من يملك الماء في الوطن العربي؟ الصراع الخفي على الذهب الأزرق
في ظل تصاعد الأزمات البيئية، وتغير المناخ، والنمو السكاني السريع، يواجه العالم العربي أزمة غير مرئية في ظاهرها لكنها تهدد الأمن القومي والاقتصادي والإنساني في جوهرها: أزمة المياه.
فقد أصبح «الذهب الأزرق» عاملًا رئيسيًا في رسم السياسات والتحالفات والصراعات، وباتت المياه أحد أهم مصادر التوتر الإقليمي، مع ما يحمله المستقبل من احتمالات قد تصل إلى حروب مائية صريحة.
في هذا التحقيق الصحفي نستعرض أبعاد أزمة المياه في الوطن العربي، ونكشف عن اللاعبين الخفيين، والحقائق الصادمة، والحلول الممكنة.
ندرة المياه في الوطن العربي: أرقام مفزعة
يعاني العالم العربي من واحدة من أعلى معدلات ندرة المياه في العالم، إذ تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 13 دولة عربية تقع ضمن قائمة الدول العشرين الأكثر معاناة من شح المياه.
وفقًا لتقرير صادر عن البنك الدولي (2023)، فإن نصيب الفرد العربي من المياه العذبة لا يتجاوز 500 متر مكعب سنويًا، وهو أقل من خط الفقر المائي العالمي المحدد بـ 1000 متر مكعب.
بعض الدول مثل اليمن والأردن وفلسطين سجلت أرقامًا تقل عن 100 متر مكعب للفرد، وهي أرقام تضعها في دائرة الخطر الوجودي.
أنهار تتدفق بالتوتر: دجلة، الفرات، والنيل
أحد أخطر أوجه أزمة المياه في المنطقة يتمثل في الصراع على الأنهار العابرة للحدود. فالعراق وسوريا يعتمدان على نهرَي دجلة والفرات اللذين ينبعان من تركيا، في حين تواجه مصر والسودان تحديًا وجوديًا مع سد النهضة الإثيوبي على نهر النيل.
قامت تركيا ببناء سلسلة من السدود على نهري دجلة والفرات ضمن مشروع ‘غاب’، مما أدى إلى انخفاض حاد في كمية المياه الواردة إلى العراق وسوريا بنسبة تجاوزت 50%.
وفي الجنوب، أدى إصرار إثيوبيا على ملء سد النهضة دون اتفاق ملزم إلى تصاعد التوتر مع مصر التي تعتمد على النيل بنسبة 97% لتلبية احتياجاتها المائية.
إسرائيل والمياه: السيطرة بالقوة والابتكار
في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تستخدم إسرائيل المياه كسلاح استراتيجي، إذ تتحكم في أكثر من 80% من مصادر المياه في الضفة الغربية، وتمنع الفلسطينيين من حفر آبار جديدة أو تطوير البنية التحتية.
وفي الجولان السوري المحتل، تسيطر إسرائيل على منابع نهر بانياس وتعيد توجيهها لدعم مشاريعها الزراعية. وتُعد إسرائيل من أوائل الدول التي دمجت الابتكار التكنولوجي بإدارة الموارد المائية عبر تحلية مياه البحر، وإعادة تدوير المياه بنسبة تفوق 85%.
لكن هذا التقدم التكنولوجي لا يُغطي على استخدامها المياه كورقة ضغط على الشعوب تحت الاحتلال.
الاحتباس الحراري وتبخر الآمال
أدت التغيرات المناخية إلى انخفاض معدلات الهطول المطري وزيادة درجات الحرارة، مما ساهم في جفاف العديد من الأنهار والبحيرات. في العراق، جفت أجزاء واسعة من نهر دجلة، وانهارت الزراعة التقليدية في الجنوب.
تشير دراسة نشرتها مجلة Nature (2022) إلى أن منطقة الشرق الأوسط ستشهد بحلول 2050 انخفاضًا في الموارد المائية بنسبة 25% بسبب تغير المناخ وحده، دون حساب العوامل البشرية.
هل يمكن إنقاذ المنطقة من العطش؟
لا يمكن مواجهة أزمة المياه في العالم العربي دون تضافر الجهود السياسية والتقنية. ومن بين أبرز الحلول المطروحة:
• الاستثمار في تحلية مياه البحر باستخدام الطاقة الشمسية (كما تفعل السعودية والإمارات).
• التوسع في إعادة تدوير المياه الرمادية.
• التوصل إلى اتفاقات إقليمية عادلة لتقاسم مياه الأنهار.
• وقف الاستخدام المفرط للمياه في الزراعة التقليدية، واللجوء إلى أنظمة الري بالتنقيط.
لكن الأهم من ذلك هو وجود إرادة سياسية حقيقية، والتخلي عن سياسات الهيمنة المائية التي تهدد استقرار المنطقة.
ربما تكون الحروب القادمة في المنطقة على الماء لا على النفط، كما تنبأ البعض. فالماء هو الحياة، ومن يتحكم فيه يملك مفاتيح الأمن الغذائي والسياسي.
إن أزمة المياه ليست مجرد تحدٍ بيئي، بل هي أزمة وجودية تتطلب التعامل معها بجدية، قبل أن يتحول العطش إلى شرارة نزاعات لا تنطفئ.