عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11-26-2012, 09:33 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الباحثين قيمة المناظرات السردية والقصصية، وإن أقروا باتساع الخيال ضمن خصائصها، وفي أحاديثها الحكائية، كما في كتاب أحمد أمين مصطفى (مصر) «المناظرات في الأدب العربي إلى نهاية القرن الرابع» (1984) الذي يؤكد مؤلفه «أن المناظرات كانت سبباً مهماً من الأسباب التي عملت على وضع قواعد علم البلاغة وتأليف صحائف في علم البلاغة، حيث كان المتناظرون حريصين على كلّ ما يمكن لهم عند المستمعين، ويجعل كلامهم يصل أعماق القلوب»([1])، ويفيد هذا الرأي أن أمثال هؤلاء الباحثين لم يلتفتوا إلى القيمة السردية للمناظرات على الرغم من أن غالبيتها تصاغ بأساليب السرد. وثمة آراء مضللة لدى أحمد أمين مصطفى بتأثير الاستشراق حين تعريفه للمناظرة، أو حين حديثه عن نشأتها، جازماً «أن فن المناظرة لم يعرف إلا بعد ظهور الإسلام»([2]).
ثم تطور البحث في المناظرات نحو الاهتمام بما تحمله من أصول الأجناس الأدبية السردية كالقصة والرواية، وفي اكتناز نصوصها للتخييل، كما في كتاب عبد الله التطاوي (مصر) «الجدل والقص في النثر العباسي» (1988). وقد أعلن في مقدمته عن وقفته المتأنية «عند ملامح القص باعتبارها ظواهر فنية متميزة لدى بعض مثقفي العصر ممن أعجبتهم مواهبهم الخاصة، فراحوا يرصدونها فناً جماهيرياً يستمتعون بانعكاساته على الناس»([3]).
وغني عن القول، إن الانتباه لقابليات الجدل القصصية، وهي مادة المناظرات الأساسية، ساعد في معرفة الانتقالات الكبرى في مناهج الكتابة النثرية باتجاه تطور فنّ القصّ، ويوضح التطاوي كيفية تأثير الجدل على تطور عناصر القصة في المقامة المغيرية مثالاً، وتطور أسلوب القص الواقعي في مقامات الحريري من خلال «المقامة الإسكندرانية» وطبيعة القص الخيالي في «رسالة الغفران»، وهي كتابات تندرج في ذلك الجدل الذي استخدم باتساع في الأدب العربي القديم.
2-6-2-5- السيرة الذاتية:
ونشط البحث عن السيرة الذاتية بذاتها، ثم بوصفها سرداً، وأطلق لأول مرة شوقي ضيف (مصر) في كتابه «الترجمة الشخصية» (1956)، وتلاه محمد عبد الغني حسن (مصر) في كتابه «التراجم والسير» (1957). وتعزز البحث في السيرة عبر إقدام نشر سير تراثية أو إعادة صوغها، مثلما فعل فريد جحا ومحمود فاخوري (سورية) في نشرهما «لسيرة ابن سينا» (1981)، أو مصطفى نبيل (مصر) الذي أعاد صوغ بعض السير في كتابه «سير ذاتية عربية» (1992).
غير أن شوقي محمد المعاملي (مصر) خطا خطوات واسعة في البحث عن التراث السردي من خلال السيرة الذاتية في كتابه «السيرة الذاتية في التراث» (1992)، أقر بأن السيرة الذاتية اصطلاح مستحدث، في الوقت الذي رأى فيه أن تراثنا حامل نتاج غزير ينتمي إلى هذا الجنس الأدبي، مثلما لاحظ تسرع بعض النقاد والدارسين في إنكار وجود عدد من الفنون في تراثنا كالقصة والمقالة والسيرة الذاتية، وفي هذا كله شيء من التناقض، سرعان ما بدده إيمانه أثناء دراسته «للترجمة الذاتية في أدبنا الحديث أن مجرى هذا الفن في ثقافتنا العربية موصول لا ينضب، وليس صحيحاً ما يتوهمه بعضهم من أن الذين ترجموا لأنفسهم في العصر الحديث كانوا مقلدين للغربيين في جميع الأحوال»([4]).
غدا المعاملي مدافعاً عن أصالة السيرة الذاتية في الموروث السردي، فانتقد آراء المستشرقين أمثال فرانز روزنتال وكارل بروكلمن، ومن احتذاهم أمثال شوقي ضيف في كتابه «الترجمة الشخصية» (1956)، كما انتقد المعاملي نقاداً ممن سبقوه أمثال إحسان عباس في كتابه «فن السيرة» (1956)، وهي، برأيه، دراسة «لم ترسم الخط البياني لتطور السيرة بالإضافة إلى إغفالها الكثير من النماذج الهامة»([5]).
أوضح المعاملي بعض ملامح تطور السيرة الذاتية في الأدب العربي، فأشار إلى أن استخدام العرب لكلمة «سيرة» أسبق من استخدامهم لكلمة «ترجمة»، لأن أول من استخدم كلمة «ترجمة» هو ياقوت الحموي (ت 626 هـ)، غير أن حصيلة المعاملي من بحثه لم تكن بالشأو الذي طمح إليه نفسه، سواء في التوصل إلى تعريف جامع مانع للسيرة الذاتية، أو في حدود ممارسة العرب لكتابة السيرة الذاتية، وفيها بعض التأثير الفارسي واليوناني المبكر على أن ذلك «تعميم لا يؤيده دليل قوي، فالسير الذاتية قد تعددت مناهجها بعد ذلك، وتباينت أغراضها وغايتها، فمنها ما كتب لاجترار (؟!) الذكريات استمتاعاً باستحضار الماضي، ومنها ما كتب للاعتبار، ومنها ما كتب للتطهير والتخفف من ثورة وانفعال، ومنها ما كتب للتحدث بنعمة الله وشكره على مننه كما... في سيرة عبد الوهاب الشعراني»([6]).
ربما كان كتاب المعاملي هو الأوسع استقصاء للسيرة الذاتية في التراث، ولا سيما السيرة المغمورة أو البعيدة عن الأضواء، كالسير في إطار التكوين الفكري والنتاج العلمي (سير العلماء)، وسير الإحساس بالذات إزاء الكون (سير المتصوفة)، وسير الاعترافات، وسير صور الذات ملتحمة مع الآخرين، كالسيرة المؤيدية ومذكرات الأمير عبد الله بن زيري، وسيرة عمارة اليمني، ورحلة ابن خلدون. ثم محص المعاملي عناصر الفن القصصي في السيرة الذاتية الموروثة، بأدواته النقدية التقليدية، واعتماداً على متواتر القول لنقاد سابقين مثل إحسان عباس، الذي وجه إليه في مقدمته، نقداً قاسياً، بينما أعاد بعض آرائه النقدية (انظر ص 240 على سبيل المثال)، ناهيك عن غلبة الدراسة اللغوية الوصفية لأساليب السيرة الذاتية، غافلاً مصطلحات نقد السيرة كالسرد والحكائية وسواه، مؤثراً التعامل مع أدوات النقد التقليدي، كتقصي الدلالة والدوافع والغايات، والكشف عن أثر الوراثة والبيئة والصدق والصراحة وتصوير الصراع والبناء بعبارات عامة.
ثم وضعت مها فائق العطار (سورية) كتاباً كبيراً عن السيرة في جزأين، الأول «السيرة الفنية في الأدب العربي حتى أوائل الثمانينيات» (1995)، والثاني «فن السيرة الذاتية في الأدب العربي حتى أوائل الثمانينيات» (1997). وقد فعلت العطار، مثل بقية دارسي السيرة الفنية والسيرة الذاتية، فعرفت بالسيرة، وتتبعت نشوئها في الغرب وعند العرب، ودوافع كتابتها عند العرب، وارتباط ذلك بسيرة الرسول الكريم (ص)، وأنواع السيرة العربية القديمة، وموازنة بين السيرة العربية والغربية، والأسباب التي أدت إلى تأخير ظهور السيرة الفنية في الأدب العربي الحديث، ونشأتها وأهم السير الفنية، ومناقشتها من جوانبها المختلفة وتحليلها تحليلاً نقدياً. ودرست في الكتاب الثاني السيرة الذاتية، والسيرة الذاتية العربية ونشأتها في الأدب العربي الحديث، وأهم السير الذاتية عند طه حسين وميخائيل نعيمة وكاظم الداغستاني وسلمى الحفار الكزبري ومراد السباعي، والخصائص الفنية. إن كتاب العطار بجزأيه هو الأوفى والأشمل حتى وقت صدوره، ويتميز عن سواه بتحليلاته الفنية الغنية.
2-6-2-6- العجائب والغرائب:
واهتم الباحثون والنقاد العرب بالسرد العجائبي والغرائبي بذاته أيضاً. إن ثمة عجائبية وغرائبية في كثير من النصوص السردية التراثية، ولكن التراث السردي العربي عرف ألواناً من السرد العجائبي والغرائبي ما تزال موضع إدهاش حتى يومنا هذا، وهي مبثوثة في المصنفات العربية القديمة، ولا سيما الجغرافية أو ما يتصل منها بأدب الرحلات. وقد أعاد عدد من النقاد والباحثين العرب نشر مختارات منها، مثل «عجائب الهند» (1992) ليوسف الشاروني و«جغرافية الوهم» (1993) لحسني زينة، و«ذخيرة العجائب العربية ـ سيف بن ذي يزن» (1993) لسعيد يقطين. وقد ذكر صبري حافظ أن كتاب حسني زينه تعبير عن «الأقاليم التي ابتدعتها المخيلة العربية. تصنع عالماً كاملاً، ينهض من ثنايا تلك المختارات المدهشة، ليرد عن المخيلة العربية الكثير من الاتهامات الظالمة التي لحقت بها»([7]).
وأورد سعيد يقطين في تقديمه لمختاراته أسماء بعض المصنفات الكثيرة في هذا المجال، وحقق بعضها، ونشر مثل «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني في عام 1973.
2-6-2-7- الأسطورة:
وقد اشتدت العزيمة لبحث الأسطورة تالية لعمليات وعي التراث السردي الشعبي والأدبي، ومتداخلة معها، لاكتناه آفاقها في الذهنية العربية من جهة، وتثميراً لإمكاناتها السردية من جهة أخرى. وثمة أبحاث ودراسات كثيرة حاولت الإحاطة بالبعد الأسطوري في المكونات الثقافية العربية وامتدادها المستمر والراهن، وهذا واضح في الأعمال التالية على سبيل المثال، لا الحصر: «في طريق الميتولوجيا عند العرب» (1958) لمحمود سليم الحوت (فلسطين)، و«المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (1970) لجواد علي (العراق)، و«الطوفان في المراجع المسمارية» (1975) لفاضل عبد الواحد علي (العراق)، و«مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» (1976) لفراس السواح (سورية)، و«الأساطير: دراسة حضارية مقارنة» (1979) لأحمد كمال زكي (مصر)، و«البطل في الأدب والأساطير» (1979) لشكري محمد عياد (مصر)، و«ملاحم وأساطير من أوغاريت» (1980)، و«ملاحم وأساطير من الأدب السامي» (1989) لأنيس فريحة (لبنان)، و«من الأساطير العربية والخرافات» (1980) لمصطفى الجوزو (لبنان)، و«إمبراطورية إبلا» (1989) لعلي القيم (سورية)، و«الوعي الجمالي عند العرب قبل الإسلام» (1989) لفؤاد مرعي (سورية)، و«الأسطورة عند العرب في الجاهلية» (1988) لحسين الحاج حسن (لبنان)، و«الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة» (1992) و«العنف والمقدس والجنس في الميتولوجيا الإسلامية» (1994) لتركي علي الربيعو (سورية)، و«موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها» (1994) لمحمد عجينة (تونس).. الخ.
كان خليل أحمد خليل من أوائل المفكرين العرب الذين طرحوا أسئلة الأسطورة على الثقافة العربية الحديثة في كتابه «مضمون الأسطورة في الفكر العربي» (1973). وعلى الرغم من تأثره الواضح بأفكار عالم الإناسة البنيوي المعروف ليفي شتراوس، فإنه مس عدداً من القضايا الراهنة حول حضور الأسطورة في نسيج التعبير الشعبي والسلوك الاجتماعي في الوقت نفسه، على أن الأسطورة، بعد ذلك «تشكل جزءاً مهماً من البنية الأيديولوجية للمجتمع يمكنها من أن تغير أو تؤخر المجتمع حسب موقعها من بنيته الحتمية»([8]) حسب تقديم فؤاد شاهين للكتاب، وما يعنينا هو ارتياد خليل أحمد خليل لمناطق بحث بكر، ولا سيما دراسته للأسطورة بوصفها فلسفة العرب الأولى، من خلال أسطوريتين عربيتين صرف هما «ناقة الله»، و«ارم ذات العماد»، ومتابعته «لمسلسل الأساطير الإسلامية والشرقية الذي ظل يتكرر حتى أواخر العصور الوسطى»([9]).
وثمة رأي قابل للنقاش حول التجارة محوراً للاحتفالية العربية القديمة، مما سيكون مثار أبحاث تالية مثل بحث فكتور سحاب (لبنان) «إيلاف قريش: رحلة الشتاء والصيف» (1992)، وبرهن خليل عن نظرته بتخصيص الفصل الأطول من كتابه «لأسطورية الجنس والتجارة في ألف ليلة وليلة»، وهي نظرة لا تخلو من آثار المثاقفة بالتركيز على الفنطزة والغرائبية.
وتحتل أبحاث فاضل عبد الواحد علي (العراق) أهمية خاصة في الكشف عن السرد الأسطوري القديم، كما في كتابه «الطوفان في المراجع المسمارية» (1975)، ويقدم فيه نصوصاً أدبية وسردية عن قصة الطوفان، لا تسجل فقط «تفاصيل وافية عن هذه الكارثة المروعة التي تعرض لها الجنس البشري في قديم الزمان، وإنما لأنها تحتوي أيضاً ـ وخاصة النسخة البابلية ـ على تفاصيل دقيقة في غاية الأهمية عن معتقدات السومريين والبابليين بخصوص خلق الإنسان»([10]).
