما يؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة بين الخريجين. كما أن ضعف اللغة الإنجليزية في بعض المؤسسات يعوق فرص النشر والتعاون الدولي.
ثالثًا، التحديات الإدارية والبيروقراطية في كثير من الجامعات الحكومية تُقيد استقلالية الجامعات، سواء في تعيين القيادات الأكاديمية أو في رسم السياسات البحثية. هذه البيروقراطية تؤدي إلى بطء في التفاعل مع متغيرات العصر والتأخر في التكيف مع التحولات الرقمية والتعليم الإلكتروني.
نقاط القوة والفرص المتاحة
رغم هذه التحديات، فإن للجامعات العربية العديد من نقاط القوة التي يمكن البناء عليها. أولًا، التركيبة السكانية الشابة في المنطقة العربية تمثل فرصة ذهبية لنمو التعليم العالي، إذ تتزايد أعداد الطلبة سنويًا، ما يخلق حافزًا للتطوير المستمر للمؤسسات التعليمية.
ثانيًا، تشهد بعض الدول الخليجية استثمارات ضخمة في مجال التعليم والبحث العلمي، مثل رؤية السعودية 2030 ومبادرات الإمارات في التعليم العالي والبحث التطبيقي. كما أن الشراكات بين الجامعات العربية ونظيراتها العالمية بدأت تؤتي ثمارها في بعض المؤسسات من خلال تأسيس فروع لجامعات دولية، مثل فرع جامعة السوربون في أبوظبي أو جامعة جورجتاون في قطر.
ثالثًا، التطور الرقمي والتعليم الإلكتروني يمثل فرصة حقيقية لتوسيع نطاق التعليم والوصول إلى فئات جديدة من المتعلمين. أطلقت بعض الجامعات العربية منصات تعليم إلكتروني ناجحة، مثل رواق، إدراك، كورسات، وغيرها، مما يعزز فرص التنافسية الرقمية على المستوى العالمي.
البحث العلمي والنشر الأكاديمي
تُعد البحوث المنشورة في المجلات المفهرسة عالميًا (مثل Scopus وWeb of Science) مؤشرًا مهمًا على جودة الجامعات. ومع أن عدد الأبحاث المنشورة من الدول العربية قد شهد ارتفاعًا خلال السنوات الأخيرة، إلا أن مساهمة الوطن العربي في الإنتاج العلمي العالمي لا تزال متواضعة. فوفق تقرير مؤشر “سكوبس”، تشكل البحوث العربية أقل من 1% من الإنتاج العالمي، مقارنة بـ15% للولايات المتحدة مثلًا.
أحد أسباب هذا التراجع هو تدني عدد الباحثين المتفرغين للبحث، وعدم وجود حوافز كافية في كثير من المؤسسات، فضلاً عن قلة الدعم المالي المخصص للأبحاث. هذا بالإضافة إلى ضعف التعاون البحثي بين الجامعات العربية أنفسها، مما يؤدي إلى تشتت الجهود وعدم تراكم المعرفة بشكل جماعي.
الكادر الأكاديمي والتطوير المهني
يمثل ضعف تأهيل وتطوير الكادر الأكاديمي مشكلة جوهرية في كثير من الجامعات العربية، إذ تفتقر العديد من المؤسسات إلى برامج تدريبية منهجية لتطوير أساتذتها، كما تعاني بعض الجامعات من “هجرة الأدمغة” نتيجة ظروف العمل غير الجاذبة. تشير دراسات إلى أن آلاف الباحثين العرب يهاجرون سنويًا للعمل في جامعات أجنبية توفر بيئة أكثر دعمًا وحرية أكاديمية.
لكن في المقابل، هناك محاولات في بعض الدول لاستقطاب العقول المهاجرة عبر برامج تمويل الأبحاث، مثل برنامج تمبوس والاتحاد الأوروبي، أو منح المجالس الوطنية للبحث العلمي في لبنان والمغرب والسعودية.
