سيناريوهات ومآلات الصراع في شرق المتوسط
سيناريوهات ومآلات الصراع في شرق المتوسط: بين التنافس على الثروات ومخاطر المواجهة
الشرق الأوسط – خاص
في قلب التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، يبرز شرق البحر المتوسط كأحد أكثر المناطق سخونة على خارطة الصراعات الدولية. فمع الاكتشافات المتتالية لحقول الغاز الطبيعي، تحولت هذه الرقعة البحرية إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي محموم، يجمع بين المطامع الاقتصادية والحسابات العسكرية والمواجهات الدبلوماسية، ما يفتح الباب على مصراعيه لسيناريوهات مستقبلية محفوفة بالتحديات.
الغاز… شرارة الصراع المحتملة
بدأت ملامح التوتر في شرق المتوسط تتضح منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع الإعلان عن اكتشافات ضخمة للغاز قبالة سواحل إسرائيل، وقبرص، ومصر. ثم تسارعت الوتيرة مع اكتشاف حقل “ظهر” المصري عام 2015، ما دفع دول المنطقة إلى تسريع عمليات ترسيم الحدود البحرية والاستفادة من الموارد المحتملة.
غير أن تعقيدات الجغرافيا السياسية، وتضارب المصالح، وغياب اتفاق شامل لترسيم الحدود البحرية وفق القانون الدولي، فجر خلافات حادة بين عدة أطراف: تركيا واليونان، تركيا وقبرص، تركيا ومصر، وكذلك بين القوى الكبرى الداعمة لهذه الأطراف، لا سيما الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة.
المحور التركي: طموح إقليمي ورفض للواقع البحري
تتمسك أنقرة برؤية مغايرة لترسيم الحدود البحرية، ترتكز على اتفاقها المثير للجدل مع حكومة الوفاق الليبية عام 2019، الذي يمنحها نطاقًا بحريًا واسعا يمر شرق المتوسط، ويتقاطع مع مطالب اليونان ومصر. وتصر تركيا على أن لها الحق في تقاسم موارد الغاز، رافضة ما تسميه بـ”العزلة الجيوسياسية” المفروضة عليها من قبل محور خصومها الإقليميين.
وقد دعّمت أنقرة موقفها بسلسلة مناورات بحرية، وإرسال سفن استكشاف إلى مناطق متنازع عليها، ما أثار حفيظة أثينا وقبرص، ودفع الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات رمزية على أنقرة، دون التوصل إلى تسوية نهائية.
المحور المقابل: مصر واليونان وقبرص وتحالف الطاقة
على الجهة الأخرى، عززت كل من مصر واليونان وقبرص تعاونهما السياسي والاقتصادي، وأبرمت اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية، مدعومة برؤية قانونية تستند إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي لم توقّع عليها تركيا.
في هذا الإطار، ظهر منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) كمظلة إقليمية للتعاون، بعضويّة دول عدّة بينها مصر، اليونان، إيطاليا، الأردن، فلسطين، إسرائيل وقبرص، مما شكّل تحالفًا فعليًا يستثني تركيا ويثير مخاوفها من التهميش.
أدوار القوى الكبرى: مصالح متقاطعة وأجندات متداخلة
الصراع في شرق المتوسط لا يقتصر على أطرافه الإقليميين فحسب، بل يثير اهتمام القوى الدولية الكبرى. فروسيا تسعى للحفاظ على نفوذها في سوريا وضمان خطوط الغاز نحو أوروبا. والولايات المتحدة تدعم استقرار الحلفاء التقليديين، لكنها تحرص على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع تركيا، الشريك في الناتو.
أما الاتحاد الأوروبي، فهو منقسم: فرنسا تتبنى موقفًا متشددًا ضد أنقرة، بينما تفضل ألمانيا الوساطة والحوار، في حين تميل إيطاليا إلى الحياد الإيجابي. وقد ساهم هذا التباين في إضعاف موقف بروكسل أمام تصعيد أنقرة.
السيناريوهات المستقبلية: بين التهدئة والانفجار
1. التهدئة عبر الحوار الإقليمي والدولي
قد يشكل استمرار الوساطات الأوروبية ووساطة واشنطن، إلى جانب الضغوط الاقتصادية على الأطراف، دافعًا نحو التهدئة المؤقتة. وقد تسهم مبادرات مثل فتح حوارات أمنية مشتركة، وتفعيل آليات فض النزاع في الإطار الدولي، في تأجيل الصدام المباشر.
2. التصعيد المحدود أو المناوشات البحرية
يبقى احتمال حدوث مواجهات بحرية محدودة واردًا، خاصة في ظل النشاطات العسكرية المتزايدة. مثل هذا السيناريو قد يُستخدم كورقة ضغط، لكنه يحمل في طياته مخاطر تحول المناوشات إلى نزاع مفتوح يصعب احتواؤه.
3. اتفاق إقليمي لتقاسم الموارد
على المدى البعيد، يمكن أن يقود الضغط الدولي والحاجة الاقتصادية الماسة إلى اتفاق إقليمي جديد لتقاسم الموارد بشكل عادل. يشترط ذلك تنازلات سياسية وتحديث آليات التعاون في إطار القانون الدولي، وهو سيناريو محتمل لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية قوية.
4. تدويل النزاع وتزايد التدخلات الأجنبية
في حال فشل الحلول الإقليمية، قد يتجه النزاع نحو مزيد من التدويل، ما يفتح المجال لتوسع التواجد العسكري الأجنبي، وتحول المنطقة إلى ساحة تنافس دولي على حساب السيادة الوطنية للدول الساحلية.
الخلاصة: شرق المتوسط أمام مفترق طرق
يقف شرق المتوسط اليوم أمام مفترق طرق حاسم. فبينما تزخر مياهه بثروات يمكن أن تعزز التنمية الاقتصادية وتدعم التعاون الإقليمي، تظل احتمالات الانزلاق إلى مواجهات مفتوحة قائمة في ظل تصاعد الخطابات القومية وتشابك المصالح الدولية. إن تفادي التصعيد وفتح قنوات الحوار هو السبيل الوحيد للحفاظ على أمن المتوسط واستقرار دوله.
ويبقى السؤال المطروح: هل تنتصر لغة المصالح والتعاون، أم تعلو أصوات المدافع في مواجهة لا رابح فيها؟