وتابع علي جهوده بعد قرابة عقدين من الزمن، في كتابه «سومر أسطورة وملحمة» (1997)، ويحوي الكتاب آخر ما استجد في حقل النصوص الأدبية المسمارية التي دونت بالسومرية والأدبية/ البابلية. ويؤكد في كتابه أن نظرة سريعة على تفاصيل محتويات هذا البحث «ترينا أن السومريين لم يتركوا ضرباً من ضروب الأدب إلا طرقوه: الملحمة والأسطورة، أدب الحكمة وأدب السخرية، كما أنهم ألفوا في الغزل، وكتبوا التراتيل والصلوات لتمجيد آلهتهم، ونظموا قصائد في رثاء ذويهم وأعزائهم، وفي رثاء مدنهم»([11]).
ويؤشر كتاب حسين الحاج حسن (لبنان) «الأسطورة عند العرب في الجاهلية» (1988) إلى آفاق البحث العربي عن الأساطير العربية القديمة، تطويراً لشغل باحثين سابقين أشرنا إلى أبرزهم، فيخصص فصلاً لتعريف الأسطورة ونشأتها، وفصولاً للأساطير الاجتماعية، الحياتية والخيالية، والأساطير الدينية، العبادات المختلفة وعبادة الأصنام. ومن تفصيله للأطوار التي مرت بها الشعوب البدائية، يذكر حسن: عبادة الأشخاص، عبادة الجن، تشكل الجن، عبادة الملائكة، عبادة الروح، عبادة الشمس، عبادة القمر، عبادة النار، عبادة الأشجار، عبادة الكواكب([12]).
غير أن «موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها» لمحمد عجينة هي الأوفى في بابها، إحاطة شاملة بموضوعها: مدخل إلى الأساطير، أساطير الخلق والأصول، أساطير الكواكب، أساطير المظاهر الطبيعية، أساطير الكائنات اللامرئية، أساطير البطولة والمؤسسات الإنسانية، مميزات الكون الأسطوري عند العرب ودلالاته. ولا يماري أحد في الثراء الأسطوري العربي، فثمة تعريفات لكل نوع، وتفريعات لهذه التفريعات، وسأذكر نموذجاً من أساطير المظاهر الطبيعية، فهي تحوي الأنواع الرئيسة التالية:
الأساطير ذات الصلة بالتربة والحجارة والجبال.
الأساطير ذات الصلة بالماء والآبار ومنابع المياه.
الأساطير ذات الصلة بالنار.
الأساطير ذات الصلة بالشجر والنبات.
الأساطير ذات الصلة بالهواء والريح.
أساطير الحيوان.
الأساطير ذات الصلة بالحيوانات الوحشية.
تقديس الحية ـ الجان.
الطير في الأساطير.
حيوانات أسطورية.

أما النوع الفرعي الأخير، فيضم:
الهامة.
أسطورة العنقاء.
العنقاء وخالد بن سنان العبسي.
العنقاء وحنظلة بن صفوان.
العنقاء والبوم وسليمان في قصة رمزية.
البراق([13]).
إنه بحث واسع وعميق عن الموروث السردي العربي، وهو شديد الثراء، في تنوعه وتعدد دلالاته. صحيح أننا عرضنا لأشكال من التراث الأدبي الشعبي، ولكن هذه الأشكال جميعها سردية، وهي في أساس تطور السردية العربية القديمة، وكان ظهر كتابٌ شاملٌ عن «التراث القصصي عند العرب» (1991) لمؤلفه مصطفى عبدالشافي الشوري (مصر) يرى فيه أن هذا التراث ممتد بجذوره في الثقافة العربية وممتد في العصور الأدبية كلها، غير أنه لا يضيف شيئاً إلى جهود البحث عن هذا التراث، لأنه مسبوق وغير دقيق. ومن المفيد أن نشير إلى أن الغربيين أنفسهم صاروا يعترفون بقيمة هذا التراث وتأثيره على تراث الإنسانية عموماً، كما في كتاب ا.ل. رانيلا «الماضي المشترك بين العرب والغرب: أصول الآداب الشعبية الغربية» (1986- وقامت بترجمته نبيلة ابراهيم عام 1999).
2-7- تأصيل النقد القصصي والروائي:
لم تبدأ الاتجاهات الجديدة من فراغ، ولم تتكون فجاءة. وإذا كانت الاتجاهات الجديدة في جوهرها تعبيراً عن نزوع علمي ومعرفي، وتعبيراً عن التطلع إلى التحديث، فإن عشرات النقاد المنتشرين في الوطن العربي قد مثلوا الانعطافة إلى الاتجاهات الجديدة من خلال سعيهم إلى تأصيل المناهج النقدية طلباً للموضوعية والعلم والتقليدية، بمعنى إدراج النقد ضمن تقاليده الأدبية والنقدية، والتأصيل يعني في الوقت نفسه استنهاض الأصول والاستمرار في السعي المشترك لتحديثها. وقد اخترت في هذا المنحى نقاداً ألمعيين عرفوا بجهودهم في تأصيل النقد العربي الجديد في رحلة التحديث الشائكة والمعقدة، لا تشغلهم الاتجاهات الجديدة المغالية، ولا يلتزمون بنهاجياتها، مؤثرين تثمير الأنساق الثقافية والنقدية واللغوية معرفة نقدية أصيلة، بما يتيح في الوقت نفسه المناخ لإدغام الاتجاهات الجديدة في اعتمال الناقد العربي الحديث بتاريخه وذاته، وهذا جلي في أعمال خلدون الشمعة ومحي الدين صبحي وانطون مقدسي (سورية)، وجبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي وإحسان عباس وحسام الخطيب (فلسطين)، وخليفة التليسي (ليبيا)، وعبد العزيز المقالح (اليمن)، وعبد الواحد لؤلؤة (العراق) ولويس عوض وغالي شكري وعز الدين إسماعيل ورجاء النقاش وشكري عياد وعبد القادر القط ومصطفى ناصف وفاروق عبد القادر (مصر) ومحمود طرشونة (تونس) وسواهم. واكتفي بعرض نماذج تمثيلية لشغل بعض هؤلاء النقاد للتدليل على طبيعة التأصيل وشؤونه ومناحيه ومراميه.
وابدأ مع مصطفى ناصف، وهو ناقد صاحب مؤلفات نظرية وتطبيقية في النقد والقضايا النقدية، دعا فيها إلى تطوير التراث النقدي بالاستفادة من المناهج الحديثة، ولا سيما النقد الأنجلوسكسوني في عنايته بالمعنى ومعنى المعنى، والكشف عن المستويات المتعددة لفهم النص، انطلاقاً من النص بالدرجة الأولى. وقد توقفت عند كتاب مبكر له، لأهميته في هذا السياق، ولا سيما نقد القصة والرواية، هو «رمز الطفل في أدب المازني» (1965). إنه عمل ريادي في النقد الحديث للقصة والرواية، لا يقطع وشائجه مع تراث النقد النقدي والبلاغي، ولا يسقط على النص المؤثرات الخارجية، بل يبدأ من الأعمال ذاتها باحثاً عن البعد الآخر للمعنى في دراسة قائمة على مسألة الرمز والاستعارة والمعنى وقضية التفسير. لا يثقل ناصف نقده بالمراجع والحواشي أو التمهيد المنهجي أو معاضلة تنسيب الكاتب إلى اتجاه أو مدرسة أو مذهب معين، مستعيناً بقدر من التعاطف والمحبة، ومتسلحاً برؤية نقدية وبآلياته التفسيرية والشارحة، تلمساً لفكرة أبعاد المعنى. إنه نقد تأويلي يستخدم لغة النقد الموضوعي وبعض إجراءاته، ويثير هذا الشغل مدى نضوج الاتجاهات النقدية. وقد أوضح ناصف أنه ليس معنياً بمجادلة «الذين أحسنوا إلى أدب المازني بدراستهم له، وإنما عناني أن أقدم تفسيراً أو قراءة متميزة بوجه ما فيما أعتقد. ومن حق كل كاتب أن يقرأ قراءات مختلفة، ومن الممكن أن يحمل أدبه على وجوه متنوعة. ومن أجل ذلك وقفت، في بعض الأحيان، عند أعمال معينة تثير مسائل أساسية في فن القراءة وفهم المازني. لم يكن مقصدي ـ إذن ـ هو ما نسميه التكنيك، وإنما قصدت ـ دائماً ـ إلى أن أقرأ النص قراءة متعمقة، أو أن أبحث عن المعنى»([14]).
أعلن ناصف أن هدفه من مناقشة المازني هو قراءة العمل قراءة تحليلية من أجل الكشف عن أغواره ودلالته على عقل المازني([15])، وهو لا يأتي العمل من خارجه، بل من داخله، مقاربة لشبكة علاقاته في مستواها البسيط، والعميق المجازي. وغالباً ما يبعث ناصف في نقده وفرة معرفية قوامها خزانة ثقافية ينهل منها الناقد ما يعين على سبيل القصد وعلى ثراء اللغة بالمعنى. كما في مثل هذا التحديد الصارم:
«مقصد الساخر إذن يختلف عن مقاصد غيره من الكتاب. حقاً إن الكتاب الساخرين يختلفون، كثيراً، في المزاج والتناول. ولكن مقصدهم جميعاً مقصد عملي واحد، هو التأثير في اتجاه القاريء واعتقاداته أو أفعاله»([16]).
وتتضح لغة ناصف في استعماله المحدد لمصطلحات النقد الجديد، الموضوعي في عنوانات فصول كتابه: النظام والتجربة الفردية، التوتر والمفارقة في تجربة الفنان، الحب ومعنى الثقافة، الموت: رمز العودة إلى الطفولة، أبعاد فكرة الموت، المعرفة والتعاطف، متاعب الطريق إلى الفن، المازني الناقد ومشكلات فنه، رمز الطفل. غير أن ناصف أخضع هذه المصطلحات لصوغه الخاص بما يجعل قراءته شديدة الجاذبية والثراء، وبما يساعد على إدغام نقده في جهود جيله التأصيلية. ويفيد مثل هذا الرأي أن الناقد لا يتأثر باتجاه محدد، أو يكون أميناً له.
ووضع حسام الخطيب مؤلفات نقدية كثيرة في نظرية الأدب والأدب المقارن والأدب الأوروبي، ونقد النقد، بالإضافة إلى ثلاثة كتب في نقد الرواية والقصة، هي علامات في مسيرة النقد الأدبي العربي الحديث على تأصيل النقد المخصص لهذه الأجناس الأدبية الحديثة، والكتب الثلاثة، هي «سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية الحديثة» (1973)، و«الرواية السورية في مرحلة النهوض» (1975)، و«القصة القصيرة في سورية: تضاريس وانعطافات» (1982). وقد سمى الخطيب منهجه تكاملياً جديداً، يستند إلى إنجازات النقد الأنجلوسكسوني الجديد، غير أنه يشد الركاب إلى منهجه الخاص خلل تفاعل مكونات شغله النقدي الذي يقوم على التحليل والتفسير والتقييم والتذوق والانتقائية([17])، ومراعاة خصائص الجنس الأدبي المنقود في فنيته ونظامه الداخلي وانتمائه إلى نسق ثقافي تاريخي، وهذا واضح في إيضاحاته المسبقة لمصطلحاته ومنهجه وأهداف دراسته، فهو متمكن من آلياته النقدية، ومتملك لفكر نقدي متواصل مع أصول النقد العربي واستمراريته، بالقدر نفسه الذي يتفاعل فيه مع التراث النقدي العالمي، وربما لهذا السبب كانت دراسته النقدية الأولى المعتبرة بحثاً في «المؤثرات الأجنبية» أمام ناقد معني بالهوية الثقافية لأدبه ولنقده العربيين. إنه مولع بالنقد الأصيل الذي يستجيب لطبيعة الأعمال الأدبية العربية، ويحافظ على محليته وهو يتحرك في فضاء الإنجاز النقدي العالمي الحديث. ولنلاحظ شيئاً من دقته وحدوده الصارمة ولغته النقدية الصافية:
«بالنسبة للمؤثرات الأجنبية، يعنى البحث الحالي بإبراز المؤثرات القصصية المباشرة والتركيز على دراسته الشكل الذي اتخذته في القصة السورية الحديثة، مع إظهار المؤثرات الأخرى الفكرية الفنية بمقدار ما يكون لها من علاقة بالموضوع المدروس. أما المقدمات الطويلة عن تأثير الغرب في الشرق، وعن تاريخ عصر النهضة، وعن التأثيرات العقائدية، فتلك أمور، على الرغم من أهميتها في بحث كالبحث الذي أقدمه، تدخل في نطاق اختصاص باحثين من نوع آخر. ومن واقع الدراسات الأدبية العربية التي قرأتها يخيل إلي أن الباحث الأدبي لا يستطيع أن يعطي في مثل هذه الأمور إلا آراء ذات طابع عام من جهة، ومن جهة ثانية هناك خطر الانزلاق وراء مثل هذه البحوث والتركيز عليها أكثر من التركيز على الظاهرة النوعية المدروسة»([18]).
ومن المأمول ألا يوحي ذكر هؤلاء المؤصلين بأنهم ينتمون إلى اتجاه واحد، فهم يتفقون في الاشتغال على التأصيل، ويختلفون في مناهجهم ويتفاوتون في تمثلهم أو تمثيلهم لهذا المنهج أو ذاك.
مهد الخطيب لنشأة القصة السورية الحديثة وتطورها في إطار القصة العربية، وأجاب عن أسئلة التطورات الثقافية والمؤثرات الأجنبية في المراحل الثلاثة لهذا التطور: المرحلة الأولى (1937-1949)، المرحلة الثانية (1950-1958)، المرحلة الثالثة (1959-1967)، وتقصى الملامح الخاصة للتيار الوجودي وأدب الضياع في القصة السورية، إذ برز التيار الأول ابتداء من الخمسينيات في المرحلة الثانية، بينما شاع أدب الضياع على أقلام القصاصين والروائيين منذ أواخر الخمسينيات في المرحلة الثالثة.
