#1  
قديم 06-30-2013, 11:38 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي النقد الأدبي في المراسلات بين نازك الملائكة وإبراهيم العريض


الدكتور أحمد مطلوب

(1)
عرف العرب الرسائل منذ القديم، وكانت رسائل النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي – التي دعاهم بها إلى الإسلام- من أشهر الرسائل بعد البعثة المحمدية.
وتوالت رسائل الخلفاء والولاة، وبلغت أوج ازدهارها في العصر العباسي الذي أخذت فيه كلمة "الرسالة" عدة مناح:
1- الرسائل اللغوية التي أصبحت فيما بعد أهم موارد المعاجم اللغوية.
2- الرسائل التي كانت كُتباً موجزة، ومن أشهرها رسائل الجاحظ، وإخوان الصفا، وابن حزم الأندلسي.
3- الرسائل الديوانية التي يصدرها الخلفاء والأمراء والولاة فيما يخص شؤون الدولة، وهي كالمراسيم والقرارات في العصر الحديث.
4- الرسائل الإخوانية والأدبية التي يتداولها الأدباء والمحبون بينهم، ومنها رسائل الشريف الرضي وأبي إسحاق الصابي.
وعُرفت الرسائل في الأدب العربي الحديث، وتبادل الأُدباء والمفكرون والعلماء الرسائل، ومنها الرسائل المتداولة بين: أحمد تيمور والأب أَنستاس ماري الكرملي، ومي زيادة وجبران خليل جبران، ومحمود أبو رية ومصطفى صادق الرافعي، وفدوى طوقان وأَنور المعداوي، وعبدالخالق فريد والأُدباء، وغيرها من الرسائل المنشورة، أو التي ما تزال طيَّ الكتمان.
وفي هذه الرسائل مساجلات لغوية وأَدبية وفكرية تُلقي ضوءاً على كثير من القضايا التي كانت تشغل بال المتراسلين، وقد أصدر (نادي العروبة) في البحرين سنة 1996م "مراسلات إبراهيم العريض الأَدبية 1943-1996" في مجلد كبير احتوى على (618) صفحة من القطع الكبير، وفيه مئات الرسائل التي تبادلها مع الأدباء والأصدقاء.
في هذا المجلد خمس رسائل متبادلة بين نازك الملائكة (من العراق) وإبراهيم العريض (من البحرين) ففي الثاني عشر من كانون الأول سنة 1951م أَرسلت نازك الملائكة برسالة إلى إبراهيم تشكره على إرساله "أَرض الشهداء" إليها، وأجابها برسالة في الثاني والعشرين من كانون الأول، وردَّت عليه برسالتها في السابع والعشرين من الشهر نفسه، وكتب إليها رسالة ثانية في الخامس عشر من كانون الثاني سنة 1952، وأجابته نازك برسالتها الثالثة في السابع والعشرين من الشهر نفسه والسنة نفسها.
وتُعدّ هذه الرسائل الخمس ثروة نقدية، إذ أَبدى الأديبان الرأي في مسائل ما زال الخلاف عليها قائماً في ساحات النقد والبحث والتأليف.
(2)
تتمثل المسائل التي تَعَرَّضَ لها الأديبان في أهمية النقد الأدبي؛ لأَنه يكشف عن روعة الأَدب أَو زيفه، ويفتح الطريق ويمهده للدارس، ويبعث على التأمل والتفكير. وقد أوضحت نازك تلك الأهمية بقولها: "سَرَّتني رسالتك الممتعة، وشكراً جزيلاً على عنايتك بشعري ونقداتك التي وجهتها، وهو أَمر زاد في قيمة الرسالة، وقَرَّبها إلى نفسي لسببين مهمين:([1])
أولهما: أَنَّ نقدك لشعري يُعَرِّفني إليك، فأَنا أُؤمن بأنَّ النقد الواعي إيجاب في شخصية الناقد على عكس الإعجاب والمديح، فهما – غالباً- سَلْبٌ لا دلالة لهما.
وثانيهما: أَنني أُحب أن أسمع آراء الإخوان النقاد في البلاد العربية في شعري، فهذه الآراء هي الظل الوحيد للذي ألقيه، أو قل: هو الظل الأهم.
ولهذين السببين أَشكرك، وأُعلن استمتاعي"([2]). ولكنها على الرغم من ذلك – كان لها رأيها الذي يخالف رأي إبراهيم، قالت: "ويبدو أَنَّ مذهبي في نقد الشعر يُخالف مذهب الأستاذ كثيراً، فالشعر –عندي- قبل كل شيء عاطفة موحَّدة منغَّمة، ولا مانع من أنْ تحتوي على صور ذهنية ما دام الإطار غنياً بالشعور، أَما أنْ يكتب شاعر قصيدة عاشها بعقله فأَمْرٌ لا أستطيع أَن أتخيل نتيجته – والعياذ بالله".([3])
وسبب هذا الخلاف أنهما لا يتفقان على مدلول المصطلحات الأدبية والنقدية، قالت: "فالظاهر أننا لا نتفق على مدلول بعض الألفاظ كالموسيقى، والعقلية، لذلك سأحتفظ برأيي، وأترك الأخ الكريم يحتفظ برأيه الذي أَحترمه؛ لأنني أعتقد أنَّ الآراء الأدبية لا يمكن أن تكون خالية من الصحة كلياً، ولا صحيحة مطلقاً، ثم أَنَّ تضارب الآراء دليل على حيوية الأُمة وآدابها".([4]) ولكنها اتفقت مع إبراهيم على أنَّ الموسيقى الشعرية "لا تنبع من الألفاظ وإنما من امتزاجها بسياق المعاني وأصدائها وظلالها".([5]) ثم قالت: "وقد سَرَّني رأيك حين عثرت عليه في الكتاب،([6]) حتى وضعت تحته خطا، ووجدت في شعرك نماذج كثيرة من هذا الامتزاج الذي هو أعلى ما يصله التّعبير الشعريّ".
وقد يشير هذا الرأي إلى أن إيقاع القصيدة مرتبط بمعناها وغرضها، وهو ما ذهب إليه اليونانيون والرومانيون حين ربطوا بين الوزن وغرض القصيدة، وما ذهب إليه الفلاسفة المسلمون كالفارابي وابن سينا، وما تَعرَّضَ له حازم القرطاجنيّ من العرب القدماء، والدكتور عبدالله الطيب من العرب المعاصرين. ([7])
وأبدى إبراهيم رأيه في المذهب الشعري الذي سلكته نازك وبشَّرت به في مقدمة ديوانها الثاني (شظايا ورماد) حين تحدثت عن أَوزان الشعر، وقالت: إنَّ ترتيب تفاعيل الخليل الجديد "يُطلق جناح الشاعر من ألف قيد" وإن تغيير القافية يفتح الطريق للتَّعبير عن المشاعر والمعاني بحرية واسعة، مهما طالت القصيدة واتسعت آفاقها. ([8])
وأنكر بعض الأدباء والنقاد هذه الدعوة، وكتب إبراهيم إلى نازك ذاكراً ما تحدَّث به في مجلس ألبير أديب ببيروت، وقائلاً: "تحدثنا عن أُسلوبك وأسلوب أُختك الشاعرة فدوى طوقان فقلت: إني غير مرتاح لهذا المذهب الجديد الذي أخذت تدعو إليه نازك – كما جاء في ديوانها الأخير-([9]) وهو وجوب الانطلاق من كل قيد في الفنون، بينما الفن –كل فن- لا يقوم – في رأيي أَنا- إلاّ على القيود، وضربتُ مثلاً فقلت: هل يجوز لمصور – مثلاً- وقد شرع في رسم صورة كاملة أَنْ يرسم على لوحته الصدر ونصف الوجه ولا يجد متسعاً في اللوحة للنصف الثاني من الوجه، ويعتذر ويقول: إنَّ اللوحة ضاقت عن صورته ولذلك فالأحسن ألاّ تكون للوحة أمامه حدود حتى ينطلق تماماً في مجالي فنه. إنَّ لمثل هذا يقال: "ارسمها في حدودها يا أحمق" هذا إذا لم يكن هو فناناً، أما إذا كان بطبيعته فناناً فهو لا يحتاج إلى هذا القول؛ لأنه يدركه بفطرته. فقال بعض مَنْ حضر: إنَّ النماذج الجديدة هي التي تثبت هذه النظرية. فقلت: إنَّ النماذج الجديدة إِنْ تثبت شيئاً فإنما تثبت أنَّ الشعر يصح أنْ يكون في الوزن والقافية، كما يصح أنْ يكون بدون وزن وقافية – كما ألفها الناس- ولكنها لا تثبت، ولا تستطيع أَنْ تثبت أنَّ الشعر – أو أي فن جميل- يجب أن يأتي مطلقاً من كل قيد".([10])
