التغير المناخي في الوطن العربي: الواقع والتحديات
التغير المناخي في الوطن العربي: الواقع والتحديات
تشهد الكرة الأرضية تحولات مناخية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، حيث تسجل درجات الحرارة معدلات قياسية، وتزداد حدة الظواهر المناخية مثل الجفاف والفيضانات والعواصف الرملية. ويأتي الوطن العربي، بما يضمه من مناطق صحراوية ومناخات قاحلة، في طليعة المناطق المتأثرة بهذه الظواهر. لا يعود هذا التأثر إلى موقعه الجغرافي فحسب، بل أيضًا إلى هشاشة موارده المائية واعتماده الكبير على الزراعة التقليدية وغياب استراتيجيات بيئية فعالة في بعض البلدان.
الواقع المناخي في الوطن العربي
تشير التقارير العلمية إلى أن الوطن العربي من أكثر مناطق العالم تأثرًا بتغير المناخ. فوفقًا لتقرير البنك الدولي (2014)، تواجه المنطقة العربية ارتفاعًا متسارعًا في درجات الحرارة بمعدل أسرع من المتوسط العالمي، حيث يُتوقع أن ترتفع درجات الحرارة بمقدار 4 درجات مئوية بحلول نهاية القرن. كما تشهد المنطقة تراجعًا في معدلات الهطول المطري، مما يزيد من حدة الجفاف وتهديد الأمن المائي والغذائي.
تُعد دول الخليج العربي من أكثر الدول عرضة لارتفاع درجات الحرارة، بينما تعاني دول مثل السودان والصومال من فترات جفاف طويلة تؤثر على الإنتاج الزراعي والرعوي. أما بلاد الشام، فقد باتت تشهد تغيرات موسمية متطرفة، من عواصف مطرية شديدة إلى فترات انحباس مطري قاسية، كما هو الحال في الأردن وسوريا ولبنان.
دول في دائرة الخطر
يبرز عدد من الدول العربية كمناطق حرجة في خريطة التغير المناخي:
-
مصر: تعاني من تهديد مباشر بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر الذي يهدد دلتا النيل، المصدر الأساسي للزراعة في البلاد، كما يهدد البنية التحتية في المدن الساحلية مثل الإسكندرية.
-
العراق: يواجه أزمات مركبة ناتجة عن التغير المناخي وتدهور المنظومة المائية، حيث يجف نهر دجلة والفرات في بعض مناطقهما، مما أدى إلى تراجع الأراضي الزراعية وتزايد الهجرة الريفية.
-
الأردن: من أفقر دول العالم مائيًا، إذ تُعد موارد المياه فيها شبه معدومة، وتعاني من تكرار مواسم الجفاف وارتفاع الطلب على المياه مع النمو السكاني واللجوء.
-
السودان: يُعد تغير المناخ أحد أبرز عوامل النزاعات الداخلية، حيث يتسبب الجفاف في صراعات على الموارد بين القبائل والمجتمعات الزراعية والرعوية.
-
الجزائر والمغرب: تشهدان تحولات مناخية ملحوظة، منها تراجع نسبة الأمطار، وزيادة خطر الحرائق في الغابات خلال الصيف، فضلاً عن تهديد الأمن الغذائي.
الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتغير المناخي
أحد أبرز تجليات التغير المناخي هو تأثيره العميق في البنية الاجتماعية والاقتصادية للدول. فمع تقلص الموارد المائية والزراعية، تزداد معدلات البطالة والهجرة، كما ترتفع تكلفة الأمن الغذائي بشكل كبير. تؤدي موجات الجفاف في الأرياف إلى دفع السكان نحو المدن، مما يخلق ضغطًا على الخدمات الأساسية ويزيد من معدلات الفقر والبطالة.
كما أن الصحة العامة تتأثر سلبًا؛ فارتفاع درجات الحرارة يزيد من انتشار الأمراض المرتبطة بالحر، وتفاقم العواصف الرملية يسبب مشاكل تنفسية مزمنة، خاصة في الأطفال وكبار السن. في هذا السياق، أشار تقرير منظمة الصحة العالمية (WHO, 2021) إلى أن التغير المناخي سيسهم في وفاة ما يزيد عن 250 ألف شخص سنويًا بين عامي 2030 و2050 إذا لم تُتخذ إجراءات فورية.