نماذج جامعات عربية رائدة
يمكن الاستفادة من نماذج ناجحة في العالم العربي. على سبيل المثال، جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST) تقدم نموذجًا مختلفًا من حيث بنية البحث العلمي والدعم المالي، حيث تركز على البحث التطبيقي وربطه بالصناعة. أيضًا، جامعة قطر خطت خطوات ملموسة في البحث والنشر العلمي والشراكات الدولية.
في المغرب، تعمل جامعة الأخوين بأسلوب الجامعات الأمريكية، وقد أظهرت نتائج جيدة على صعيد التوظيف وجودة التعليم. أما في الأردن، فجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية وجامعة البلقاء التطبيقية تحتل مكانة مهمة على مستوى التعليم التطبيقي والبحث في مجالات الطب والهندسة.
ما الذي يمكن فعله لتحسين التنافسية؟
أولًا، إعادة النظر في التشريعات المنظمة للجامعات العربية لتعزيز استقلالها الأكاديمي والإداري، بحيث تكون قادرة على رسم سياساتها بحرية وتعيين كوادرها وفق الكفاءة.
ثانيًا، زيادة الاستثمار في البحث العلمي، ليس فقط من الحكومات، ولكن عبر الشراكة مع القطاع الخاص، بحيث توجه الأبحاث نحو حل مشكلات اقتصادية وصناعية ملموسة. وهذا يتطلب وجود حوافز حقيقية للنشر، وتطوير بنية تحتية بحثية قوية.
ثالثًا، بناء شراكات استراتيجية بين الجامعات العربية، لتأسيس مجمعات بحثية مشتركة، وتبادل الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وتطوير برامج دراسات عليا متعددة التخصصات. كما ينبغي تعزيز المهارات اللغوية والرقمية للطلاب والأساتذة، وتوسيع استخدام التعليم الإلكتروني والتقنيات الحديثة في العملية التعليمية.
دور المجتمع والدولة
لا يمكن للجامعات أن تنهض بدون دعم مجتمعي شامل، إذ يتطلب الأمر تعاونًا بين الدولة، المؤسسات، الأفراد، ووسائل الإعلام. فالوعي العام بقيمة البحث العلمي والتعليم الجيد يجب أن يتحول إلى ثقافة مجتمعية تؤمن بأن الاستثمار في الجامعات ليس رفاهية بل ضرورة استراتيجية.
أيضًا، على الحكومات العربية العمل على تحسين تصنيف جامعاتها من خلال سياسات واضحة ومستمرة، وعدم الاقتصار على المبادرات المؤقتة. يجب أن تُعامل الجامعات كمؤسسات إنتاج فكري وصناعي ومعرفي، وأن تُمنح الموارد والصلاحيات المناسبة.
إن تحسين واقع الجامعات العربية وتعزيز تنافسيتها عالميًا ليس هدفًا بعيد المنال، لكنه يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتمويلاً كافيًا، وبيئة بحثية مرنة، وكوادر مؤهلة. لا يكفي أن نبني جامعات جديدة، بل الأهم هو أن نعيد بناء الرؤية والمضمون والوظيفة. فالتعليم العالي هو جسر العبور نحو المستقبل، ولا يمكن لأي أمة أن تحقق نهضتها دون جامعات قوية، منتجة، ومتصلة بالعالم.
المصادر
-
QS World University Rankings 2024
-
Times Higher Education Arab University Rankings 2024
-
UNESCO Science Report: Towards 2030
-
تقارير وزارة التعليم العالي في السعودية وقطر والإمارات
-
The Arab Knowledge Index 2023 – Mohammed Bin Rashid Al Maktoum Foundation
-
The World Bank – Education Statistics
-
منظمة الإسكوا – واقع التعليم العالي في الدول العربية
-
مركز الدراسات المستقبلية – جامعة الدول العربية