وأنكرت نازك أَن تكون قد دَعَت إلى التحرر الكامل من الوزن والقافية في الشعر، كما جاء في رسالة إبراهيم- ولذلك كتبت إليه قائلة بعد أنْ ذكرت عبارته: "هذه عبارتك- يا أخي- ويُؤسفني أنْ أقول: إنها مخالفة للحقيقة، ولن أُطيل في الكلام وإنما سيصلك (شظايا ورماد) قريباً... وسترى حين تُعيد قراءة المقدمة أنَّ هذا الحكم مبالغ فيه، ولن تجد في شعري قصيدة واحدة غير موزونة أو غير مقفاة على كل، وأَنا معك في أنَّ القيود تفيد الشاعر كثيراً إلاَّ إذا ثقلت ثقلاً غير طبيعي. ([11]) وأَجابها بقوله: "أَفلا يَسُرّك أَنْ تعلمي رأي أخيك في اتجاهك هذا الجديد؟".([12])
(3)
أُعجب إبراهيم بشعر نازك، وقال في أول رسالة بعث بها إليها: "إني قرأت لك كثيراً وكثيراً، وأُعجبت بروحك، ولم يفتني مؤخراً أن أُلاحظ هذا الاتجاه الجديد الذي نحوتِهِ في أَدبك، فقد ذكرتني قصيدتاك الأخيرتان المنشورتان في (الأديب) بعد عودتك من أميركا بأُسلوب إدغار آلن بو، وبصورة خاصة ترجيعاتك في قصيدتك الأولى([13])، فقد جاءت على غرار ترجيعاته في قصيدته (الغراب) فوددت لو أَلفت نظرك أن هذا الشاعر – رغم كونه كاتباً مفكراً من الطراز الأول – كان يعيش لهزات روحه قبل أن يعيش بومضات عقله، وكان – دائماً- يُؤمن بالموسيقى الشعرية أكثر من إيمانه بالرمزية. فأنشدك الله ألاّ تخمدي هذه الجذوة المتوقدة في نفسك وراء حجاب من دخان. وما كان أعظمك في قصيدتك "أنا":
الليل يسأل مَنْ أَنا؟
أَنا سرّه القلق العميق الأسود
أَنا صمته المتمرد
قنَّعت كنهي بالسكون
ولففت قلبي بالظنون
وبقيتُ ساهِمة هنا
أَرنو وتسألني القرون
أَنا مَنْ أكون؟.([14])
هذا رأي إبراهيم في شعر نازك، وذكر أَنها متأثرة في قصيدتها (لعنة الزمن) بقصيدة (الغراب) -The Raven- لإدغار آلن بوEdgar Allan Poe- وقال: "إن الشعراء إذا عارضوا بعضهم بعضاً في القصائد، أو قلدوا بعضهم بعضاً في الأَوزان فإنما يفعلون ذلك لفرط إِعجابهم بالأَثر الذي يُعارضون. ولا أريد أَنْ أَزيد على هذا شيئاً فتفهمين منه ما أقصد إليه".([15])
ووضّحت نازك ذلك بقولها: "أَما حكمك على قصيدتي (لعنة الزمن) فلا أَظنني أُريد التعليق عليه، ذلك أنَّ هذا حكمك، وأَنا أَحترمه وأحترم حريتك في الحكم، ولا أَظن أَحكامي على شعري ذات قيمة في تقييم هذا الشعر على كل حال، على أَنني أودّ أَنْ ألفت نظرك إلى أن (لعنة الزمن) لا تحتوي على مجرد شبه بقصيدة بو (The Raven) وإنما هي في وزنها تتفق كلياً مع وزن (الغراب) وهي في الواقع إحدى محاولاتي في تطبيق الأوزان الإنكليزية على شعرنا العربي، ولا بدَّ أَنْ تكون لاحظت أَنّ أُسلوب القوافي الذي استعملته هو عين أُسلوب التقفية في (الغراب) وقد استعملت أنا قافية (القاف) مكان (الراء) عند بو لسبب يتعلق بكيان قصيدتي.
هذا كل ما لقصيدة (لعنة الزمن) من علاقة بـ (غراب) بو، وأَرجو ألاّ يكون حكمك مخالفاً لحكمي، والحقيقة أنني أُحب – جداً- أَنْ أَسمع حكمك – أيها الأخ النبيل- في هذا، وسأنتظر أَنْ أَسمعه إنْ أنت رأيت أَنْ تكتب رسالة طويلة جواباً على رسالتي الطويلة. إن لاح لي أنني في (لعنة الزمن) أُشْبه بو، فسآسف على القصيدة؛ لأنني – كما قلت- لا أُحبه كثيراً"([16]). وقالت: إنّ إبداء رأيه في شعرها ليس تطاولاً عليها إذ "ما قيمة النقد – إِذن- إِنْ هو سَمَّى الرأي الأدبي تطاولاً؟". ثم قالت: "أنا – والله- على العكس شاكرة لك أجمل الشكر رأيك الصريح الذي أعتز به، ولا شيء ألطف وأنفع –عندي- من أنْ أسمع ملاحظاتِكَ المفصَّلة على ديوانيَّ اللذين أُرسلهما إليك مع هذا، وهما أَقل ما ينبغي".([17])
وكان إبراهيم قد انطلق في إبداء رأيه من إيمانه بالانتفاع بالآداب الأجنبية، وقد أوضح ذلك بقوله: "وأنا بعد من الذين يؤمنون بالتلقيح في الأدب لا التقليد أو المعارضة، والنفس الإنسانية عالم في ذاتها، وهي هنا غيرها هناك. ومع إيماني بحاجة أدبنا إلى هذا التلقيح فلا زِلْنا في دور التجارب، وما كل تجربة –يا أختي- فرض عليها أن تكون ناجحة، والثمرة لا تأتي بدء اللقاح، وإنما تكون غاية غاياته، وعلى الرائد ألاّ يكذب أهله".([18])
(4)
ذكرت نازك أنَّ لقصيدتها (لعنة الزمن) شبها بقصيدة بو، وأَنها في وزنها، وأُسلوب تقفيتها.
بدأ بو قصيدته (الغراب) –The Raven- بقوله:
في منتصف ليلة موحشة
بينما كنت منهمكاً ومرهقاً
أتأمل العديد من كتب الحكايات القديمة الغريبة العجيبة
بينما كنت أَنوس برأسي أكاد أغفو
فجأة إذ بنقرة
كأنَّ أحداً يطرق الباب بخفَّة
يطرق باب غرفتي
هَمْهَمْتُ: هذا زائر
ثم قال:
هكذا دفعت المصراع بقوة
وإذا بغراب مهيب الطلعة من عصور الورع الخالية
يندفع بكل خيلاء ورفرفة
لم يُلْقِ بأي تحية إجلال
ولم ينتظر أَو يتوقف للحظة ما
بل بجبروت السيد أو السيدة
جثم فوق الباب
ثم قال مخاطباً الغراب:
أيها الغراب المتجهم العتيق
القادم من شاطئ الليل
قل لي ما اسمك الكريم هناك في شاطئ الليل البلوتوني؟
رَدَّ الغراب: لم يَعُدْ لي اسم أبدا.
وختم بو القصيدة بقوله:
وما زال الغراب جالساً جالساً دون حراك
فوق تمثال (بالاس) الشاحب فوق باب غرفتي
عيناه عينا شيطان يحلم
والضوء: من فوقه يصب ظله فوق أَرض الغرفة
وروحي الملقاة في الظلال
السابحة فوق أرض الغرفة
سوف تنقذ: أبدا أبدا (19 [19])
وبدأت نازك قصيدتها (لعنة الزمن) التي نظمتها سنة 1950م بقولها:
كان المغربُ لونَ ذبيح

