هل العالم يعيش حقًا في عصر ما بعد الحقيقة؟
هل العالم يعيش حقًا في عصر ما بعد الحقيقة؟
في السنوات الأخيرة، صعد مصطلح “عصر ما بعد الحقيقة” (Post-Truth Era) ليصبح سمة مميزة لعالمنا المعاصر، حيث تتراجع قيمة الحقائق الموضوعية مقابل المشاعر والانطباعات الشخصية في تشكيل الرأي العام وصنع القرار السياسي. لكن ماذا يعني هذا المصطلح فعلاً؟ وهل نحن بالفعل نعيش في زمن تهيمن فيه الأكاذيب على الحقائق، أم أن الأمر أكثر تعقيدًا؟
تعريف عصر ما بعد الحقيقة
يرتبط مفهوم “ما بعد الحقيقة” بفقدان الثقة في المصادر التقليدية للمعلومات، وتزايد انتشار الأخبار المزيفة، والاعتماد المتزايد على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار. وتعني الحالة التي يصبح فيها التأثير العاطفي والتصديق الشخصي أكثر قوة من الحقائق الموضوعية في تشكيل المواقف.
هذا المصطلح دخل إلى قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية ككلمة عام 2016، وأصبح شائعًا خلال الحملات السياسية التي تميزت بانتشار المعلومات المضللة.
أسباب ظاهرة ما بعد الحقيقة
-
التقنية الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي: سرعة انتشار المعلومات تجعل من الصعب التحقق من صحتها، بينما تتيح الخوارزميات تعزيز المحتوى العاطفي أو المثير للجدل لزيادة التفاعل.
-
انعدام الثقة بالمؤسسات: الفساد السياسي، والأزمات الاقتصادية، وغياب الشفافية تزيد من شك الجمهور في وسائل الإعلام الرسمية والحكومات.
-
الاستقطاب الاجتماعي والسياسي: يؤدي إلى تشكيل مجموعات تؤمن بمعلومات متناقضة، مما يعمق الانقسام المجتمعي.
-
تراجع التعليم النقدي: ضعف مهارات التفكير النقدي والتحليل يجعل الأفراد عرضة للتضليل.
تأثيرات ما بعد الحقيقة على السياسة والمجتمع
تنتشر الأخبار المزيفة أو “الفايك نيوز” (Fake News) بشكل كبير، مما يغير من سلوك الناخبين ويؤثر على نتائج الانتخابات. من الأمثلة الشهيرة حملات الانتخابات الأمريكية 2016، واستفتاء بريكست، حيث لعبت المعلومات المضللة دورًا بارزًا.
كما تؤدي هذه الظاهرة إلى تآكل الحوار العقلاني، وزيادة العنف اللفظي، وتنامي ثقافة العداء والريبة. في بعض الحالات، تُستخدم الأكاذيب كورقة سياسية أو استراتيجية للتلاعب بالرأي العام.
هل يمكن مقاومة عصر ما بعد الحقيقة؟
تتطلب مواجهة هذه الظاهرة جهدًا متكاملاً يشمل:
-
تعزيز التعليم الإعلامي والنقدي في المناهج الدراسية لتعليم الأفراد كيفية التحقق من المعلومات والتفكير المنطقي.
-
تحسين شفافية المؤسسات الإعلامية واتباع معايير مهنية صارمة.
-
استخدام التكنولوجيا لمكافحة الأخبار المزيفة عبر أدوات التحقق والذكاء الاصطناعي.
-
تشجيع النقاش المفتوح والحوار المجتمعي لتقليل الاستقطاب.
-
تطوير القوانين والسياسات التي تعالج انتشار المعلومات المضللة دون المساس بحرية التعبير.
خاتمة
ليس من السهل حسم ما إذا كنا نعيش حقًا في عصر “ما بعد الحقيقة” أو أن الظاهرة مجرد تطور في وسائل التواصل والمعلومات. لكن ما هو واضح أن التحدي الذي نواجهه يتطلب وعياً جماعياً ومهارات جديدة لفهم العالم بطريقة موضوعية ومسؤولة. إن استعادة قيمة الحقيقة تحتاج إلى تعاون بين الأفراد، المؤسسات، والحكومات لبناء مجتمع مبني على الثقة والمصداقية.
المراجع
-
Lewandowsky, S., Ecker, U. K. H., & Cook, J. (2017). Beyond Misinformation: Understanding and Coping with the “Post-Truth” Era. Journal of Applied Research in Memory and Cognition, 6(4), 353–369.
-
McIntyre, L. (2018). Post-Truth. MIT Press.
-
Oxford English Dictionary. (2016). Word of the Year 2016: Post-truth.
-
Tandoc, E. C., Lim, Z. W., & Ling, R. (2018). Defining “Fake News.” Digital Journalism, 6(2), 137–153.
-
Vosoughi, S., Roy, D., & Aral, S. (2018). The spread of true and false news online. Science, 359(6380), 1146–1151.
هل ترغب بمتابعة مواضيع أخرى أو تجهيز نسخة قابلة للطباعة أو النشر؟