وأورد دراستين تطبيقيتين للمؤثرات الأجنبية من خلال مثالين متباينين هما «في المنفى» (1963) لجورج سالم مقارنة مع «المحاكمة» (1963) لفرانز كافكا، والمثال الثاني هو «العصاة» (1964) لصدقي إسماعيل والمؤثرات الأجنبية، وقد اختارهما مثالاً للتأثر المباشر عند جورج سالم، ومثالاً للأبعاد المختلفة التي تمثلت فيها المؤثرات فكراً وفنّاً. وقد تميز نقد الخطيب، بوجه عام، بتحليله العميق وتقييمه الحصيف لطبيعة العمل الأدبي ولاستهدافه الفكري، كمثل قوله: «الحاكم في رواية سالم، كالقاضي في رواية كافكا، ظل مختفياً ومجهولاً، ولم يستطع أحد أن يعرفه أو يتوصل إليه، وكان يُعرف بأعماله وآثاره، لا بشخصيته، وفي رواية كافكا بوجه خاص تبذل جهود مضنية لمعرفته أو التوصل إليه، وتنتهي بإخفاق تام»([19]).
ويلفت النظر في نقد الخطيب أنه لا يبتسر تحليله، أو يمده فيما لا طائل وراءه في اللغة أو إبداء الرأي، بل يجعل من نقده صوغاً مكثفاً دالاً على طبيعة العمل ومعناه، كما في تحليله لرواية «العصاة»: «إنها رواية أفكار، لا رواية ناس، وحتى من الناحية الكمية الخالصة، يمكن أن نقول إن صفحات المناقشة والتحليل الفكري تغلب كثيراً على صفحات القص، وفي الوقت نفسه تتغلب المادة السياسية حجماً وعمقاً على ما سواها. وإن كان لها منافس آخر في الرواية، وهو المادة السيكلوجية التي حسب لها الكاتب حساباً كبيراً خلال الرواية حتى لنحسب أنه أسرف فيها إسرافاً لا تحتمله رواية ذات موضوع شامل كهذه مما يجعل الحديث عن هذا العنصر يشكل مستقل ضرورياً عند الحديث عن شخصيات الرواية»([20]).
من الواضح، أن الخطيب يستعمل مصطلح «القصة» للدلالة على أشكال النثر القصصي كلها، ما لم يردف المصطلح بوصف «القصيرة» تمييزاً لها من «الرواية». وكذلك فعل في كتابيه التاليين.
انطلق الخطيب على الدوام من إيمانه المطلق بوحدة المناخ الثقافي العربي، وهو ما أكده في كتابه «الرواية السورية في مرحلة النهوض»، فإن أية دراسة إقليمية لابد من أن يفضي بالضرورة إلى بيان عمق الرابطة بين الإطار المحلي والإطار القومي الشامل، بل لابد من أن تفضي إلى تأكيد وجود هذه الرابطة، مثلما أعلن حرصه على هذا المنهج القومي، فليست العبرة في أية دراسة حدود موضوع، وإنما منهجها، ويجب أن يوجه النقد إلى تلك الدراسات التي تتعمد التناول المنفصل للظواهر المحلية، وترتكب في ذلك بالطبع، حسب تعبيره، مخالفة منطقية ومنهجية شديدة، بالإضافة إلى المخالفة القومية.
يشابه نقد الخطيب ما سماه ف. ر. وليمز التمحيص «Scrutiny»، وهو اسم المجلة النقدية التي احتضنت تجربة النقد الجديد، ولذلك ظهرت عنايته الفائقة بالنظرية الأدبية، ولا سيما جلاء الموقف من قضية المؤثرات الأجنبية، ومن قضية التقاليد الأدبية والنقدية وأهمية تجذيرها في الفعالية النقدية. وتتسم أعمال الخطيب النقدية جميعها بهذه السمات: العمق، الوضوح، صواب الاتجاه، والعزيمة في السعي إليه، المعايير الدقيقة، ولا يقصر هذه السمات على مصنفاته التي صُنفت على أنها كتاب، وإنما في مقالاته وأبحاثه التي جمعها في كتاب مثل «القصة القصيرة في سورية: تضاريس وانعطافات»، وقد صرح الخطيب في مقدمة هذا الكتاب بسمة أخرى من سماته النقدية، أعني بها الانتقائية بقوله: «إن المحاولة الحالية ـ بوصفها انتقائية ـ لا يمكن أن تكون حصرية»([21])، ولعل دراسته الأولى عن مجموعة عبد السلام العجيلي «بنت الساحرة» (1948) نموذج طيب لشغله النقدي، فهو يضع العجيلي في مقامه الأدبي، والمجموعة في منزلتها الفنية والفكرية، ثم يفرد حكمه التقييمي، لتكون الدراسة برمتها برهاناً: «إن الفن عند العجيلي هو محاولة دائمة لاستكشاف الحياة وأسرارها، والحياة في عالمه القصصي مفعمة بالغرابة والغموض والتعقيد والتداخل»([22]).
ولا يخفى أن الخطيب دبج بحثاً نقدياً في خمسين صفحة من القطع الكبير ليعلل هذا الحكم التقييمي. وكان البحث الثاني، مختلفاً، تقصى فيه ظاهرة محددة هي «نهوض القصة القصيرة في الخمسينيات»، فحدد منهجه والخطوط العامة للمرحلة ونشاط الإنتاج القصصي، ونشوء تجمعات وقيم أدبية، لتتبوأ القصة القصيرة بعد ذلك الصدارة. ويتبدى في هذا البحث، على وجه الخصوص، اندغام إجراءاته النقدية، ما بين التحليل والتقييم، كما في مثل هذا الرأي المعلل أو المبرهن عليه:
«على أنه يمكن القول إن معظم كتاب المرحلة ادعوا الصلة بالواقعية بطريقة أو بأخرى، وأحبوا دائماً أن يزعموا لقرائهم أنهم منبثقون عن الواقع متحمسون بحرارة مشكلاته. وكما يمكن أن يستنتج من كل ما ذكر سابقاً كان التياران السائدان في الكتابة الأدبية، وهما التيار القومي والتيار الواقعي الاشتراكي، يؤكدان مسوغ وجودهما في التصاقهما الملح بالوقائع السياسية والاجتماعية للمرحلة»([23]).
وتمتح لطيفة الزيات (مصر) من المعين الأنجلوسكسوني إياه، مع ملاحظة التنازع بين اتجاه النقد الموضوعي في مؤلفات مثل «نجيب محفوظ: الصورة والمثال» (1989)، و«فورد مادوكس فورد و.. الحداثة» (1996)، وبين الميل الإيديولوجي في مؤلفات مثل «من صور المرأة في القصص والروايات العربية» (1989).
يوصف نقد الزيات بأنه أشبه بالإضاءة الفنية والفكرية لاحتفائه بالتحليل والتفسير العقلاني المنطقي لعناصر النص، فيعنى نقدها بالتقنية أولاً، وبالمضمون لاحقاً. بيد أن الزيات تسارع إلى إيضاح فترة كتابتها لغالبية مقالات وأبحاث كتابها التي تعود إلى مطلع الستينيات، وكانت في حينها شديدة الافتتان بمنجزات الرواية الأوروبية الحديثة، فاتجهت لدراسة تقنيات الرواية قصد «محاولة فهم المعنى العام للنص، واستنباط هذا المعنى من أطره الفلسفية المدرجة في كل رواية، وتأصيل الأسس الفلسفية لهذه الأطر»([24]).
عمدت الزيات إلى التصريح بأسلوبها النقدي، وهو إلقاء الضوء على عالم نجيب محفوظ القصصي من زوايا جديدة تقنية ومضمونية، ورهنت تحليلها إلى أهمية تحديد قيمة نجيب محفوظ تقنياً وفنياً مثل: «أن يخرج من نطاق التسجيل الفوتغرافي إلى نطاق التصوير الرمزي الذي يغني التجربة الواحدة بمستويات مختلفة من المعاني»([25])، فاستخدم نجيب محفوظ في «اللص والكلاب» (1965) ألوان التكنيك التي تتبع مجرى الشعور، وتمثل إنجازه في «إحداث التوازن المطلوب بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الداخلية، ربما لأول مرة في تاريخ القصة المصرية»([26]).
اعتنت الزيات بوجهة النظر للكشف عن نفسية الشخصية وطريقة تفكيرها، وعالجت بعمق وبنفاذ بصيرة تقنية توارد الخواطر: الذاكرة والحواس والمخيلة، والتفتت إلى المونولوغ الداخلي المباشر وغير المباشر. وانتقلت في مقالتها الثانية إلى معاينة نقدية للشكل الروائي من «اللص والكلاب» إلى «ميرامار» (1967).
رهنت الزيات بحثها عن المعنى بصوابية المنهج وسلامة التحليل وانسجامه، أما استخلاص الرؤية فتؤول إلى انبثاق ما يدعم الوعي من حقائق موضوعية. لا تورد الزيات المعلومات النظرية لذاتها، فتسري في نسغ النص بما ينفع في إضاءة تقنيات الرواية المدروسة التي تتمحور حول «الأغراض» وسبل بلاغتها وإبلاغيتها: وجهة النظر، المنازع النفسية، النجوى والحوار، البنيان والأسلوب، مستويات المعنى، مسار الشخصية، مفاهيم القدرية والحتمية، الحدث كوحدة فنية، نمط التوليف أو «المونتاج الروائي»، وعي الشخصية، النسق الفكري.
ولا تباشر الزيات أيضاً إطلاق أحكامها في تحديد فكر العمل الأدبي أو «غرضه» أو «قصده»، كما في هذا الرأي في رواية «الطريق» (1964): «في ظل هذه الخلفية في الطريق نستطيع أن نتبين مستويين للمعنى، أحدهما سطحي وملموس، والآخر أكثر تأصيلاً، وأن استخفى، وينطوي التعارض بين المستويين السافر منهما والمستقر على مفارقة حادة تعلق على طبيعة الوجود»([27]).
أفلحت الزيات في تأصيل النقد القصصي والروائي العربي الحديث، بمقدرتها العالية على استشفاف مطاوي الروايات ومعانيها، وبفطنتها الرحيبة على رؤية عالم هذا الروائي العظيم وتنازعه بين الواقع والمثال، وتحديد مصادره في فلسفة هيجل.
ونشرت الزيات كتابها «فورد مادوكس فورد و.. الحداثة» (1996) بعد قرابة عقدين من الزمن من كتابته الأولى باللغة الإنكليزية فيما بين عامي 1964 و 1970. وتعطي هذه المقالات فكرة دقيقة عن منهجها الموضوعي الذي ينهض من تراث نقدي أسهم بفعالية في مسعى الحداثة. والكتاب، بعد ذلك، برمته، إضاءة لاتجاه الحداثة من السياق النقدي والتنظيري للأدب في الغرب. تناولت المقالات ما يلي:
فورد رائداً من رواد المفارقة بمعناها الحديث كعنصر بناء في العمل الفني.
مقومات الحداثة في النقد الأدبي لتوماس هيوم وفورد: النظرة للحقيقة.
أسبقية فورد على اليوت فيما يخص العمل الفني وعضويته.
نظرية فورد النقدية ونقده التطبيقي والانفصام بين النظرية والتطبيق.
التفسير التحليلي لروايته شديدة الحداثية: «العسكري الطيب» (1915).
لا يماري أحد في نصاعة لغة الزيات النقدية، ودقتها، وتجنبها لغواية الإنشاء أو الذاتية، وتقليلها من الاعتماد على ملكة التذوق، إذ يندرج نقدها في المنهج الموضوعي. لنلاحظ هذا النموذج: ويتيح «استخدام ضمير المتكلم للراوي أهدافاً أخرى، كما ذهبت في تحليلي للرواية، وهو كحيلة أسلوبية يسبغ على الرواية طابعها البنائي القائم على اللبس والازدواج والأوجه المتعددة للتجربة الواحدة، كما يمدها بعدد لا نهاية له من التعديلات والتبديلات المبنية على المفارقة»([28]).
وبالقدر الذي كانت فيه وجهود الزيات النقدية جسراً إلى الحداثة، فإن كتابها عن فورد مادوكس فورد يسهم في توطين الاتجاهات الجديدة في وعي نظري جديد، وفي تطبيق مقارب لحدود الموضوعية التي تجعل من النقد الأدبي معرفة بذاتها.
بينما كان كتابها «من صور المرأة في القصص والروايات العربية» أقرب إلى التبشير العقائدي على إيمانه بتعدد المناهج، فالغالب على نقدها ميله الاجتماعي والأيديولوجي والتبشير الصريح. يرضي هذا الكتاب التوظيف المباشر للأدب في صراع الأفكار، وهي صفة غالبية هذه المقالات، وهي جعلت من موضوع المرأة مادة دراسية لتبيان مدى تأثير الأفكار في البناء الفني: المرأة كبش فداء، وبلغت وطأة الأفكار حداً أقصى، حين صار النقد الموضوعي أيضاً إلى نقد موضوعات، كمثل مناقشتها لأسلوب زكريا تامر، الذي يمسك «بالحقائق الرئيسية في مجتمعنا العربي الراهن، وهو يخوض أزمته الراهنة في إيجاز موجع، (لاحظ الخروج عن النقد!) وفي تصوير كاريكاتوري صارم يخرج بقصصه من باب التخصيص إلى باب التعميم. وكل قصة من قصص زكريا تامر عالم صغير متكامل مستقل بذاته يوحي إيحاءً دالاً ومكثفاً بالواقع العربي الذي نعيشه. وكل جزئية يتناولها زكريا تامر تحمل بذور الكلية أو بذور المجتمع مكتملاً، والكل هو جماع جزئياته، والكاتب يهتم بكل جزئياته، ويتمتع بالبصيرة التي تتيح له إدراج كل جزئية من الجزئيات في كليتها أياً كانت هذه الجزئية. وزكريا تامر إذ يحكي قصة حب أو زواج، أو جوع أو قتل، أو لحظة صفاء يكدرها عنف، يحكي قصة واقع بأكمله بكل مقوماته»([29]).