والأُفْقُ كآبة مجروح
والأشباح الغامضة اللون تجوس الظلمة في الآفاق
واستمرت في رسم هذا الجو الكئيب، ثم قالت:
لكنَّا إذْ كنا نحلم

أَحسسنا شبه صدى مبهم
في الأَمواج الداكنة الصمت سمعنا شبه صدى خفاق
الجنيات المنتقمات
يصعدْن إلينا في عَربات
فأجاب رفيقي: لا، هيهات
ذلك صوت الموج الرقراق
الريح الحالمة البيضاء تمرُّ على الموج الرقراق
وتخادع أسماع العشاق
لأْيَن وتبينا الحركة
ثمة وإذا جثة سمكة
طافية فوق الموج ميتة والشاطئ في إشفاق
وصرخْت! رفيقي أَين نسير؟
لِنعُد، فالجثة هَمْسُ نذير
أرسلها عملاق شرير
إنذارَ أََسى ودليل فراق؟
فأجاب رفيقي: نحن هنا: يحرسنا الحبُّ فأيّ فراق؟

وغرقت هي ورفيقها في (صمت براق) ومشيا، وظلت السمكة تتبعهما، وهي تكبر حتى عادت في حضن الموجة عملاقاً، وصرخت الشاعرة: "رفيقي أي طريق يحمينا من هذا المخلوق، والدرب يضيق ويضيق، والظلمة محكمة الإغلاق". وهربت هي ورفيقها، والسمكة تتبع أرجلهما المرتبكة، وزعانفها السود سدَّت في وجهيهما الأَرجاء، وأصبح كل شيء حولهما سمكة.
وانتهت القصيدة بهذا المقطع:
حتى الأغصان المشتبكة
عادت تُشبه عين السمكة
وتروع خُطانا المرتبكة
والأنجم عادت كالأحداق
والغد والماضي والدنيا وهوانا في تلك الأَحداق
رسبت وتوارت في الأعماق([20])
لقد اتفقت القصيدتان في:
1- رسم جو حزين بدأت به قصيدة بو: "في منتصف ليلة موحشة" وبدأت قصيدة نازك بعبارة "كان المغرب لون ذبيح". واستمر تصويرهما لهذا الجو الكئيب حتى ظهر (الغراب) الذي دق باب بو، وظهرت (السمكة) في قصيدة نازك.
2- اتخاذ (الغراب) رمزاً للشؤم في قصيدة بو، واتخاذ (السمكة) دليلاً على الزمن الذي يطارد الإنسان ويفرق الأحباب، وهو ما أشارت إليه الشاعرة في مقدمة ديوانها (قرارة الموجة) حيث قالت محدثتها: "إن السمكة في قصيدتك رمز للزمن، أي الفراق بين الصديقين، أليس كذلك؟".وأجابتها بقولها: "إني أعتقد أنَّ فراق عشرة أَشهر بين الأصدقاء يجعل من المستحيل أن يعودا أصدقاء". وقالت الشاعرة عن (السمكة): "إنها إنذار أسى ودليل فراق" وما كان للغد والماضي والدنيا إلاّ التواري في الأعماق.
3- استعمال بو ونازك الألفاظ والقوافي التي توحي بالمعنى، إذ كرر الشاعر: nothing more ست مرات، و nevermore إحدى عشرة مرة، وكررت الشاعرة الكلمات: الاستغراق، الأوراق، الأشواق، الأعراق، الأَنفاق، التوّاق، الألاّق، الرقراق، الفراق، الإغلاق، المحاق، الأحداق. وقد جاءت بهذه القافية لسبب يتعلق بكيان قصيدتها، أي التعبير عن المعنى الذي أرادت إظهاره في القصيدة. ([21])
4- الوزن الذي استعملته نازك هو بحر الخبب، ولم تكن محتاجة إلى أن تطبق "الأَوزان الإنجليزية على الشعر العربي" ما دامت بحور الشعر العربي تفي بالغرض. وتأثرها بقصيدة بو يبدو في عدد تفعيلات كل سطر، كما يلاحظ في القصيدتين.
(5)
ويتصل بهذه المسألة الكلام على إدغار آلن بو، فقد قال إبراهيم في رسالته الأولى إلى نازك: "ذكرتني قصيدتاك الأخيرتان المنشورتان في (الأديب) بعد عودتك من أميركا بأُسلوب إدغار آلن بو، وبصورة خاصة ترجيعاتك في قصيدتك الأُولى فقد جاءت على غرار ترجيعاته في قصيدته (الغراب) فوددت أن أَلْفِتَ نظرك أن هذا الشاعر – رغم كونه كاتباً مفكراً من الطراز الأول – كان يعيش لهزات روحه قبل أن يعيش بومضات عقله، وكان يُؤمن بالموسيقى الشعرية أكثر من إيمانه بالرمزية".([22])
لقد اعترفت نازك بتأثرها بقصيدة (الغراب) ولكنها لم تُوافق إبراهيم على ما قاله عن بو، وناقشته في رسالتيها الأخيرتين، وقالت: "وأَنا أستخلص من هذه الجملة بضع فكر مفروزة أودّ الوقوف عند كل منها لحظاتٍ، وسألخصها بأُسلوب مدرسيّ بما يأتي:

1- أَنَّ إدغار بو كاتب مفكر من الطراز الأول.
2- أن الشاعر ينبغي أنْ يعيش بعقله لا بروحه.
3- أن إدغار بو كان لا يُؤمن بالرمزية.
4- ويبدو من علاقة هذه الفقرة بما قبلها أَنك تعتقد أن قصيدتي (لعنة الزمن) موسيقية خالية من المعنى.
ورأيي فيما يتعلق بالنقطة الأولى أن إدغار بو ليس من الطراز الأول في أيّ شيء... حتى أنَّ بعض الأدباء قد قال مرة: "الإعجاب العنيف بإدغار بو دليل على ذهن من الدرجة الثانية" وهذا لا يمكن دحضه بحقيقة مثل كون شاعر كبودلير قد أحب إدغار بو، وترجمه إلى الفرنسية، وعرَّف القراء الأوروبيين بشعره؛ لأن تعليل هذه الحقيقة واضح، فبودلير فرنسي على كل حال تشدهه موسيقى بو العذبة وأجواؤه المسحورة دونما داعٍ لمعرفة عميقة باللغة الإنجليزية. هذا هو ملخص السر كله، وهو – أيضاً- يمكن أنْ يكون تعليلاً لحبنا نحن لإدغار بو – أعني بكلمة (نحن) العرب- فأنا كما تلاحظ لست مولعةً بالشاعر، وإنْ كنت أحب أجواءه وموسيقاه، وهو كل ما تعلمت منه حتى هذه اللحظة".(23[23])
وقالت إنَّ بو ليس كاتباً مفكراً من الدرجة الأولى فقصصه "مجموعة انطباعات منحرفة تنم عن مزاج شاذ، وملكة قصصية ضعيفة، تلتمس التأثير في القراء باستعمال المخوفات الصبيانية كنهوض امرأة ميتة من قبرها بعد دفنها بأسابيع، وكقط ينقلب إلى شبح – فيما أتذكر. أرجو مراجعة قصةThe blache cat))،(24[24]) وكغرفة لا باب لها ولا نوافذ، وأُفق أصفر يجري فيه نهر من دم، وتمرُّ الرياح على أزهار تعول كلما لامستها الريح، ومثل لايجياLigeia (25 [25])ذات العينين اللتين كانتا غير بشريتين في سعتهما. وأظنك تُقرني على أن السبك في هذه القصص يقربها من المقالة essay – غالباً-، وأنها بمجموعها أشبه بالقصص البوليسية لولا الأسلوب الشعري الذي صاغها به بو، أما أنَّ بو مفكر فلا أظنني أملك دليلاً عليه، كل ما أعرف لبو بضع مقالات في النقد لا قيمة كبيرة لها".(26[26])
وقالت: إن بو لم يكن من شعراء المذهب الرمزي؛ لأنه لم يكن موجوداً عند ظهور الرمزية، إذْ وُلِد سنة 1809م ومات سنة 1849م،(27[27]) في حين أن نشأة المدرسة الرمزية مقترنة بطبع (أزهار الشر) لبودلير سنة 1857م، أي أنَّ بو ماتَ قبل هذا التاريخ بثلاثين عاماً.
وقالت: "لا أدري كيف يمكن أنْ تقول إن إدغار بو "كان لا يؤمن بالرمزية" على أنَّ الذي يمكن أنْ نقوله في تخريج هذه العبارة إنَّ الرمز كان موجوداً منذ القديم، وشعر بو يحتوي على عناصر رمزية كثيرة"،(28[28]) وانتهت إلى:
1- أنَّ بو مات قبل وجود المذهب الرمزي.
2- أن الرمز غير الرمزية.
3- أن شعر بو يحتوي على عناصر رمزية.
وناقشت عبارة إبراهيم وهي أنَّ بو "كان يعيش بومضات روحه قبل أنْ يعيش بعقله"، وقالت: "الذي يلوح لي من هذه العبارة التي جاءت في سياق تحذير الأخ لي من اتخاذ بو نموذجاً أنه يقصد أنْ يقول إنّ الشاعر ينبغي أنْ يعيش بعقله، وهنا –أيضاً- أقف مخالفة. ويبدو أن مذهبي في نقد الشعر يخالف مذهب الأستاذ كثيراً. فالشعر – عندي- قبل كل شيء عاطفة مُوَحَّدة منغمة، ولا مانع من أنْ تحتوي صورة القصيدة على صور ذهنية ما دام الإطار غنياً بالشعور. أما أنْ يكتب شاعر قصيدة عاشها بعقله، فأمرٌ لا أستطيع أنْ أتخيل نتيجته والعياذ بالله". ثم قالت: "لا أظن عيب شعر بو أنه كان عاطفياً لا عقلياً" وإنما "هو سطحية تفكيره وإحساسه، كأنه يفقد أحاسيسه في التماسه للأجواء المثيرة، وهو التماس متعمل – كما تعلم-. وقصة قصيدة (الغراب) مشهورة فقد بقي ينقحها وينقحها طيلة زمن ممتد حتى انتهت إلى صورتها الأخيرة التي نعرفها اليوم.([29]) ومن هذا يبدو أنني أرى عيب شعر بو نقص العاطفة من حيث تراه أنت انشغالاً بالعاطفة عن التفكير".([30])
واستدرك إبراهيم ما قاله عن بو من أنه كان "كاتباً مفكراً من الطراز الأول..."، قال:"وأنا لا أغفر لنفسي كيف وقع هذا الاشتباه فقد استخلصت من هذه الجملة بضع فكر مفروزة لخصتها لأخيك". وذكر النقاط الأربع التي ذكرتها نازك في رسالتها، ثم قال: "فإذا كان هذا هو ما استخلصته من عبارتي فإني آسف على قصور بياني عن تعبير ما أردتُ، ولولا أنك علقت عليها نتائج كبيرة – بله حكمي على شعرك- لما كان يهمني الموضوع كله، فالذي كنت أقصد بثه من وراء تلك العبارة هو:
1- أنك تحاولين تقليد إدغار آلن بو- ليكن في الأوزان – فلا بدَّ أنَّكِ معجبة به.
2- أن هذا الشاعر جدير بالإعجاب حقاً، ففي شعره موسيقى خاصة ينفرد بها عن سواه.
3- لا أستطيع الحكم على مدى توفيقك في تقليد هذه الأوزان، ولكني أرى ومضات العقل في شعرك الأخير طاغية على هزات الروح.
4- التوفيق في مباراة هذا الشاعر –لا غيره- يجب على من يباريه أنْ يُؤمن بالموسيقى الشعرية –مثله- أكثر من إيمانه بالرمزية، وإلاّ كانت المجاراة باطلة.
5- وهذا يستتبع حتماً أنَّ الأوزان تجعل للقصائد كياناً خاصاً، فلا يصلح كل وزن لكل شيء.
كنت آمل أنَّ هذا هو رأيك – في رسالتك الأُولى- ولذلك بنيت عليه"، ثم قال: "أمّا كون اعتقادي بهذا الرأي –في إدغار بو ككاتب- يجعلني عند بعض الأدباء صاحب ذهنية من الدرجة الثانية، فهذا مما لا أهتم له؛ لأني ما أخذت على نفسي فرض رأيي على أحد".
واستمر في مناقشة نازك وقال: "أين أنت عن قصصه في عالم الإجرام التي فتح فيها هذا الكاتب الباب على مصراعيه لكتاب هذا العصر من الإنكليز والأميركان... أفيقال في كاتب مَهَّد السبيل لمن جاء بعده:
1- في أوزانه الشعرية.
2- في قصصه الزاخرة بالعناصر الرمزية.
3- في قصصه الإجرامية التي تأتي –على قلتها- على رأس كل ما يكتب في موضوعها حتى الآن...
أفيقال فيه: إنه كان ذهناً من الدرجة الثانية...؟ ثم إذا كانت هذه تهمة يُؤاخذ بها بو، فما قولك في بودلير الذي ترجمه إلى نفسه قبل أنْ يترجمه إلى الأوروبيين، ألم يكن كل شعر هذا الأخير "مجموعة انطباعات منحرفة تنم عن مزاج شاذ" فلماذا أفسح له المكان على رأس المدرسة الرمزية؟ ثم تقولين في صدد تعليل حب الإنكليز لإدغار بو بأنَّ موسيقى بو العذبة هي التي تشدهم دونما داعٍ لمعرفة عميقة باللغة الإنكليزية. فهل تعلمين أنَّ الإنكليز كان عليهم أنْ ينتظروا عشرات السنين حتى جاءهم ناقد ألماني فعرَّفهم بحقيقة عظمة شاعرهم شكسبير، ومعنى هذا أنَّ الإنكليز مدينون للأجانب بالفضل في كل شيء حتى في تقرير أدبهم الذي هو روح الأُمة"([31])
وعاد إلى الرمزية التي قال: إن بو يؤمن بها، ورأى أنَّها "لا تلتئم بحال من الأحوال مع الومضات الفكرية، وإنما تنهض بجمالها الموسيقي"، وأنَّ "الشعر الذي يقتصر على الرمزية دون الموسيقى لا يكون – يا أختي- إلاّ جافا... لأنَّ الرمزية في حقيقتها موسيقى صور، ورقص أشباح".([32])
ولم تتوقف نازك عن مناقشة إبراهيم في شاعرية بو، إذ عادت إليه في رسالتها الثالثة، وقالت: إنّ حكمها على بو من أنه كان "ذهنا من الدرجة الثانية" ليس حكمها وحدها وإنما هو "حكم النقاد الإنكليز، وقد أشار إليه هارفي آلن في تصديره للطبعة الكاملة التي أصدرتها إحدى السلاسل الأدبية في أميركا من أعمال بو شعراً ونثراً، وهو –أيضاً- الحكم العام على بو حتى في أميركا".([33])
وأعادت بعض ما قالته عن بو في رسالتها السابقة، ولتؤيد رأيها في شعره، ترجمت قصيدته (الأجراس): ([34]34)The bells))
كل صوت يطفو من حناجرهم الصدئة أنَّة
والناس – آه الناس- أولئك الذين يعيشون في البرج وحدهم
الذين يقرعون يقرعون يقرعون
بتلك الرتابة الغامضة
ويحسون بالمجد وهم يلقمون القلب البشري حجراً هكذا
إنهم ليسوا رجالاً ولا نساء