استجابات الحكومات العربية
أدركت بعض الدول العربية الحاجة الماسة لمواجهة التغير المناخي وبدأت باتخاذ خطوات في هذا الاتجاه، إلا أن التفاوت في القدرات السياسية والاقتصادية بينها يجعل من الاستجابة تحديًا حقيقيًا. على سبيل المثال:
-
الإمارات العربية المتحدة أطلقت مبادرة “صفر انبعاثات كربونية بحلول 2050″، كما استثمرت في مشاريع طاقة شمسية عملاقة مثل “مدينة مصدر”.
-
السعودية طرحت “مبادرة السعودية الخضراء” لزراعة مليارات الأشجار، والاعتماد على مصادر طاقة نظيفة ضمن رؤية 2030.
-
المغرب يُعد نموذجًا إقليميًا ناجحًا في تطوير الطاقات المتجددة، خاصة مع بناء أكبر محطة طاقة شمسية في العالم (نور ورزازات).
رغم هذه المبادرات، تفتقر العديد من الدول إلى إطار قانوني قوي يُلزم المؤسسات والمشاريع بالمعايير البيئية. كما أن الاعتماد على الدعم الخارجي في مشاريع التكيف يجعل من الصعب استدامتها.
التعاون الإقليمي: ضرورة لا رفاهية
التحديات المناخية لا تعترف بالحدود السياسية، وبالتالي لا يمكن لدولة واحدة أن تواجهها منفردة. التعاون الإقليمي في مجالات مثل تبادل الخبرات، بناء نظم إنذار مبكر للكوارث، وتطوير مصادر المياه غير التقليدية (مثل التحلية وإعادة التدوير) يمكن أن يشكل قاعدة لمواجهة جماعية أكثر فاعلية.
إنشاء مراكز أبحاث إقليمية تُعنى بالمناخ العربي وربطها بالجامعات ومراكز السياسات يمكن أن يوفر معرفة دقيقة تسهم في وضع خطط وطنية متماسكة، بدلاً من الاعتماد فقط على نماذج أجنبية.
توصيات مستقبلية لمواجهة التغير المناخي
لمواجهة الآثار المتسارعة للتغير المناخي في الوطن العربي، نقترح التوصيات التالية:
-
تبني سياسات بيئية وطنية شاملة تشمل الزراعة، الطاقة، المياه، والنقل.
-
الاستثمار في الطاقات المتجددة وخاصة الشمسية والرياح، لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
-
تطوير الزراعة الذكية القائمة على تقنيات توفير المياه ومقاومة الجفاف.
-
رفع الوعي البيئي في مناهج التعليم والإعلام.
-
تشجيع البحث العلمي في مجال المناخ من خلال تمويل الأبحاث والدراسات التطبيقية.
-
تحسين الحوكمة البيئية وتفعيل دور المؤسسات الرقابية على المشاريع الكبرى.
خاتمة
إن التغير المناخي يمثل تحديًا وجوديًا للدول العربية، وليس مجرد ملف بيئي منفصل. المستقبل المناخي للمنطقة يعتمد على ما يتم اتخاذه اليوم من قرارات. ما بين التكيف والتأقلم، وتغيير السياسات والأنماط التنموية، يكمن الأمل في بناء غدٍ أكثر استقرارًا وأمانًا بيئيًا. لا مجال للتأجيل؛ فالمخاطر قائمة والحلول ممكنة إن توفرت الإرادة.
المراجع
-
World Bank. (2014). Turn Down the Heat: Confronting the New Climate Normal. Washington, DC: World Bank Group.
-
United Nations Development Programme. (2020). Climate Change in the Arab States. UNDP Regional Bureau for Arab States.
-
World Health Organization. (2021). Climate change and health. https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/climate-change-and-health
-
Intergovernmental Panel on Climate Change (IPCC). (2021). Sixth Assessment Report – Summary for Policymakers.
-
Abu-Rish, Z. (2022). Environmental Policy and Politics in Jordan: Challenges and Prospects. Middle East Journal, 76(3), 345–367.
-
Al-Saidi, M., & Elagib, N. A. (2017). Ecological modernization and responses for a low-carbon future in the Gulf Cooperation Council (GCC) countries. Renewable and Sustainable Energy Reviews, 81, 660–670.