وبعد ذلك كله، يبين نقد الزيات كم تفسد الأيديولوجيا والتبشير بها النقد. قد يكون رأيها في قصص زكريا تامر صائباً، ولكنه إسقاط على النص دون تحليل، ولو في حدّه الأدنى، بينما استوى نقدها في كتابيها السالفين في المنهج الموضوعي الذي ترسخ خلال السبعينيات إشارة إلى أصالة نقدية.
ويمثل محمود طرشونة (تونس) نموذجاً آخر من نماذج تأصيل النقد، كما في كتابه «مباحث في الأدب التونسي المعاصر» (1989)، رابطاً بين التراث والحداثة داعياً إلى قراءة شمولية شرع بممارستها منذ دراسته للتراث السردي «مائة ليلة وليلة» (1979).
يعتمد طرشونة في تحليله الأسلوبي تسميات قصصية من التراث، ولا يجازف باستعمال مصطلحات السرد، فالحداثة عنده موصولة بلغتها وخصوصياتها الأدبية والثقافية، ورأى أن تضافر أربعة عناصر من شأنه أن ينشئ أدباً كونياً ذا إشعاع عالمي، وهي:
«- استلهام التراث.
- الانطلاق من قضايا المحيط الذي يعيش فيه الأديب.
- البعد الإنساني.
- القيمة الفنية»([30]).
وقد تحققت هذه العناصر في أدب محمود المسعدي الذي خصه بقسم من كتابه، شمل خمسة أبحاث وحواراً، والمسعدي رائد كبير من رواد التحديث بالموروث السردي العربي. أما منهج طرشونة فعماده التحليل والتفسير النصي أساساً، والعوامل المساعدة قليلاً.
أما محي الدين صبحي (سورية) فيغلب عليه المنهج الموضوعي مع ميل لا يخفى إلى إحلال التذوق مكانة أكبر في التطبيق، وقد خصّ نقد الرواية بكتابين هما «البطل في مأزق ـ دراسة في التخييل العربي» (1979)، و«أبطال في الصيرورة ـ دراسات في الرواية العربية والمعربة» (1980)، وهما يظهران جهده التأصيلي في مقاربة المنهج الموضوعي في بواكير تمثله الأولى في النقد الأدبي العربي الحديث، حيث تمازجه نزوعات نفسية أو فكرية، وأحياناً شعارية حين يجعل من الموقف الاجتماعي قيمة فنية في نقده لليلى بعلبكي، وهي روائية عربية من لبنان شغلت الساحة الأدبية والنقدية في الستينيات في أعمالها «أنا أحيا» (1958)، و«الآلهة الممسوخة» (1960)، و«سفينة حنان إلى القمر» (1962). وتخترق مثل هذه النزوعات كينونة العمل الأدبي، فتنزلق إلى اختلاطات التماهي بين الروائي أو القاص وأبطاله، وإلى التداخل بين مجتمع الرواية، وفعالية الكاتب، كما في هذه العبارة الختامية لنقد أعمال بعلبكي:
«وفي النهاية لابد من الاعتراف، بأن ليلى بعلبكي قد أضافت شيئاً أصيلاً إلى الرواية العربية.. وحاولت أن تكون فتاة طليعية في معركة التحرر الاجتماعي»([31]).
ويشير وضع العنوان ذاته إلى طريقة النقاد الموضوعيين حين يختزل أهم ما في الكتاب، أو يكون عاماً يدل على منحى الدراسة وموضوعها، وفكرة البطل في مأزق تختصر، برأيه، تصور الروائي للوضع البشري في مجتمعه، فالقاسم المشترك الذي يجمع بين أبطال الروايات والقصص جميعها هو أنهم كلهم في مأزق لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. وما يلبث صبحي أن يدلل على ظاهرة غالبة على أبطال التخييل العربي، عندما يجد السرد يتوقف عند المأزق ويترك البطل فيه. ثم يوسع الدلالة لتغدو أوضاع هؤلاء الأبطال مستوعبة لحال الإنسان العربي، إذ تعكس عجزه عن تغيير الواقع، «ولذلك، فإن الأبطال جميعهم يذهبون ضحايا تصديهم لهذا الواقع ومحاولة تغييره»([32])، وهذا أحد وجوه الظاهرة، وما يريده صبحي هو التحليل الذي يكشف عن المعنى، وليس مجرد الأحكام، غير أن هذا التحليل يحيل إلى المجتمع، ويسقط إحالاته على مجتمع الرواية. ولعل صوغ القصة القصيرة لا يبيح النظر إلى مقدرتها الفنية على صوغ مجتمعها الخاص مثل الرواية. وينطوي هذا الرأي على أن صبحي لا يعتني العناية اللازمة بالتجنيس الأدبي أو معياريته، فهو لا يكتفي بالنص، بل غالباً، يحيل إلى خارجه، إلى حدّ اتهام المؤلفة ليلى بعلبكي في الدراسة السالفة الذكر بالجهل، فالفوز دائماً لنقد الأفكار، كما يؤمن بها صبحي نفسه، وهذا واضح في نقده لعبد النبي حجازي، فقد جعل رواية «قارب الزمن الثقيل» (1969) تمثيلاً لهزيمة حزيران بين الانخلاع الطبقي والانحلال الخلقي، ورواية «الياقوتي» (1977) رواية التعطيل نحو المطابقة بين احتقار الذات واحتقار المجتمع، ويلفت النظر أنه يورد «التعطيل» ترجمة عربية صحيحة لمصطلح Suspense، ويضيف أن علماء الكلام المعتزلة استعملوه، ومن المثير أن المعنى يمتد إلى تعليق الفعل أو إرجائه، وقد مدّه صبحي إلى «التعطيل» أو «العطالة»، ولكنه يمضي في التحليل قليلاً أو كثيراً ليكشف عن أفكار العمل الأدبي وحدها، وليست هذه طريقة نقدية مرغوبة أو مأمونة في عرف النقاد الموضوعيين أنفسهم، ولا يكتفي النقد عادة بأسطر قليلة عن التقنية في ذيل النقد، كأن يقول الناقد: «والتقنية في الرواية مبسطة جداً، فالروائي خجول يستنكف عن عرض مهاراته التقنية بحيث يقتصر على طريقة واحدة في السرد دون تغيير يراد به إرباك القارئ»([33]).
ولا يختلف في كتاب «أبطال في الصيرورة» كثيراً عن سابقه، بل إنه يعيد نشر دراستين منه، وهما الدراستان المكتوبتان عن أحمد إبراهيم الفقيه (ليبيا) وعادل أبو شنب (سورية). وقد حاول صبحي تسويغ دراساته في كتاب لتندرج جميعها في عنوان كتابه الجديد الذي وجده «أصلح تعبير عن الشخصية العربية، في المرحلة الراهنة، كما صورتها مخيلة الروائيين العرب، فهذه الشخصيات جميعها غير مكتملة الملامح إلى حدّ بعيد. إنها في صميمها تعيش وضعاً انتقالياً بين ذاتها وذاتها، وبين وضعها ووضع آخر تتطلع إليه وبين مجتمعها كما هو والمجتمع الذي تصبو إليه، وهي تعي هذا الانتقال وتتقصده وتكافح من أجله»([34]).
ثمة آراء متداخلة وأحكام غير معللة، ولكن صبحي جاوز حدود الدراسة المفردة مما حواه الكتاب إلى إثارة قضايا نابعة من استعمال المنهج الموضوعي من أجل تصليبه ونفوذه في السيرورة النقدية الحديثة، ومنها الاستعانة بالتحليل النفسي، أو الولع بأحكام القيمة، أو البحث عن الهوية، أو استخدام مصطلحات وعبارات في غير محلها.. الخ، وتتلامح بعامة في كتابه مظاهر الإلحاح على الموضوع، وكأن الحرص على تجنب المنهج غاية بذاته، فيصير الناقد معلماً شارحاً لموقفه، ففي نقده لرواية رشاد أبو شاور «العشاق» (1979) يخرج عن النقد إلى حديث سياسي مباشر، حيث يشرح فترة العشرين عاماً الفاصلة بين الاحتلالين، واقتطفت منه بضعة أسطر:
«أما الأراضي العربية المعرضة للعدوان فتلقى كل قرية مصيرها وحدها دون نصير ولا معين. لذلك يخرج القارئ من الروائيين مظللاً بسحابة سوداء من الشك في المستقبل العربي، بعد أن يرى أن ثلاثين عاماً من الصراع لم تطور الاستجابة العربية كثيراً»([35]).
ينشغل صبحي بالأفكار كثيراً، ولكنه لا يغفل عن السرد كلية، وإن بدا أن اهتمامه بالسرد مطية أحياناً لقول هذه الأفكار، كما في تعليقه على «رباعية الإسكندرية» (1957-1960) للورنس ديرل. وفي دراسات أخرى يوازن صبحي في قراءة الرواية بين طوابع السرد ونداء الأفكار، كتحليله الماتع والمفيد عن مستويي السرد وصلتهما بالبطل الإشكالي في رواية عادل أبو شنب (سورية) «وردة الصباح» (1976).
نقد محي الدين صبحي نموذج لمجاهدة تكون المنهج الموضوعي في النقد إزاء مشكلات التعبير عن الأفكار والأخلاق والموقف القومي والمرحلية والمحلية والسيرة (طلب التماهي بين سيرة المؤلف وأبطاله)، ولعلها مشكلات تضاعفت وطأتها في إلحاحه على رؤية التخييل العربي في مدار ضاغط هو «البحث عن الهوية» كما في نصحه للروائيين العرب في كلمة كتابه([36]).
وأختتم حديثي عن تأصيل النقد ونماذج النقاد العرب الذين عنوا بفعالية النقد مستقلة، منهجية، كاشفة عن رؤية معرفية وجمالية وذوقية بفاروق عبد القادر (مصر)، وهو ناقد محترف ومدقق وجريء وشجاع، ولا ينساق وراء عقيدته والأيديولوجيا التي يؤمن بها، على الرغم من إعلانه لها، فيظهر ميل إيديولوجي شفيف في تلافيف نقده متلفعاً بحساسية نادرة إزاء التاريخ والراهن، إنه لا يخشى في الحق لومة لائم، وإن بدا له أن هذا الحق هو ما يراه وما يعتقده، وقد خاض عبد القادر معارك طويلة ومديدة مع رموز السلطان الثقافي في مصر، وهم على سدة عروشهم، ونشر مقالاته وأبحاثه في الدوريات الثقافية في مصر، وأعادها في كتب صدرت في مصر أيضاً، وتشير عنوانات كتبه إلى موقفه الفكري الجريء في رؤية واقع الثقافة العربية في مصر، وهي «أوراق من الرماد والجمر» (1988)، و«أوراق أخرى من الرماد والجمر» (1990)، و«من أوراق الرفض والقبول: وجوه وأعمال» (1993)، و«من أوراق التسعينيات: نفق معتم ومصابيح قليلة» (1996)، ويضيء موقفه الفكري والنقدي انتماء صريح وثابت للعروبة، وابدأ عرض صورة النقد عند عبد القادر من مقدمة كتابه الأخير، التي تحمل عنوان «مقتطفات من سيرة ذاتية ثقافية»، وكان منطلقه في الكتابة نبرة قلما يعترف بها المشتغلون في الفكر والأدب والنقد، وقلما يمارسونها:
«ليس للحقيقة وجه، وأن نفس الهدف يمكن بلوغه من أكثر من سبيل»([37])، ولعل أهم ما في هذه المقتطفات ثلاثة أمور، أولها تكوينه التربوي والثقافي حيث الشأو العالي للوالد، عاشق القرآن، «يرتله في الفجر وقبل الغروب، وكان حسن الصوت، سليم النطق، إنما عن ترتيله هذا، بشكل أساسي، حفظت معظمه، وألفته، وقرّ في قلبي»([38])، وتعلقه بالتراث العربي القديم والحديث، ودراسته لعلم الاجتماع والنفس، وأساتذته الذين أخذ عنهم ووجهوه إلى دروب العلم والنقد: مصطفى زيور ويوسف مراد ومصطفى صفوان، رواد علم النفس في الجامعة المصرية، وثانيها تجربته مع الأحزاب والعمل ومعترك الحياة: الأخوان المسلمين والماركسيين وفرص العمل الضائعة، ربما بسببهما، والأمن والوظيفة في الإعلام ومجلة «الطليعة» القاهرية التي صدّرت أعدادها بعبارة: «طريق المناضلين إلى الفكر اليساري المعاصر»، وثالثها اعتزازه بالحرية وصلابته في الدفاع عن الفكر التقدمي والقومي ومكابدته من أمثال يوسف السباعي «إيان سميث أو مكارثي الثقافة المصرية»([39])، لأنه ليس ثمة أثمن من الحرية بالنسبة إلى الكاتب.