إنهم ليسوا وحوشاً ولا بشراً

إنهم أغوال وملكهم هو الذي يقرع
وقلبه المرح يمتلئ بنشيد الأجراس
وهو يرقص، وهو يصرخ ممسكاً: الوحدة الوحدة الوحدة
نشيد الأجراس الأجراس الأجراس
ممسكاً الوحدة الوحدة الوحدة لخفقات الأَجراس
للأجراس للأجراس للأجراس
لبكاء الأجراس ممسكاً الوحدة الوحدة الوحدة
وهو يدق يدق يدق لانثيال الأجراس
للأجراس الأجراس الأجراس لدقات الأجراس
للأجراس للأجراس للأجراس للأجراس
لأنين الأجراس وآهاتها
علقت نازك على هذه القصيدة بقولها: "لست أَدري كيف يمكن أَنْ يختلف اثنان في قيمة قصيدة كهذه، إنها ليست أكثر من مجموعة مؤثرات صوتية لا قيمة شعرية لها، وقد التمس بو التأثير فيها بالتكرار([35])، وهو – أيضاً- أُسلوب صبياني. نعم التكرار رائع في مكانه، وكلنا نتذكر كلمات (لير) الخمس المحزنة:
" never, never, never, never, never" وصرخات (ريجرد الثاني) ولكن هذا شكسبير، هو هو الحياة كلها في مسرحياته، أَما أجراس بو!! إني أذكر في هذا الصدد دعابة رائعة كتبها (كلبانث بروك) – الناقد الأميركي المعاصر في كتاب له وهو يدرس الشعر دراسة تطبيقية- وقد وقف عند قصيدة (أُولالوم) وهي من أعذب قصائده، وقد استعمل فيها هذا الأُسلوب الصبياني في التأثير، وكان حكمه قاسياً على بو كالعادة.
نتسائل لو أَنَّ بو نظم قصيدة (ملتون) ([36])Paradise Lost ماذا تراه كان يصنع منها؟ وقد أَجاب عن السؤال بأن كتب مقطعاً منها على طريقة بو فكانت فكاهة بليغة وقفت عندها طويلاً مفكرة".([37])
وأَرادت أَنْ تخفف من قوتها على بو فقالت: " وختاماً أَرجو أَلاَّ تعتقد أَنني أمقت شعر بو، فقد قلت وسأقول إِنه أَحد الشعراء القلائل الذين عنوا بخلق الجو الشعري في قصائدهم – أُستاذه في هذا (كولردج) في رأيي – وهو يحس بوحدة القصيدة إحساساً لذيذاً ينقص أكثر شعرائنا العرب – قديمهم وحديثهم- ولو كان أكثر عمقاً لكان له في إعجاب هذا العصر مكان أبرز".([38])
ولتدفع تلك القسوة قالت: إنها تحب قصيدة (أولالوم)، وإنها تأثرت بها في كتابة قصيدتها (الجرح الغاضب) التي نظمتها سنة 1948م، وهو ما ذكرته من قبل في مقدمة ديوانها (شظايا ورماد) الصادر سنة 1949م، قالت: "وإن كان لا بدَّ من إشارة إلى قصيدة (الجرح الغاضب) فلأقرر أنَّ الأسلوب الطريف في تقفيتها مقتبس مباشرة عن الشاعر الأميركي إدغار آلن بو في قصيدته البديعة Ulalume".([39])
وقصيدة (أُولالوم) ترنيمة لزوجته فيرجينيا Virginia التي توفيت في الثلاثين من كانون الثاني سنة 1847م، وكانت السنة نفسها عام نظم القصيدة:
كانت السماء كالحة وقاتمة

