العالم يشتعل اقتصاديًا: نزاعات جديدة تشعلها الصين وأمريكا وتربك أوروبا
بينما لا تزال آثار الحروب التقليدية تُلقي بظلالها على العالم، بدأت ساحة جديدة للاشتباك تتشكل… ليست ساحتها الجغرافيا بل الأسواق، ولا وقودها الجيوش بل البيانات والرقائق والسياسات الحمائية. النزاعات الاقتصادية لم تعد مجرد خلافات تجارية، بل صارت أدوات صراع ناعم بين القوى الكبرى، أبرزها: الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي.
أمريكا والصين: من التعريفات إلى التكنولوجيا
في عام 2018، دشّن الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب حربًا تجارية مفتوحة مع الصين، سرعان ما كشفت عن صراع أعمق على قيادة العالم الاقتصادي. اليوم، لا يقتصر التنافس على الصادرات والواردات، بل يمتد ليشمل الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس، وحتى سباق العملات الرقمية.
واشنطن ترى في بكين خصمًا لا يستهان به، خصوصًا بعد مبادرة “صُنع في الصين 2025″، التي تهدف لتحويل العملاق الآسيوي إلى مركز عالمي للتكنولوجيا الفائقة. ومن هنا جاءت العقوبات على شركات صينية كبرى مثل “هواوي”، ومحاولات حظر تطبيق “تيك توك”.
أوروبا… بين مطرقة الاقتصاد وسندان التحالف
أما أوروبا، فهي تقف بين شريكين يصعب إرضاؤهما معًا. فالصين شريك تجاري استراتيجي، وأمريكا حليف تاريخي لا غنى عنه. وجد الاتحاد الأوروبي نفسه مضطرًا للبحث عن “سيادة استراتيجية” تُمكّنه من حماية مصالحه في زمن التكتلات.
تبنّت بروكسل خطة “الاتفاق الأخضر”، لتقود التحوّل العالمي نحو الطاقة النظيفة، لكنها في الوقت ذاته فرضت آليات ضريبية تُشبه الإجراءات الحمائية، ما أزعج شركاءها في بكين وواشنطن على حد سواء.
الطاقة والمعادن: وجوه جديدة للنزاع
حرب أوكرانيا أعادت رسم خريطة الطاقة العالمية. أوروبا تسعى للخروج من عباءة الغاز الروسي، والصين تبحث عن عقود طاقة طويلة الأمد، وأمريكا تسوّق لنفطها وغازها بأسعار حرة.
إضافة إلى ذلك، تمسك الصين بيدٍ قوية على سوق المعادن النادرة، التي تدخل في صناعة كل شيء، من السيارات الكهربائية إلى الطائرات المسيرة، ما يدفع الغرب لإعادة التفكير في مصادر موارده.
العملات الرقمية: من يملك المستقبل؟
أحد أكثر فصول النزاع تعقيدًا يتمثل في سباق العملات الرقمية السيادية. الصين قطعت شوطًا كبيرًا في تجريب “اليوان الرقمي”، وتسعى لتقليص اعتمادها على الدولار في التبادلات التجارية الدولية، ما يثير مخاوف أمريكية من تراجع هيمنة العملة الخضراء.
البريكس والحزام والطريق: من ينافس من؟
في موازاة ذلك، تستثمر الصين بثقلها في مبادرة “الحزام والطريق”، التي تربطها بأكثر من 60 دولة. في المقابل، تحاول أمريكا صياغة تكتلات مضادة، مثل شراكات البنية التحتية أو تحالفات تكنولوجية مع أوروبا واليابان.
أما مجموعة “البريكس”، التي تضم الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، فهي في طريقها للتوسّع، وربما لتقديم نظام اقتصادي موازٍ لما تقوده أمريكا وأوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ماذا ينتظرنا؟
السنوات القادمة ستكون حُبلى بالتحولات. العالم يتجه نحو “نظام اقتصادي متعدد الأقطاب”، وقد تتراجع العولمة لصالح إنتاج محلي أو إقليمي أكثر أمنًا. العملات الرقمية ستُعيد تشكيل مشهد المال، والصراعات الاقتصادية لن تتوقف عند حدود “الحرب التجارية”، بل قد تُفضي إلى تفكك تحالفات دولية كبرى.
خاتمة… هل من فرصة للتعاون؟
رغم تصاعد التوتر، لا تزال هناك نافذة للتعاون. التحديات العالمية — من تغير المناخ إلى الأوبئة — تُحتّم على هذه القوى التعاون، لا التصادم. لكن حتى ذلك الحين، ستظل ساحة الاقتصاد العالمي تعجُّ بمناوشات تُشبه الشطرنج: هادئة في ظاهرها، لكنها مصيرية في مآلاتها.