سعى عبد القادر إلى منهجية النقد الموضوعي، وقد حقق أشياء، وفاتته أشياء، وهذا شأن مخاض تأصيل النقد، فهو يستغرق في النقد التطبيقي وينفر من التنظير، ويمتاز بالتحليل الفني والفكري الذي لا يفرط بالصوغ الفني، ولا يستسلم لشرح الموضوع أو الأفكار، ولا يمعن في الخروج عن نقد النص إلى خارجه لدواعي التبشير أو العقائدية، التي نلمح ظلالها على قلة في مطاوي نقده. إن عبد القادر يخرج عن نقد الأعمال الروائية والقصصية إلى معاينة وطأة الراهن لأسباب تتعلق ببروز نبرته الشخصية واعتزازه برأيه في تزجية أحكام القيمة، لأن منهج عبد القادر يقوم على التقييم، بمراعاة الميل النفسي والأيديولوجي قليلاً، والأهم بمراعاة الصوغ الفني. فقد ذكر في مقدمة كتابه «أوراق أخرى من الرماد والجمر» بعض أشجان المشتغل بالنقد، وشخص واقع النقد، رافضاً اجتلاب المناهج الغربية، وانتقد النقد البنيوي، ومن أمثلته صلاح فضل وكمال أبو ديب لإغفالهما الالتزام بقضايا المجتمع والواقع، وانتقد أيضاً الاعتماد على النص وحده في القراءة النصية أو النقدية، ودافع عن عناية النقد بسياقه، ومنها مجمل أعمال الكاتب، وطالب بالوقوف عند رسالة العمل، وبالاستعانة بشتى الأدوات والمناهج التي تقوم عليها العلوم الإنسانية، وبالوضوح الفكري في النقد، متجنباً تسمية الإيديولوجيا باسمها، وبالاقتصاد والتركيز، وبجمال الصياغة في اللغة العربية، ونفر من الاستغراق في استعمال المصطلحات، ودافع، دائماً، عن رسالة الكتابة «تلك الشهوة القديمة المتجددة لإصلاح الكون الفاسد.. إنما نحن ـ مثلما قال واحد من شعرائنا الراحلين ـ نلهث كي نكتب شعرنا في الليل، قبل أن يسفر النهار عن نثر أيامنا البغيض. وإنما القابض على يقينه ـ هنا والآن ـ مثل القابض على الجمر»([40]).
فاروق عبد القادر نسيج وحده في النقد، وعلامة على أصالته دون فذلكة أو ادعاء. وقد ضمّ كتابه، الأول، لأن كتبه تضم مقالات في الأجناس الأدبية المختلفة وفي الواقع الثقافي العربي، «أوراق من الرماد والجمر» إحدى عشرة مقالة نقدية عن نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف ويوسف إدريس وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وحيدر حيدر ولطيفة الزيات وسليمان فياض، وحوى كتابه الثاني «أوراق أخرى من الرماد والجمر» ثماني عشرة مقالة عن نجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وفتحي غانم، ويوسف إدريس، وسحر خليفة، وجبرا إبراهيم جبرا، وعلاء الديب، ومحمد شكري، وحنان الشيخ، وجمال الغيطاني، ونعيم تكلا، وضم كتابه الثالث «من أوراق الرفض والقبول» مقالات عن وجوه أدباء عرب، ومنهم روائيون وقصاصون، بالإضافة إلى قرابة عشرين مقالة عن نجيب محفوظ وفتحي غانم وحنا مينه واميل حبيبي ويوسف إدريس وبهاء طاهر وعبد الفتاح الجمل وأبو المعاطي أبو النجا وأحمد إبراهيم الفقيه وعلاء الديب وجميل عطية إبراهيم وسلوى بكر وسحر خليفة. أما الكتاب الأخير «نفق معتم ومصابيح قليلة» فحوى قرابة ثلاثين مقالة عن عبد الرحمن منيف ولطيفة الزيات وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي وحيدر حيدر ويوسف الشاروني واعتدال عثمان وفؤاد التكرلي وفتحي غانم وأبو المعاطي أبو النجا ومحمد شكري وأمين معلوف وإبراهيم الكوني وغيرهم.
ويتميز الكتاب الأخير بتنامي عناية عبد القادر بالصوغ الفني، وبالتدقيق في لغته ومصطلحه، وبارتفاع نبرة الصراحة في مواجهة مشكلات الحياة الثقافية، وبميل نادر إلى التواضع، وبخلفية ثقافية معمقة، دون أن يثقل النص بالمراجع والمصادر، مما يجعل مثل هذا النقد مختلفاً عن النقد السائد، ومحتفظاً بقدر عال من العلمية والمنهجية والمسؤولية.
ولعلنا نشير في خاتمة حديثنا عن هؤلاء النقاد المؤصلين أنهم سعوا، وبدرجات متفاوتة، إلى منهجية النقد الموضوعي التي عرفت في النقد الانجلوساكسوني، فتلونت هذه الموضوعية بأساليب ممارستهم، لغةً ومصطلحاً وإجراءات نقدية.


الفصل الثاني
العوامل المؤثرة في تكوين الاتجاهات الجديدة
لنقد القصة والرواية
نهض النقد الأدبي في الخمسينيات والستينيات نهضته المعتبرة، باتجاه أصالته، وانتشاره، وعلميته، معرفياً ومنهجياً، مصطلحياً ونظرياً وتخصيصاً، (النقد النوعي والمتخصص للأجناس الأدبية). غير أن اتجاهات نقد القصة والرواية الجديدة، بدأت بالتشكل والظهور في السبعينيات، وقد ساعد على هذا التشكل والظهور عوامل كثيرة أثرت تأثيراً بالغاً في الرواية والقصة ونقدهما بنهاجيات حديثة، مثل الترجمة، ووسائل الاتصال وثورة المعلومات، وتطور العلوم والنهاجيات المعرفية، وأبحاث الهوية، والتطلع إلى الحديث والحداثة، وهي العوامل الأهم، بالإضافة إلى الاتصال الشخصي بمصادر الاتجاهات الجديدة ومراجعها مباشرة، نتيجة لتعلم اللغات الأجنبية، ولوفرة الروافد العلمية والأكاديمية العربية، ممن درسوا في الجامعات والمعاهد الأجنبية.
وتسارعت عوامل أخرى لدى جمهرة عريضة من النقاد والباحثين، وهي في غالبيتها نتاج العلاقة المؤرقة بين الذات والآخر، بين التقليد العربي والمؤثرات الغربية، مثل التأليف المعجمي والمصطلحي والموسوعي في الأدب بعامة، والقصة والرواية بخاصة، والعلاقات بين الفنون، وأبحاث نظرية الأدب ونظرية القصة والرواية بعد ذلك، والبحث عن نظرية نقدية عربية:
1- الترجمة:
لقد نشطت الترجمة كثيراً خلال فترة البحث، ولاسيما ترجمة القصة والرواية وبحثهما. ويشير الكتاب الذي أصدرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بجزأيه «دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي» (1985) إلى النضج الذي بلغته الترجمة في أقطار عربية كثيرة، فقد «استأنف العرب، بتعبير شحادة الخوري، سعيهم في ميدان الترجمة، بعد أن حققت البلدان العربية استقلالها، وملكت حريتها، فجعلوا منها رافداً لثقافتهم الخصبة الأصلية التي يعتزون بها». و«المهم في الوقت الراهن معرفة الواقع والانطلاق منه إلى حال أفضل، بإحداث المؤسسات، وإصدار التشريعات، وسد الثغرات، واستنباط الوسائل التي تكفل التقدم والنجاح وتحقيق الهدفين الكبيرين: تعريب العلم والتعليم والمجتمع، والتواصل مع الثقافة الأجنبية إغناء لثقافتنا العربية، وتعريفاً بالعبقرية العربية وقدراتها الإبداعية في الأمس واليوم، وفي الغد»([41]).
إن شحادة الخوري، وهو الخبير المعروف في ميدان الترجمة، يؤكد بلوغ العرب مستوى النضج في الترجمة، استعادة للفترة الذهبية في عصر المأمون وبيت الحكمة في القرنين الثاني والثالث للهجرة، ويأمل الانطلاقة إلى حال أفضل تجعل الترجمة رافداً أساسياً من روافد الإبداع. ولعلنا ندرك هذا المستوى من النضج حين نقارن واقع الترجمة خلال فترة البحث، بواقعها في الفترات السابقة، فقد أقر حسام الخطيب (فلسطين) لدى دراسته لسبل المؤثرات الأجنبية في القصة السورية، أن الترجمة «قطعت شوطاً عظيماً في الخمسينيات، ولاسيما في المجال القصصي، وترجمت روايات وقصص كثيرة عن الفرنسية، وأحياناً عن الإنكليزية، وعن طريق هاتين اللغتين ترجمت آثار قصصية كثيرة عن آداب (أوروبية) أخرى كالروسية والألمانية والإيطالية والهندية والأسبانية والصينية وغيرها»([42]).
وما ذكره الخطيب لا يتجاوز عشرات الكتب، أما في فترة البحث فجاوز العدد المئات، ناهيك عن النضج في مستوى الترجمة وتخصصها، بفضل التطور في معرفة اللغات الأجنبية، إذ لم تعد مقتصرة على اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وفي احترافها وتطور تقاناتها، وتوافر الأعداد الكبيرة من مترجمي النصوص الأدبية الذين يتحلون بالشروط اللازمة لمثل هذه الترجمة([43])، وفي تعدد دور النشر العامة والخاصة التي زادت على المئات في بعض الأقطار العربية.
ونورد إشارات عن ترجمة القصة والرواية ونقدهما في فترة البحث:
1-1- ترجمة الرواية والقصة:
اقتصرت ترجمة الرواية على روايات ومجموعات قصصية قليلة في كل عقد حتى نهاية الستينيات، ولكن الانطلاقة الكبيرة حدثت في السبعينيات بتخصيص سلاسل خاصة بالرواية والقصة العالمية لدى عدد من دور النشر العربية، أو اعتماد سياسة نشر مستمرة للروايات والقصص العالمية.
كانت دار الهلال، تنشر رواية كل شهر، من الروايات البوليسية أو الاستهلاكية أو المقتبسة، ونادراً ما نشرت روايات أو قصصاً مما يعد نماذج طيبة لهذين الجنسين القصصيين. وشرعت دور نشر عامة وخاصة بنشر رواية أو روايتين كل عام، على تفاوت في الستينيات، مثل «دار اليقظة العربية» (دمشق)، و«دار الآداب» (بيروت)، و«المكتبة الحديثة» (بيروت)، و«دار المعارف» (القاهرة)، و«مكتبة الأنجلو المصرية» (القاهرة)، و«الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي ـ سلسلة الألف كتاب» (القاهرة) و«الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ سلسلة الجوائز العالمية» (القاهرة)، و«دار الكاتب العربي ـ سلسلة من الأدب العالمي ـ وسلسلة من الشرق والغرب» (القاهرة)، و«دار مجلة شعر» (بيروت)، ثم كانت الانطلاقة الأكبر في السبعينيات والثمانينيات، واذكر بعض الملامح:
· الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة): سلسلة «روايات عالمية»، بالإضافة إلى عشرات الروايات، ومثلها عشرات المجموعات القصصية، والأعمال الكاملة لديستويفسكي.
· وزارة الثقافة (دمشق): سلاسل «روايات عالمية» و«القصة العالمية»، بالإضافة إلى عشرات الروايات والمجموعات القصصية، والأعمال الكاملة لليو تولستوي.
· دار الآداب (بيروت): أصدرت مئات الروايات العالمية، من اليابان وفرنسا وأمريكا وغيرها.
· دار عويدات (بيروت): أصدرت عشرات الروايات الفرنسية.
· دار الهلال (القاهرة): تابعت سلسلة «روايات الهلال» نشر الروايات العالمية، وقد عدلت في سياسة النشر كثيراً، فنشرت روايات ومجموعات قصصية هامة وجادة.
· دار النهار (بيروت): نشرت بعض الروايات العالمية، ومنها «جناح السرطان» لسولجنتسين.
· مؤسسة الأبحاث العربية (بيروت): نشرت سلسلة «ذاكرة الشعوب»، وفيها أكثر من أربعين رواية عالمية مزودة بمقدمات نقدية شارحة، وبعض المجموعات القصصية.
· دار الفارابي (بيروت) ودار العودة (بيروت) ودار ابن رشد (بيروت) ودار سعاد الصباح (الكويت)، وعشرات دور النشر المماثلة: نشرت عشرات الروايات والمجموعات القصصية.
· دار التقدم ودار رادوغا (موسكو): نشرتا مئات الروايات والمجموعات القصصية الروسية والسوفييتية، والأعمال الكاملة أو شبه الكاملة لبعض القصاصين والروائيين مثل انطون تشيخوف وديستويفسكي وتورجينيف ومكسيم غوركي.
· المكتب الإعلامي البلغاري (دمشق): نشر عشرات الروايات والمجموعات القصصية البلغارية لدى دور نشر صغيرة بدمشق.. الخ.
وتحتاج حركة نشر القصة والرواية المترجمة إلى دراسة خاصة للتعرف النوعي والكمي والأسلوبي والفكري لاستقبالهما في الوطن العربي، استمراراً لما فعله عبده عبود (سورية) في دراساته المتعددة لاستقبال الرواية الألمانية في الثقافة العربية، كما في كتابيه: «الرواية الألمانية الحديثة: دراسة استقبالية مقارنة» (1993) و«هجرة النصوص: دراسات في الترجمة الأدبية والتبادل الثقافي» (1995).
1-2- ترجمة نقد القصة والرواية:
نشطت ترجمة نقد القصة والرواية أيضاً، فظهرت عشرات الكتب المترجمة للمنظرين والنقاد والباحثين أمثال جورج لوكاتش، وبيرسي لبوك، وايان واط وارنولد كيتل، وروجر ألن، وفرانك كيرمود، وجان ايف تادييه، وجان ريكاردو، ومارت روبير، ويانكولافرين، وريتشارد فريبورن، وللروائيين والقصاصين أمثال انييس نن وآلان روب جرييه وميشيل بوتور وغابرييل غارسيا ماركيز ونغوجي واثيونغو.
مثلما ترجمت عشرات الكتب عن روائيين وقصاصين ومنهم أمثال ديستويفسكي (ظهرت عنه أكثر من خمس كتب مترجمة) وتولستوي وبلزاك ومارسيل بروست واندريه مالرو وتشيخوف.
ويلاحظ، أن الكتب المترجمة اتجهت إلى الموضوعات التالية([44]):
1- الرواية الإنجليزية.
2- الرواية الفرنسية.
3- الرواية في أوروبا.
4- القصة في أوروبا.
5- القصة والرواية الروسية.
6- القصة في أوروبا.
7- الرواية الجديدة الفرنسية.
8- الرواية والقصة في أمريكا اللاتينية.
9- القصة والرواية العربية، أي ما كتبه المستشرقون والأجانب عن القصة والرواية العربية.
10- القصة والرواية في اليابان.