وكانت أوراق الشجر يابسة وذاوية
كانت أوراق الشجر ذابلة وذاوية
كان الوقت ليلاً في تشرين المستوحد
تشرين سنتي الأشد غوراً في الماضي السحيق
القسوة بالغة قرب بحيرة (أُوبر) ([40]) الممتعة
في عمق منطقة (فير) ([41]) الضبابية
والهبوط بالغ قرب بحيرة (أُوبر) المرطبة
في غابة (فير) التي ترودها الغيلان


ثم قال:
أَيَّة ليلة ليلاء من تلك السنة
لم نلحظ بحيرة (أُوبر) المعتمة
لا، ولا غابة (فير) التي ترودها الغيلان
ذلك لأَن قبر حبيبتك (أُولالوم) يرقد هنا
ثم أن قلبي قد أصبح كالحاً وقاتماً
كأوراق الشجر اليابسة الذاوية
كأوراق الشجر الذابلة الذاوية
ثم صِحْتُ: لا بدَّ أنه تشرين
تشرين تلك الليلة نفسها من السنة الماضية (42 [42])
وقالت نازك في قصيدتها (الجرح الغاضب):
أَغضب أغضب لن أحتملَ الجرح الساخر
جرح قد مرَّ مساء الأمس على قلبي
جرح يجثم كالليل المعتم في قلبي
يجثم أسودَ كالنقمة في فكر ثائر
جرح لم يعرفْ إنسان قبلي مثله

لن يشكو قلبٌ بشريٌّ مثله

واستمرت في رسم هذا الجو الكئيب، ثم قالت:
ومن الأَعماق تصاعد صوت مخنوق
يهتف في حزن في جزع: كيف أبوح؟
ليت الجرح المظلوم إلى الليل يبوح
قد يثأر لي، مطرٌ ورعودٌ وبروق
ورأيتُ على الأفق المخضوب بفيض دمي
شبحاً تفتَرُّ على فمه قطرات دمي
عيناه الزرقاوان مساء أهوال
ويداه السوداوان ذراعا عفريت
وأحال دياجيري أُحْجِيَّةَ عِفْريت([43])
يُلاحظ في قصيدة نازك:
1- أَنّ الروح القانطة من كل شيء ترسم الكآبة في القصيدة، وهي جو قصيدة بو.
2- التكرار في مطلع القصيدة وهو ما فعله بو حيث كرر بعض العبارات والكلمات.
3- تكرار الكلمة نفسها في بيتين، وهو ما فعله بو في قصيدته.
4- شبح نازك عفريت، وشبح بو الغيلان.
فالجو العام لقصيدة نازك وتقفيتها من تأثرها بقصيدة بو، وقد أشارت هي إلى ذلك في مقدمة ديوان "شظايا ورماد".
(6)
ضَمَّت الرسائل الخمس آراء قيمة، وكانت بداية المساجلة رسالة نازك الأُولى، التي شكرت فيها إبراهيم الذي أهدى إليها (أرض الشهداء) وتطرقت إلى قصيدته التي نشرها في مجلة (الأديب) البيروتية، وقد لاحظت وزنها الذي يندر استعماله في الشعر على الرغم من أَنّه أحد البحور الستة عشر، وقالت: "ولو حدثتك بتأريخ هذا البحر الشعري في نفسي لأدركت سبب سروري بقراءة قصيدتك"([44]). وقالت: إنّ البحر المديد – الذي نظم به قصيدته- من البحور الموحية المملوءة إمكانيات تعبيرية، وقد أدهشها أنَّ "كثيراً من الناس - غير المثقفين شعرياً خاصة- يرونه خلوا من الموسيقى" وأنّها "تعرف" عشرات من الناس يقرأون القصيدة منه فيعدونها مجموعة أخطاء قُصِد بها وزن البحر الخفيف".
لقد أَحبت قصيدة إبراهيم وراقها المطلع:
في جوار الأرز ديرٌ مُطِلٌّ
قممٌ في النور أَمّا المرايا
فإذا الشلال أولُ لحن


شبه خالٍ في بياض الجبالِ
أسفل السَّفح فنبع الظلالِ
عبقري عرفته الليالي


وهذه المقطوعة:
ركعت في الليل ذاتُ مُوح
في خشوع فهي بالليل طيفٌ
وَحْدَها للنور بين يديها
يا له وجهاً كزهر الأقاحي


ردَّ عنها في الصلاة النقاب
ماثلٌ مثلك لولا الشباب
زهرات لا ترى وكتاب
وجبينا غام فيه اكتئاب


وعلَّقت على القصيدة بقولها: "إني أرى باختصار أنَّ الوزن في هذه القصيدة ناجح مناسب لانسياق القصة. وأودّ لو عرفت ما رأي قراء الشعر فيها، فأنا أعرفهم يبغضون البحر المديد، ولا يستسيغون قصيدة تتبعه. ولا أكتمك أنني قد كتبت قصائد كثيرة منه لم أَجْرؤ على نشرها على إيماني بأن وظيفة الشاعر أنْ يقود لا أن يتبع ذوق الجمهور البدائي، ولهذه كله أُهنئك، وربما أَعَدْتُ النظر في قضية نشر قصائدي المديدة التي لم أسمح لها بالظهور بعد".([45])
كان لهذا الرأي وقع حسن على الشاعر، قال: "وقفت طويلاً عند قولك إنك ترين بحر المديد بحراً موحياً مملوءاً بالإمكانيات التعبيرية، وأنا أُوافقك على ذلك، ولا يدهشني أَنَّ كثيراً من الناس يرونه خلوا من الموسيقى؛ لأن ما وضع للمواقف الخطابية التي ألفوها في سواه من الأوزان وبخاصة في الخفيف الذي لا يختلف عنه في الظاهر إلاَّ بسبب واحد في التفاعيل، فلو حذفت – مثلاً- كلمة (قد) من بيت المعري:
" رُبَّ لَحْدٍ قد صار لحداً مرارا"

لتحول الشعر حالاً من الخفيف إلى المديد([46])، ولذلك يعدُّه مَنْ يعدُّه أخطاء قُصد بها وزن بحر الخفيف، ولكنّ بين البحرين – رغم هذا كله برزخا لا يبغيان- فللمحافظة على النغم الموسيقي في بحر المديد علمتني التجربة أنه لا يجوز تدوير البيت أي جعل شطريه يشتركان في كلمة واحدة بأنْ يكون بعضها هنا، وبعضها هناك، كما يجوز في وزن الخفيف الذي يكثر فيه من مثل هذا البيت للمتنبي:
ربما تُحسنُ الصنيع لياليه ولكنْ تكدّر الإحسانا

فالنغم الموسيقي في المديد يضطر الشاعر بحكم حساسيته الفطرية أَنْ يتجنب هذا التدوير، ويجعل كلا من الشطرين مستقلاً بكيانه".
وعقد مقارنة بين المديد والخفيف، وقال: "وليس هذا كل ما هناك، فمن الملحوظ أنّه لا يمكن في ضرب المديد ما يعبرون عنه بالخَبْن([47]) – مثلاً- كما نجد في هذين البيتين للمتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ
ولـو أنَّ الحيــاة تبقــى لحـيٍّ

فمن العجز أَن تكونَ جبانا (نَ جبانا)
لعَدَدْنا أَضلنـا الشجعانا (شُجْعانـا)

فهذا التزاوج في الضرْب بين الحركة والسكون لا يتيسر لناظمه في المديد، ويظهر في أَن هذه القيود وأمثالها – مقابل يسر الأشياء من جواز الزحاف والعلل([48]) في الخفيف – هي التي جعلت معظم الناس لا يَسْتَسيغون قصيدة تنظم فيه بعكس موقفهم من الخفيف الذي يُطلق لناظمه الكلام على رسْله، ولا يقيم في طريقه العثرات التي لا يستطيع غير الفنان تخطيها. فالخفيف أَسْهل البحور، ولا ينظم ناشئ الفتيان من الشعراء – أول أَمره- إلاّ فيه حتى يستقيم عوده، وأطوعها للسانه؛ لأنه يُجيز له من الزحاف والعلل الشيء الكثير. وفي آخر الأمر كان ولا يزال أكثر ملاءمة للأُسلوب الخطابي وليس كذلك المديد الذي يحتفل بموسيقى شعرية عميقة الغور.
أَمس في الحسرة مرت ليالٍ


وغدا نفس الليالي تعود


وعلى كل حال سُررت أَنَّ القصيدة (شمعة تحترق) أثارت في نفسك الحساسة ذكريات حول قصائد لم تسمحي لها بالظهور بعد، ولكن لا بدَّ – هنا- من تذكيرك- وإلاّ كنتُ مثل الذي يخادعك على نفسك- أَنك اليوم تقفين من فنك على مدماك شامخ، فلا يجوز أَنْ تنشري اليوم شيئاً- ولو لنازك القديمة – لا يتقبله ذوق نازك الجديدة المرهفة ومستواها الرفيع".([49])
لقد اتفق الشاعران على أنَّ في وزن البحر المديد إيحاءً وطاقةً تعبيرية، بخلاف ما قاله بعض القدماء والمعاصرين إذ وجدوا فيه ضعفاً وثقلاً، وإنْ كانت فيه رَنَّة شجو وأسى، ورهو ورزانة واحتشام([50]). وهو – فضلاً عن ذلك- قليل الورود في الشعر إذا ما قورن بالبحور الأخرى.

(7)
وأَبدت نازك رأيها في كتب إبراهيم التي أَهداها إليها، قالت: "قرأت (الأساليب الشعرية) وقضيت في ذلك وقتاً ممتعاً أَنست خلاله بدراسة أُسلوبك في نقد هذه الأساليب ومراجعتها، وأَود لو وقفت طويلاً عند آرائك في المتنبي وشعر الحكمة عموماً وذلك لسببين: أولا اعتقادي بأنَّ شعر الحكمة لا يخرج عن كونه شعراً له كل ما للشعر من مزايا، وخصائص. ثانياً وقد فهمت من سياق كلام الأخ أنه يفصل بين شيئين: حكمة وفن، وهما في نظري واحد"([51]).
وإلى هنا انتهت الرسائل المتبادلة بين نازك الملائكة وإبراهيم العريض، ولهذه الرسائل أهمية نقدية لأنها احتوت على مسائل مهمة هي:
1- الاهتمام بالنقد الأدبي وضرورة إبداء الآراء بتجرد.
2- مناقشة دعوة نازك إلى الشعر الحر.
3- متابعة تأثر الشعراء العرب بالشعر الأجنبي وإبداء الرأي فيه.
4- تحبيب البحر المديد الذي قلَّ استعماله قديماً وحديثاً، لما فيه من طاقات تعبيرية.
5- الكشف عن تأثر نازك الملائكة بالشاعر إِدغار آلن بو.
ومما يُحمد لهما أَنَّ مساجلتهما كانت هادئة، إذْ سادها احترام الرأي الآخر، وعدم التعصب المقيت الذي كانت الساحة النقدية تشهده في الخمسينيات – وهي زمن كتابة الرسائل الخمس-. وكانت عبارات الود والتقدير بادية في الرسائل، وإنْ جاءت فيها بعض الوخزات المسربلة بالاحترام، ولكن ذلك لم يثرهما، وإنما سارا في جو هادئ، وكانت نازك تبدأ رسائلها إلى إبراهيم بقولها: "أخي الأُستاذ الشاعر: أرق تحية وأجملها" وقولها: "أخي الشاعر الأُستاذ إبراهيم العريض: "تحية رقيقة" وقولها: "أخي الأستاذ العريض: أرق تحية"، وتختمها بقولها: "المخلصة"، و "أُختك المخلصة" و "أُختك".
وكان إبراهيم قد بدأ رسالتيه بقوله: "أُختي الشاعرة نازك الملائكة: أجمل تحية وأزكاها" وقوله: "أُختي الشاعرة: أعطر تحياتي" ويختمهما بقوله: "من أخيك".
وقد تُظهر الرسائل المتبادلة بين الأدباء والمفكرين والعلماء كثيراً من الآراء السديدة التي لم يسجلها مرسلوها في كتبهم أو بحوثهم أو مقالاتهم المنشورة، وقد تغير تلك الآراء بعض ما تعارف عليه الناس وقالوه في العلن، لأَن الإنسان ينطلق حينما يكتب رسالة، ويبدي فيها الآراء ظناً منه أَنها لن تنشر. ولولا الرسائل التي نشرت في الشرق والغرب في حياة مرسليها أو بعدها ما استطاع المؤلفون والباحثون أَنْ يقدموا فكرة واضحة للعالم أو المؤلف أو الأديب، وأَن يرسموا صورة للحياة العلمية أو الفكرية أو الأدبية في حقبة من الزمن.