2- الروافد الأكاديمية:
مارست الروافد الأكاديمية من خريجي الجامعات والمعاهد العليا بأطروحاتها العلمية تأثيراً متزايداً في تنمية نقد القصة والرواية، وفي إشباع البحث العلمي بالمنهجية المعرفية الحديثة. إن نظرة إلى حجم الأطروحات والرسائل الجامعية في الدراسات الروائية والقصصية في فترة البحث قياساً إلى الفترة ما قبلها يوضح حركة حركة النقد القصصي والروائي، ففي دراسة لمختار بوعناني (الجزائر) عن «بيبلوغرافيا الرسائل الجامعية في الدراسات الروائية» (تجليات الحداثة 1994) بين أن عدد الأطروحات بلغ اثنتين وعشرين أطروحة في مختلف الجامعات العربية والأجنبية حتى عام 1970، بينما نوقشت أكثر من مائة وخمسين أطروحة فيما بين عامي 1970 و 1984، بعد استدراكي لبعض الأطروحات التي غفل عنها الثبت، وقدم عدد مماثل من الأطروحات حول القصة القصيرة. ويلاحظ أن اهتمامات الأطروحات وفق التالي:
اهتمامات بالطفل: 3 أطروحات.
اهتمامات بالمرأة: 8 أطروحات.
اهتمامات بالمجتمع: 10 أطروحات.
اهتمامات بالأرض: أطروحتان.
اهتمامات بالشخصية الروائية: 9 أطروحات.
اهتمامات بالاتجاهات الروائية: 16 أطروحة.
اهتمامات بالأثر الروائي والتطور الاجتماعي: 7 أطروحات.
اهتمامات بالمؤثرات الأجنبية: 5 أطروحات.
اهتمامات بالدراسة المقارنة: 3 أطروحات.
اهتمامات بالصورة من خلال الرواية: 7 أطروحات.
اهتمامات بالبناء الروائي: 21 أطروحة.
اهتمامات بالقضية الجزائرية: أطروحتان.
اهتمامات بالرواية المكتوبة بالفرنسية: 3 أطروحات.
اهتمامات لها صلة بفن الرواية: 6 أطروحات.
اهتمامات بالبطل الروائي: 7 أطروحات.
اهتمامات بالتطور الروائي: 3 أطروحات.
اهتمامات بالرواية التاريخية: 7 أطروحات.
اهتمامات بالرواية والروائي: 13 أطروحة.
اهتمامات بالرواية الخاصة ببلد عربي: 5 أطروحات.
اهتمامات بالمكان والزمان: 5 أطروحات.
اهتمامات بالتأثر والتأثير وبالصراع بين الرواية العربيةوالرواية الغربية: 3 أطروحات.
اهتمامات بقراءة الرواية: أطروحتان.
اهتمامات بالخطاب الروائي: 5 أطروحات.
اهتمامات بالرواية الجديدة: 10 أطروحات.
ولو تأملنا هذه الاهتمامات لوجدنا أن العناية بالفن وقضاياه تفوق العناية بالموضوعات وقضاياها، واذكر ملمحين لذلك، فقد كانت دراسات الرواية التاريخية، باستثناء دراستين، قد نوقشت في الجامعات قبل عام 1970:
· روايات جرجي زيدان التاريخية ودورها في الرواية المصرية ـ همداني علي ـ جامعة القاهرة 1961 (ماجستير).
· الرواية التاريخية في الصحف المصرية ـ محمود الشريف ـ جامعة القاهرة 1969 ـ (ماجستير).
· الرواية التاريخية في الأدب ـ عبد الرحمن أبو علي 1968 (دكتوراه).
· الرواية وتطورها في الأدب العربي الحديث في مصر 1891-1939 ـ محمود الشريف (ماجستير).
· الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث ـ منصور إبراهيم الحازمي ـ جامعة لندن 1966 (دكتوراه).
· الرواية التاريخية عند جورجي زيدان ـ حسين التلباني ـ جامعة الجزائر 1983 ـ (دكتوراه).
· الرواية التاريخية في الأدب العربي في سورية ـ عبد الرحمن برمو ـ معهد الاستشراق ـ بموسكو 1993.
أما الملمح الثاني فهو أن دراسات الخطاب الروائي، على سبيل المثال، جرت في التسعينيات:
· مكونات الخطاب الروائي في «شكاوى المصري الفصيح» ليوسف القعيد ـ إلهام الإدريسي القاسمي ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط 1991 (ماجستير).
· مكونات الخطاب الروائي ـ فاطمة بنطاتي ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط 1991 (ماجستير).
· خطابات المستنسخ في الرواية العربية: نموذج حليم بركات ـ أحمد حفيظ ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط ـ 1991 (ماجستير).
· الخطاب الروائي: نشأته وتطوره في الأدب العربي الحديث 1834-1980 ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط ـ 1991 (ماجستير).
· بحث في الأنساق الخطابية للواقعي والتخييلي في الخطاب الروائي العربي من خلال: الوجوه البيضاء. بدر زمانه. مالك الحزين. عبد الفتاح الحجمري ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط ـ 1991 (ماجستير)([45]).
ولعلنا نذكر قائمة تفصيلية للأطروحات (الماجستير والدكتوراه) التي قدمت في جامعة حلب وحدها، على سبيل تدعيم القول في مدى تأثير الروافد العلمية في الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، وتوكيد أن هذا الثبت غير دقيق في الوقت نفسه:
الباحث
الموضوع
عام المنح
محمد حسن عبدالمحسن
الأدب الشعبي في موسوعة حلب للأسدي
1983
محمد الصالح محفوظ
البطل في القصة القصيرة الجزائرية
1987
عبدالناصر مباركية
الثورة التحريرية في الأدب القصصي الجزائري
1987
عبدالله تزروتي
المرأة في روايات نجيب محفوظ
1987
عبدالله بن قرين
اتجاهات النقد الأدبي الحديث في الجزائر
1987
حسين محمد قحام
صورة الأرض في الأدب القصصي العربي في الجزائر
1987
إالهام طه نجار
المنهج الواقعي في النقد الأدبي في سورية ولبنان
1987
محمد علي يحيى
القصة القصيرة في اليمن 1939-1980
1989
سهام عبدالقادر ناصر
نقد القصة القصيرة في سورية من نشوئه إلى عام 1985
1990
أحمد عبدالرحيم الحسن
دراسة في نقد الرواية السورية من 1930 إلى 1985
1990
أمية ترمانيني
المرأة وصورتها في الأدب الروائي السوري إلى 1967
1990
خالد أعرج
المؤشرات البنيوية في النقد العربي في سورية ولبنان
1991
يوسف اسماعيل
النزوع الوطني في سيرة الأميرة ذات الهمة
1991
مرشد أحمد
جماليات المكان في روايات عبدالرحمن منيف
1992
محمد عادل حمادة عرب
المعالجة الفنية للتاريخ في الرواية السورية حتى عام 1961
1992
نضال الصالح
الأرض في الرواية العربية الفلسطينية
من 1965 إلى 1982
1992
محمد رياض وتار
شخصية المثقف في الرواية العربية السورية
من 1967 إلى 1990
1996
خالد أعرج
النقد العربي المعاصر في مصر والمشرق العربي
1999
سهام ناصر
المصطلح النقدي وعلاقته بالتيارات الأدبية والاجتماعية
1999
ويستفاد من هذه المقارنة تعاظم النقد القصصي والروائي المستند إلى الاتجاهات الجديدة في فترة البحث بتأثير الروافد العلمية لحركة النقد والبحث الأدبي بنهاجيات علمية حديثة.

3- تطور العلوم والنهاجيات المعرفية:
ثمة علاقة ظاهرة للعلوم وتكنولوجيا المعلومات بالأدب، وقد اخترت جانبين لهذه الظاهرة، الأولى هي تأثير العلوم والعلم، والثانية هي تأثير تكنولوجيا المعلومات:
3-1- تأثير العلوم والعلم:
عولج تأثير العلوم والعلم على الأدب والنقد في عدة مصنفات ترجمت إلى العربية خلال العقدين الأخيرين، مثل: «على مشارف القرن الواحد والعشرين: الثورة التكنولوجية والأدب» (بالروسية 1984) لفالنتينا ايفاشيفا([46])، بترجمة فخري لبيب (مصر)، و«الفن في عصر العلم» (بالروسية 1978) لأرسيني غوليكا([47])، بترجمة جابر أبي جابر ومراجعة شوكت يوسف (سورية)، و«النقد الأدبي الحديث بين الأسطورة والعلم» (1988) لعدة مؤلفين([48])، بترجمة محي الدين صبحي (سورية).
وكانت هذه المعالجات عامة لمفاهيم التقدم والنمذجة والجمالية والأخلاق في استخدام العلوم والعلم في الأدب، ولتقصي آفاق العلم في الفن والأدب، فدرس غوليكا، على سبيل المثال، التقدم في الفن وجمالية الكشف العلمي وموقف الفن من العلم والأخلاق، ووصف المؤلف عمله بأنه «دراسة معضلة وشاملة، لتفاعل الفن مع التقدم العاصف للمعرفة العلمية، إذ يتميز الفن بقدرته على استباق الزمن في تصويره للواقع، وهذه الصفة بارومتر المناخ الروحي. فالفنان لا يرى فحسب، بل ويتنبأ، وحين تكون ظواهر الحياة في بداية تشكلها، يتفاعل حدس الفنان مع النتائج المحتملة. إن الفن في عصر الثورة العلمية التقنية هو فن القرن العشرين الذين يشارف على نهايته، وقد حان الوقت لاستخلاص بعض النتائج التمهيدية في ضوء سيرة الفن السالفة»([49]).
ولا يختلف اثنان على التأثير العميق للعلم على الأدب، كأن تكون فكرة الفن أسلوباً في المعرفة، أو أن تكون الرواية بحثاً كما عند ميشيل بوتور وروائيي الرواية الجديدة، أو أن تكون الرواية سجلاً للواقع والمجتمع كما في الرواية التاريخية والإنسيابية، أو أن تكون الرواية تفسيراً للسلوك الإنساني والنفسي، أو أن تكون الرواية أو القصة وثيقة تاريخية، أو أن تصاغ الرواية أو القصة وفق النظرة النسبية، وقد مارسها عدد من روائيي العصر ممن كان لهم تأثيرهم البالغ على الرواية العربية ونقدها، وأخص بالذكر وليام فولكنر ولورنس داريل، ولا سيما روايتيهما «الصخب والعنف The Sound and the Fury» (ترجمها جبرا إبراهيم جبرا إلى العربية عام1961)، و«رباعية الإسكندرية Al-Exandrian Quartrian» (ترجمت الجزأين الأول والثاني ـ سلمى الخضراء الجيوسي عام 1962، ثم ظهرت الأجزاء الأربعة عام 1993 من قبل مترجم آخر).
ويؤكد عدد من نقاد داريل، على سبيل المثال، أن اكتمال فهمنا لمؤلف «رباعية الإسكندرية» غير ميسور ما لم نحط علماً بنظرية النسبية التي يدعو إليها، ويطبقها في أدبه. ويستمد داريل هذه النظرية من نظريات اينشتاين في الرياضة. ويشرح لنا هذا الكاتب نظريته الأدبية في النسبية التي يسميها «استمرار الزمان والمكان». ويضيف رمسيس عوض في كتابه «دراسات تمهيدية في الرواية الإنجليزية المعاصرة» (1971)، أن ديرل دافع عن نفسه بقوله: إنه أراد بكل بساطة أن يقوم بأداء بعض الألعاب الشعرية على فكرة نسبية الزمان والمكان بوصفها إحدى الأفكار الكونية الهامة في العصر الحديث. ويقول ديرل: إنه يعبر في رباعيته عن هذه النسبية، وإنه يتوسل إلى ذلك بالشخصيات، بدلاً من الأرقام التي يستخدمها علماء الرياضة([50]).
3-2- تأثير تكنولوجيا المعلومات:
أوردت فالنتينا ايفاشيفا في كتابها المذكور شهادات عدد من الأدباء عن تأثير التكنولوجيا على الأدب، ففي نهايات الستينيات، عبر البرتو مورافيا عن حنقه من أن الأدب سيصبح أكثر فأكثر وثيقة أو سجلاً، وأن الرواية الخيالية ستختفي تدريجياً، وأن العنصر الروائي الخيالي سيجتث، أو على الأقل، سيختزل لحده الأدنى، ولخصت الباحثة السوفييتية أثر التكنولوجيا الحديثة على الأدب في ثلاثة توجهات رئيسة: توجه الأدب والدراما نحو الوثائقية، ورواج روايات الخيال العلمي، وميل الأدب إلى الفلسفة([51]).
والتفت النقاد إلى تعاظم هذا الأثر على الأدب، فترجم أحمد المديني (المغرب) بحث كربال سبينغ «التكنولوجيا والرواية» (الثقافة الأجنبية (1984). غير أن النقاش الأهم لهذا الأثر ومداه في الأدب العربي الحديث، قام به نبيل علي (مصر) في مقالته «ذات صنع الله إبراهيم من منظور معلوماتي» (إبداع 1992)، وكتابه «العرب وعصر المعلومات» (1994)، فقد خص هذه القضية بفصل مطول في كتابه، واستنتج فيه الخلاصات التالية:
- بروز الوثائقية كإحدى ظواهر أثر التكنولوجيا الحديثة على الأدب.
- فقر الأدب العربي بأدب الخيال العلمي، لأن معظم كتابه من العلماء خاصة، ويفتقدهم الأدب العربي الحديث.
- الكتابة الروائية في نظر أهل الذكاء الاصطناعي نوع من توليد النصوص **** Generation، وهم قانعون، على الأقل حالياً ـ بأن تكون حدود مغامراتهم في مجال الإنتاج، لا الابتكار، ولكن لا يفوتهم أن يذكرونا بأن معظم الروايات الاستهلاكية، بل ومنها تلك الأكثر رواجاً، تندرج تحت فصيلة الإنتاج، لذا فلا يقلل من طموح الآلة في رأيهم أن تحذو حذوها.
- إمكانية إنتاج قصص عبر النظم الآلية: صانع الحبكة Plot Maker، صانع عالم الرواية World Maker، محاكي الأحداث Events Simulator، ناظم السرد Narrator، مولد النص **** Generator.
- تصاعد الاتجاه نحو التركيز على دراسة «أدبية» النصوص من داخلها، وتشترك نظرية الأدب والذكاء الاصطناعي في العديد من الأسئلة المتعلقة بطبيعة المعنى والفهم([52]).
4- وسائل الاتصال وثورة المعلومات:
4-1 وسائل الاتصال والرواية الاستهلاكية:
إن التطور الهائل في وسائل الاتصال وثورة المعلومات قد أثر في الإبداع العربي برمته، ولا سيما الرواية ونقدها، فطالت التبدلات العميقة التعبير الروائي والقصصي ونقدهما، وهي تبدلات عنيفة لا سبيل إلى الفكاك منها، لأنها مست الثقافة العالمية، وآدابها في الجوهر وفي الشكل. والتمس لملاحظة مثل هذه التبدلات مثالين هما الرواية الاستهلاكية للتعرف إلى تأثير وسائل الاتصال، واللغة العربية للتعرف إلى تأثير ثورة المعلومات.
لم تصل موجة الروايات الاستهلاكية إلى السوق الأدبية العربية إلا متأخرة على استحياء وظهرت بوادرها في الثمانينيات في الكتابة لوسائل الاتصال بالجماهير كالصحافة والإذاعة والتلفاز والسينما، ويدل هذا التوصيف الواقعي والتاريخي على أن الكتابة الروائية العربية ما تزال بعيدة عن ضغوط السوق التجارية، أن ثمة شروطاً يفرضها الآن منتج البرامج والأشرطة التلفزيونية والسينمائية أو ممول المسرح أو ناشر الجريدة أو المجلة لقبول إعادة إنتاج الأدب عبر هذه الوسائل وقنوات الاتصال، ومما يؤيد مثل هذا الرأي أن بعضاً من أهم الروائيين العرب ما زالوا بعيدين عن قوانين السوق التجارية، فلم تتأثر جماليات الرواية عندهم بمعطيات التغيير الثقافي الكلي كما هو الحال في أوروبا وأمريكا، ونذكر منهم عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وغالب هلسا وادوار الخراط وعبد السلام العجيلي والياس الديري ومحمد الصالح الجابري وعبد الرحمن مجيد الربيعي ونبيل سليمان، وإنما بدأت تداخل أساليبهم أنواع من الاهتمام بتأثير وسائل الاتصال.
ويقودنا مثل هذا الاستنتاج إلى أن إسهام الروائي العربي أكبر في تحديد جماليات روايته، وأن هذا الإسهام أكبر بعد ذلك في تثمير أدوار الأديب في عمليات التفكير الثقافي العاصفة في حياتنا. على أننا سنذكر إشارات أخرى حول موجة الرواية الاستهلاكية بالنظر إلى تأثير التغير الثقافي في صياغة معايير الرواية وتوجيه جمالياتها ونقدها في الوقت نفسه من أجل قرائن أكثر مع جماليات الرواية العربية وانبثاقها من عمليات التغير الثقافي الواسعة والعميقة منذ الخمسينيات، وما يستدعيه من حساسية نقدية جديدة.
كيف تنتشر الرواية الاستهلاكية؟ وما هي محاولات ترويجها باللغة العربية؟.
لاحظنا أن الرواية الاستهلاكية العالمية، وهذه هي حدود نشأتها، قد ترافقت مع نمو الحس الاستهلاكي فيما سمي ملء أوقات الفراغ بادئ الأمر، والاندراج في التسلية التي شرع المشتغلون بعمليات الاتصال يحسبون لها حساباً في برامجهم لكسب الجمهور، ثم شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حمى محاولات كسب الجمهور عن طريق وسائل الاتصال، ولاسيما فنون الصوت والصورة المكتشفة آنذاك من جهة، وفنون الصحافة الراسخة من جهة أخرى، فتطورت الكتابة الروائية في منحى الاستهلاك الذي يراد منه التسلية وتزجية أوقات الفراغ بالدرجة الأولى إلى إدخال الرواية والقصص بشكل عام في دائرة تزييف الوعي، أي تفريغ هذا الجنس الأدبي من الفكر والتاريخ والمجتمع خلل صياغة كتابات روائية وقصصية خاضعة لتصنيفات موصوفة مسبقاً لا تبتعد عن إدهاش السرد والمقدرة الحكائية الجذابة التي يقدم من خلالهما أو بوساطتهما حبكات مدروسة بعناية بما يجعلها نفورة من الهموم أو الاهتمامات الجدية، وقد تصدر هذا التصنيف مجموعة من التوابل أولها التركيز على العواطف المنفصلة غالباً عن جذرها الاجتماعي والنفسي، فيجري الولع بالأفعال العاطفية وردودها ضمن آليات رتيبة متوقعة، مثلما يحرص كّتاب هذه القصص والروايات على أن تدور الأحداث والوقائع، إن وجدت وقائع، لأن الوقائع مما ينتمي إلى التاريخ، في بيئات ثرية لا يعاني أفرادها الفاقة أو البؤس أو الحرمان، اللهم إلا الحرمان من فقدان التوافق في الحب.
وثمة خصائص أخرى نذكر منها تجميل الواقع من أجل قبوله، ووضع المتلقي في بهرج التعلق بنمط الحياة الذي تعرضه هذه الكتابات الروائية والقصصية، وغالباً ما يسمون هذا التعليق بأنه أحلام، فالمرء قادر بتقديرهم، على تغيير وضعه، واللحاق بهذا النمط، والذين تابعوا الأفلام «الهوليودية» في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات يدركون ذلك الحرص على ترويج هذه الخصائص ولوازمها مثل الرجال الوسيمين الجذابين، والنساء الساحرات، والطبيعة الخلابة، والطابع السياحي الجميل للأماكن الباذخة. والشعور بالوفرة إلى حد التخمة غالباً، والحرية المطلقة بعيداً عن قيود المجتمع والأسرة والدين والالتزامات الأخرى.. الخ، ولقد عاشت السينما المصرية على تقليد هذه الأفلام إلى وقت قريب اقتباساً أو تعريباً بشكل من الأشكال، ومع طغيان الأنماط الاستهلاكية على الحياة العربية مع مطلع السبعينيات بدأ تيار الرواية الاستهلاكية العربية يتشكل إثر هجمة التلفزيون على مختلف أجهزة الثقافة والإعلام واكتساحه لفنون الاتصال الأخرى، ولا سيما السينما والمسرح.
ثم تفاقمت هيمنة التلفزيون مع استتباب التبعية للغرب الذي بات متحكماً بالخبر والصورة معاً، ومحتكراً لصناعتهما عبر الشركات الاحتكارية الكبرى المشهورة إلى جانب وكالات الأنباء المصورة وسواها. ومن أمثلة المسلسلات التلفزيونية الرائجة والمنتشرة في الوطن العربي كله «دالاس» و«داينتسي» و«سفينة الحب» و«سانتينال»، بالإضافة إلى مئات البرامج والمسلسلات المأخوذة عن الروايات المعروفة باسم «الأكثر رواجاً» أو «بست سيللر Best Seller».
بدأ إقبال الروائيين والقصاصين العرب على الكتابة لوسائل الاتصال بالجماهير على استحياء غير أن الهبّة النفطية، وانتشار محاولات توظيف رأس المال العربي ولا سيما النفطي في مراكز البحوث والمشروعات الإعلامية، ودخول مخاطبة الإنسان العربي، ولا سيما بعض الجماهير الخاصة مثل النساء والأطفال والفتيان في برامج الدوائر الإعلامية الأجنبية، قد جعل غالبية الروائيين والقصاصين في تطلع مستمر لتوظيف إنتاجهم في آلة التلفزيون وبقية وسائل الاتصال الأخرى، وفي سورية، على سبيل المثال، يندر أن نجد روائياً أو قاصاً معتبراً لم يكتب المسلسلات التلفزيونية، أو أن يخضع فنه الروائي والقصصي لحاجات الوسائل الإعلامية مثل هاني الراهب وعلي عقلة عرسان وخيري الذهبي وعبد الكريم ناصيف ودياب عيد وحنا مينة وألفت الإدلبي وناديا خوست وعبد النبي حجازي وغيرهم، بل أننا، وضمن دراسة متقصية، نلمس حساب هذه الوسائل الاتصالية كالتلفزيون والسينما في تفكير الروائي والقاص الأدبي ذاته، فتأثرات جماليات الرواية والقصة بشروط هذه الوسائل، أي أن الكاتب صار معنياً بقابليات ظهور روايته أو قصته في مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي أو مسلسل إذاعي قبل مراعاته لصدورها في كتاب!([53])
ومن المفيد أن نشير إلى روائيين وقصاصين رائجين من كتاب الرواية الاستهلاكية في سورية أيضاً، نذكر محمد حسين شرف ووفاء حمارنة. وقد يستغرب المرء غزارة إنتاج هذين الكاتبين وسرعة انتشار رواياتهم وقصصهم حتى إن بعض رواياتهم طبعت طبعتين أو ثلاث طبعات خلال عشر سنوات، أما الروايات والقصص التي لم يعد طبعها فقد نفذت طبعتها خلال أقل من عامين، ولو استعرضنا عنوانات رواياتهما وقصصهما وموضوعاتها، لوجدنا إلحاحاً على تعابير الحب والمرأة والعبارات الوجدانية الموحية أو الغامضة من جهة، وموضوعات الميوعة العاطفية وطوابع المشجاة (الميلودراما) من جهة أخرى. فقد نشر محمد حسين شرف خلال السبعينيات والثمانينيات أكثر من عشر روايات نذكر منها: «قمر الغرباء» (1970). و«فينوس» (1973)، و«همس الغروب» (1976)، و«ملح على جرح» (1978)، و«دستور الحب» (1980)، و«الغزل عطر النساء» (1985)، و«هؤلاء الأوغاد» (1986)، و«تنهدات العذارى» (1987)، و«لابد من المرأة» (1991).
أما وفاء حمارنة فقد نشرت خلال الثمانينيات أكثر من خمس روايات نذكر منها: «خواطر عن الحب والحياة» و«مملكة الحب الدامية» و«موعد مع السعادة» و«صراع مع النساء» (ولم نذكر تاريخ الطبعات، لأنه غالباً غير مذكور).
ويبدو أن موجة الرواية الاستهلاكية تحتاج إلى تعديل في خطط النشر، تأليفاً وتعريباً وطباعة وتنويعاً، وهذا ما يفسر تعدد السلاسل والحرص على ابتكار أساليب جديدة للمخاطبة لتحقق أهدافها كاملة، لأن القيمين عليها غالباً ما يجرون دراسات وبحوثاً مطولة تسبق إصدارها، أو في أثناء إصدارها، فقد أجريت استطلاعات رأي بين الشباب العربي، ولا سيما الفتيات والنساء لمعرفة مدى تقبل هذا النوع من الرواية. ولزيادة التأثير، فقد رأى القيمون على «سلسلة عبير» إصدار سلسلة «روايات عبير العربية»، فطلب إلى العديد من الكتاب والروائيين العرب إنتاج روايات تناسب هذه الموضوعات، فبادر عدد منهم إلى الكتابة بأسمائهم الصريحة أو المستعارة، وقد صدرت بعض الروايات، ولكن المشروع أخفق، لأن قارئات «عبير» و«قلوب عبير» وقراءها مشدودون إلى أرض الأحلام أو الأوهام، لا فرق، وليس إلى واقعهم الذي يدركون أنه لا ينبت الأحلام، ولا تكتمل فيه صياغة الأوهام، فالتفتوا عن المخاطبة العربية مكتفين بالترجمة، أو الاقتباس، أو الاختصار أو الهزال، لأنها الأقرب للرواج والربح السريع.
غير أن نمط الرواية الاستهلاكية، وهو لاشك، إفراز لنمط الحياة الاستهلاكية وأساسها تأثير وسائل الاتصال، قد انتشر في الحياة الثقافية العربية بأشكال متعددة. كان الروائي أو القاص العربي معزولاً عن وسائل الاتصال بالجماهير، أو «هوجة» مخاطبة الجماهير مباشرة، لأن وسائل الاتصال بالجماهير نفسها لم تكن لها مثل هذه السلطة المتفاقمة التي نراها عليها اليوم، ولأن الجماهير نفسها لم تكن موضع الحفاوة والتقدير والاهتمام التي يجري الحرص عليها اليوم، فأخلص الروائي أو القاص العربي من قبل لفنّه، واستغرق في صومعة أفكاره، ولعل تأمل رسائل توفيق الحكيم إلى زوج ابنه حتى مطلع الثمانينات تكشف عن العوز الذي واجهه مفكر وأديب وروائي ومسرحي عربي كبير([54]). وثمة أنموذج آخر أكثر سطوعاً يتبدى في مسيرة نجيب محفوظ، فهو كتب حتى أواخر الستينيات الرواية بعيداً عن حسابات الإيصال الإعلامي، وغّلب في أدبه حاجات الفنّ والفكر على شهوة الانتشار، وإن خصّ السينما بوصفها فناً رائجاً بقصص كثيرة مكتوبة خصيصاً لهذا الفن الجماهيري الواسع الانتشار، فلم يثنه عمله أو كتابته لوسائل الاتصال عن سعيه الأصيل لإنجاز فنه الروائي العظيم، فميّز بين الرواية ومثل هذه الكتابة. وثمة كثيرون، كما أشرت، لا يعرفون أن نجيب محفوظ كتب عشرات الأفلام أو الأعمال الإذاعية لهذه القنوات مباشرة، وما تزال هذه الأعمال مخصوصة بما كتبت له، ولم تظهر نصوصها في كتب.