المصادر
1- إدغار آلن بو – ديفيد سنكلر – ترجمة سلافة حجاوي – بغداد 1982م.
2- ثلاثة قرون من الأدب – إشراف جبرا إبراهيم جبرا – بيروت.
3- ديوان نازك الملائكة – بيروت 1971م.
4- العروض – تهذيبه وإعادة تدوينه – الشيخ جلال الحنفي – بغداد – الطبعة الثانية – 1405هـ - 1985م.
5- فصول في الشعر- الدكتور أحمد مطلوب – بغداد 1420هـ - 1999م.
6- الفصول والغايات – أبو العلاء المعري – القاهرة 1938م.
7- في الشعر العربي الحديث – الدكتور أحمد مطلوب – بغداد 2002م.
8- المؤثرات الأجنبية في شعر نازك الملائكة حتى عام 1950 – الدكتور سلمان داود الواسطي – (نشر في كتاب نازك الملائكة – إعداد علي الطائي – بغداد 1995م.
9- مراسلات إبراهيم العريض الأدبية – 1943-1996م – نادي العروبة – البحرين 1996م.
10-المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها – الدكتور عبدالله الطيب المجذوب – القاهرة – 1374هـ - 1955م.
11-منهاج البلغاء وسراج الأُدباء – حازم القرطاجني – تحقيق الدكتور محمد ****** بن الخوجة – تونس 1966م.
12-موسيقى الشعر – الدكتور إبراهيم أنيس – الطبعة الثانية – القاهرة 1952م.
13- Edgar Allan Poe – Tales and Poems-, introduction by phily van Doren Stern, may 8, 1945.

([1]) سيذكر كلام نازك وإبراهيم كما جاء في الرسائل، وكذلك النصوص التي ترد في البحث منقولة من المصادر الأخرى.

([2]) مراسلات إبراهيم العريض الأدبية من 74، وسيشار إليها باسم (المراسلات) في هذا البحث.

([3]) المراسلات ص76، وتنظر ص 83.

([4]) المراسلات ص86.

([5]) المراسلات ص91.

([6]) تقصد كتاب إبراهيم (الأساليب الشعرية).

([7]) تنظر هذه الآراء في (فصول في الشعر) ص87 وما بعدها.

([8]) ديوان نازك الملائكة ج12 ص11 وما بعدها، وسيطلق عليه اسم (الديوان).

([9]) يقصد شظايا ورماد الذي صدر سنة 1949م.

([10]) المراسلات ص70.

([11]) المراسلات ص78.

([12]) المراسلات ص84.

([13]) يقصد قصيدة (لعنة الزمن)، تنظر في الديوان ج2 ص242 (قرارة الموجة).

([14]) المراسلات ص70، والديوان ج2 ص112.

([15]) المراسلات ص81.

([16]) المراسلات ص77.

([17]) المراسلات ص78، وتقصد ديوانيها (عاشقة الليل) و(شظايا ورماد).

([18]) المراسلات ص84.

(19) ينظر إدغار آلن بو ص320، و : p,17 Poe: Tales and Poems

([20]) الديوان ج2 ص242 (قرارة الموجة) وهو ديوانها الثالث.

([21]) ينظر في الشعر العربي الحديث ص247.

([22]) المراسلات ص 70.

(23) المراسلات ص 74.

(24) تنظر القصة في: Poe: Tales and Poems p296.

(25) ينظر ثلاثة قرون من الأدب ج1 ص194، و: Poe: Tales and Poems P225.

(26) المراسلات ص75.

(27) ينظر ثلاثة قرون ج1 ص190، وإدغار آلن بو ص27، 386 ومقدمة حكاياته وقصائده: Poe: Tales and Poems.

(28) المراسلات ص 76.

([29]) يقال إنه أعاد نظم القصيدة في ستة عشر شكلاً، وطبعت بأربع صيغ مختلفة. (ينظر ثلاثة قرون من الأدب ج1 ص270).

([30]) المراسلات ص76.

([31]) المراسلات ص81.

([32]) المراسلات ص83.

([33]) المراسلات ص87.

(34) المراسلات ص88، وللدكتور سلمان الواسطي ترجمة لها (ينظر بحثه المؤثرات الأجنبية في شعر نازك الملائكة حتى عام 1950م، المنشور في كتاب (نازك الملائكة ص57) وينظر نص القصيدة الإنكليزي في: Poe: Tales and Poems P634.

([35]) ذكر كلمة الأجراس تسعاً وخمسين مرة..

([36]) الفردوس المفقود.

([37]) المراسلات ص89. وقد جاء في كتاب إدغار آلن بو ص349، أن قصيدة (الأجراس) تركت أثراً كبيراً في نفس الموسيقار رخمانينوف حيث استند إليها في تأليف إحدى سيمفونياته الكورالية.

([38]) المراسلات ص90.

([39]) الديوان ج2 ص18.

([40]) Auber.

([41]) weir

(42) إدغار آلن بو ص345، Poe: Tales and Poems p 624.

([43]) الديوان ج2 ص67 (شظايا ورماد).

([44]) المراسلات ص65.

([45]) المراسلات ص66.

([46]) مع أنهما من دائرتين مختلفتين، فالمديد من دائرة المختلف، والخفيف من دائرة المجتلب.

([47]) الخبن: حذف ساكن في (فاعِلُن) فتصير (فَعِلُن).

([48]) الزخاف: تغيير يلحق بثواني أسباب الأجزاء للبيت، والعلة: تغيير مخصص بثواني الأسباب.

([49]) المساجلات ص71.

([50]) ينظر الفصول والغايات ص 211، منهاج البلغاء ص 268، موسيقى الشعر ص 96، المرشد إلى فهم أشعار العرب ج1 ص150، العروض – تهذيبه وإعادة تدوينه – ص363.

([51]) المراسلات ص91.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الملائكة, الليثي, المراسلات, العريض, النقد, بين, نازك, وإبراهيم


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع النقد الأدبي في المراسلات بين نازك الملائكة وإبراهيم العريض
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 8 05-05-2014 05:29 PM
النقد الأدبي الإسلامي عبدالناصر محمود أخبار ومختارات أدبية 0 05-12-2012 06:45 AM
نازك الملائكة.. رومانسية العذاب Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 3 02-11-2012 10:54 PM
التفكيكية من الفلسفة إلى النقد الأدبي Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-29-2012 07:52 PM
صور من النقد الأدبي عند العلماء عبدالناصر محمود أخبار ومختارات أدبية 0 01-26-2012 09:38 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:07 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59