وظل هذا الوضع سارياً حتى مطلع السبعينيات حين صارت بعض روايات نجيب محفوظ، بتأثير شهوة الانتشار وهيمنة الإعلام، قابلة بيسر للإندراج في طبيعة وسائل الاتصال بالجماهير، فخالط روايات كثيرة له شيء من لوازم الرواية الاستهلاكية، كغلبة الإخبار على السرد، أو العناية برسم الشخصيات على حساب الوصف أو التأملات الفكرية، أو صوغ الرواية برمتها بأسلوب «السيناريو»، أو اختزال الوقائع إلى تركيب مشهدية ما.. الخ، وهذا واضح في روايات كثيرة له مثل «حب تحت المطر» و«يوم قتل الزعيم» و«الحرافيش».
ونستطيع أن نجد روائيين وروايات عربية كثيرة، قد تأثرت بنيوياً وسردياً وهيكلياً بتقنيات الإيصال وشهوة مخاطبة أوسع الجماهير بدغدغة مشاعرهم، وطلب التواصل العاطفي أو الاندماجي في تلقيهم. وكان برع في ذلك من قبل روائيون كثر أمثال إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي اللذين راجت أعمالهما منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الستينيات على وجه الخصوص. لقد خاطبت رواياتهما العواطف والمشاعر إلى أبعد ما تفعله الاتجاهات الرومانسية الهادئة أو المغالية، وإلى أبعد ما تعتمله اتجاهات المشجاة (الميلودراما) المتطرفة، ونادراً ما عبرت هذه الأعمال عن الوجدان العام أو الضمير القومي أو الوعي بالتاريخ. وفي هذه الأيام بتأثير حاجات التلفزة والقنوات الفضائية يعاد إنتاج روايات إحسان عبد القدوس في مسلسلات وسهرات تلفزيونية مثل: «لا أكذب ولكني أتجمل»، و«لن أعيش في ***اب أبي».
من الواضح، أن الرواية الاستهلاكية تنتشر عربياً بتسارع متزايد، لأن المعرفة نفسها في تصارع متصاعد مع الإعلام، ولا يماري أحد أن الثقافة الرفيعة الحّقة هي اليوم أشبه باليتيم على مائدة «اللئيم» الذي هو «الإعلام». وليس تأثير الرواية الاستهلاكية في جماليات الرواية العربية هيناً خلال نصف قرن من الزمن، فهو يدخل في تفكير الروائي العربي، وفي بناه السردية، وفي نسيج حبكه، وفي تشكل صوغه الفني، وما يزال التصارع قائماً بين النزوع الاستهلاكي إلى منتهاه، ونزوع الجمالي إلى منتهاه. وثمة روائيون يمثلون هذا الفريق أو ذاك. ولكننا يندر أن نجد روائياً عربياً معتبراً بمنجاة من هذا التصارع، وهذا واضح في أعمال جبرا إبراهيم جبرا وحنا مينه ووليد إخلاصي ونبيل سليمان (سورية) وعبد الرحمن الربيعي (العراق) وبهاء طاهر وفتحي غانم (مصر) ومحمد صالح الجابري (تونس) وغيرهم.
وقد استدعى ذلك مواكبة نقدية تراعي طبيعة التغير الثقافي، ولاسيما تأثير وسائل الاتصال في الأدب والنقد.
4-2- اللغة العربية والمعلوماتية:
تبدلت النظرة إلى اللغة العربية تبدلاً كبيراً خلال العقدين الفائتين بتأثير ثورة المعلومات، بل جاوز التبدل إلى التأثير العميق في خصائص منظومة اللغة العربية وعلائقها الداخلية والتعبيرية والوظيفية في الكتابة الإبداعية الروائية والقصصية، وفي نقدها الذي مال إلى المناهج الحديثة وطرائقها البحثية، وقد ساهم التفجر المعلوماتي في تكونها من الحاسوب، إلى «المالتي ميديا»، إلى الأنترنت، وهي شبكة معلوماتية كونية ومحلية جعلت التواصل المعرفي ونهاجياته وتقاناته وإجراءاته مختلفة عما كانت عليه قبل هذين العقدين، وصار الحديث عن الكتاب الإلكتروني باستعمال الكتابة الحاسوبية وقابليات التأليف والتوثيق وثراء تعدد الوسائط، في متناول اليد، مما يتدخل إلى حدّ كبير في تنظيم عمل المخيلة الإبداعية، وفي انتظام منهجية محددة للعمل النقدي في آن واحد.
ويظهر هذا التبدل العميق في اللغة العربية في تأملنا لتطور استجابة اللغة العربية لهذا التفجر المعلوماتي، منذ الدورة السابقة لمؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي (الرباط 1989)، فقد تفاقمت الحساسية العربية إزاء التحديات التي تواجه اللغة العربية، فحملت الدورة شعاراً شديد الدلالة هو «اللغة العربية هويتنا القومية».
قدم لهذه الدورة أكثر من عشرة بحوث لعدد من كبار الخبراء والاختصاصين أمثال شكري فيصل وتمام حسان وعلي الشابي وإبراهيم عبد الله رفيدة وجميل عيسى الملائكة والطيب البكوش وإبراهيم بن مراد ومحمد رشاد الحمزاوي ومحمد مصطفى بن الحاج وزكي الجابر، ومحمد السويسي ومحمد خليفة الدناع ويوسف الخليفة أبو بكر، وطبعت هذه الأبحاث في كتاب «من قضايا اللغة العربية المعاصرة» (1990).([55])
إن ثمة نظرة جديدة وتعاملاً جديداً للغة العربية في البحث العلمي، ومنه النقد، لابدّ من أخذهما بالحسبان، فقد توصل الباحثون العرب إلى نتائج هامة تتعلق بالمعالجة الآلية للبيانات العربية، منها:
- طرق تخزين البيانات واسترجاعها.
- المعاجم العربية لإصلاح التهجئة.
- برامج تدقيق الإملاء الصرفية والنحوية.
- المحلل الصرفي.
- برامج تحليل الإعراب النحوي.
- برامج التحليل الدلالي.
- برامج توليد الكلمة في اللغة العربية([56]).
ثم صدر مؤلف من «قضايا فكرية» عن «لغتنا العربية في معركة الحضارة» (1997)، والبارز في مقالاته وأبحاثه المكتوبة بأقلام نخبة من المفكرين والعلماء والأدباء والنقاد، ثلاثة أمور، الأول توكيد منزلة اللغة العربية في تدعيم أبحاث الهوية، والثاني هو مقدرتها على التجدد والأصالة، وفي صلب ذلك مواجهتها للتحدي الاتصالي والمعلوماتي، والثالث هو استجابتها البطيئة والقاصرة والتخلف على الرغم مما تحقق لها من تجديد وتطوير وتطويع نسبي لمقتضيات العصر وحاجات التطور المجتمعي العربي بجوانبه الإبداعية والتنموية والإنتاجية جميعها.
وكانت شهادة خليل النعيمي (سورية)، وهو روائي وطبيب وجراح. درس الطب والفلسفة في جامعة دمشق، ويعمل حالياً في مستشفيات باريس، في منتهى الأهمية عن ثراء اللغة العربية واستجابتها الدائمة للتجدد والتأصيل، مما يفسر سيرورتها وبقاءها واحتضانها للغة العلوم والمعلوماتية:
«أما الصبغيات (الكروموزوم)، والمعلوماتية (الأنفورماتيك)، والعصب الودي (السمبتاوي)، والبطين (فالتريكول)، وهو بطين القلب التشريحي، والشغاف (بيريكارد) وهو الذي يحيط بالقلب، ويحميه، أي شيء أكثر تعبيراً عن هذه المهمة من الشغاف؟. ولابد أن كلمة الشغف، اشتقاقاتها جاءت من هذه الإحاطة الحميمة، وغير هذه من التعابير والكلمات المعربة التي درسناها في جامعة دمشق، وهي التي باستطاعتها أن تضفي بعداً جديداً على اللغة، وتعبر، في الوقت نفسه، عن طاقة هذه اللغة على التجدد والتطور»([57]).
وتحدث النعيمي عن فضل اللغة عليه كاتباً وطبيباً جراحاً، لأن «اللغة بلا علم هي لغة خرساء»، ولأن التعريب ليس دائماً تخريباً، «إنه، على العكس سلاح إضافي بالنسبة للطبيب العربي مثلاً، و«لغة الدراسة ولغة الممارسة هي نفسها، وإذا ما قرر أن يتخصص، فإنه بالتأكيد سيكون قادراً على تخطي عوائق تعلم لغة جديدة»([58]).
وتميز بحث نبيل علي (مصر) «نحو نظرة أشمل للغة»، في تصديه المبكر والدقيق للغة العربية والمعلوماتية، وهو صاحب أول مؤلفين باللغة العربية عن هذه القضية الشائكة والهامة: «اللغة العربية والحاسوب» (1988)، و«العرب وعصر المعلومات» (1994). وقد عالج علي اللغة ضمن المحاور التالية:
· الدور الأكثر خطورة الذي تلعبه اللغة في مجتمع المعلومات.
· الموقع الأكثر أهمية الذي تحتله اللغة حالياً على خريطة المعرفة الإنسانية.
· الإشكالية الأكثر تعقيداً التي تصاغ في قالبها قضية اللغة.
· التوجهات الأكثر تعدداً لتناول إشكالية اللغة وأمور معالجتها آلياً بواسطة الكمبيوتر([59]).
لقد وضع نبيل علي الملح على الجرح، على أن السبيل متاح لمجاوزة الراهن غير المرضي، باللجوء إلى المجالات التالية:
· تكنولوجيا المعلومات كأداة للإحصاء اللغوي.
· استخدام تكنولوجيا المعلومات في معالجة الكتابة العربية.
· تكنولوجيا المعلومات كأداة للصرف العربي.
· تكنولوجياالمعلومات كأداة للنحو العربي.
· استخدام تكنولوجيا المعلومات في الفهم الأتوماتي للسياق اللغوي.
· تكنولوجيا المعلومات في تحليل النتاج الأدبي وأساليب الكتاب.
· تكنولوجيا المعلومات كأداة لمكننة المعجم العربي.
· تكنولوجيا المعلومات كأداة لدعم العمل المصطلحي.
· تكنولوجيا المعلومات في مجال الترجمة الآلية.
· توليد الكلام العربي وفهمه آلياً([60]).
أجل، تبدلت النظرة إلى اللغة العربية وممارستها في المجالات كافة بتأثير ثورة المعلومات، ولم يكن الأدب والنقد الأدبي بمنجاة من ذلك.
5- تنامي أبحاث الهوية:
تفاقمت المخاطر المحدقة بالذات القومية أثر هزيمة 1967، مما دعا إلى أمرين متلازمين في الفكر العربي، الأول هو موجة نقد الذات، وأطلقه صادق جلال العظم (سورية) في كتابه الشهير «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1969)، والثاني تنامي أبحاث الهوية وعياً بالذات، وبالتاريخ العربي، وبالآخر الأجنبي، الذي صار إلى تأزم ضاغط على الوجدان المهيض، وكنت بينت في بحثي «أزمة الذات في الرواية العربية» (عالم الفكر 1996) أن الرواية هي الفن الحديث الأكثر تعبيراً عن تحديات الحداثة في المجتمع العربي، حتى صار الفن سجلاً دقيقاً للصراع الحضاري الذي تعرف فيه العرب إلى ذاتهم، وإذا كان الفكر العربي في عصر النهضة قد عكس ـ صراحة ـ تباين الموقف من الهوية العربية الحضارية، وتصاعد مللاً واتجاهات وتيارات عصفت بالعرب، في محن الموقف من الخلافة، أو الصدام مع الغرب الاستعماري، أو امتحان الاستقلالات الوطنية وتعارض المشروع العربي مع المشروع الصهيوني بقيام الكيان الإسرائيلي في قلب الوطن العربي، وفي المحن المتتالية مع استقطاب العرب الدولي، عسكرياً وإيديولوجياً وسياسياً، فصار العرب أكثر من عرب، متوزعين على معسكرات خارجية، ومنقسمين على أنفسهم في تحالفات أو متاريس غذتها أوهام ومصالح لم تكن عربية في صميمها، وكانت الخلافات العربية ـ العربية التي تطورت إلى الاقتتالات العربية بين قطرين عربيين أو أكثر، أو بين فئات القطر العربي الواحد، في حروب أهلية، أو مسلسلات الإرهاب، والاغتيال على «الهوية»، ويا لها من هوية مغدورة‍! وكان العجز الصريح عن الوفاء لأهداف المشروع العربي في التوحيد والحرية والدمقرطة والعلم والعدالة والمساواة والتقدم الاجتماعي، وهي مجموعة قيم المجتمع المدني التي لا تزال جوهر التحدي الحضاري، وكانت الهزائم العربية المتتالية أمام «إسرائيل» والغرب الأوروبي والأمريكي، وانتعشت الدولة القطرية، واعترف العرب بعجزهم، وبالتباس مفهوم الهوية في ممارستهم السياسية، وصار ذلك واقعاً جديداً مع حرب الخليج الثانية التي وضعت الذات العربية في أزمة([61]).
ناضل العرب طويلاً من أجل حريتهم إزاء الغرب الغازي، المحتل، المستعمر، في حركات الاستقلال التي استمرت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الحرب العالمية الثانية في بعض الأقطار العربية، وإلى الخسمينيات والستينيات في أقطار أخرى مثل المغرب وتونس والجزائر واليمن الجنوبي. وعرفوا أثناء مقاومتهم المديدة للاستعمار الغربي أن عليهم أن يواجهوا أعداء في الداخل عششوا بتأثير قرون من استعمار مختلف هو الاحتلال العثماني، في ذلك الانحطاط الداخلي والتخلف المروع للعرب عن مستعمريهم الغربيين الجدد، وفي تلك المفارقة الفظيعة بين التقدم الأوروبي، والتخلف العربي، عولجت ثنائية التقدم والتخلف، وفي مقابلهما ثنائية التنمية والتبعية. ويطرح كتاب خالد زيادة (لبنان) «اكتشاف التقدم الأوروبي ـ دراسة في المؤثرات الأوروبية على العثمانيين في القرن الثامن عشر» (1981) السؤال الجوهري في سياقه التاريخي، ففي «نهاية القرن الثامن عشر والبدايات الأولى للقرن التاسع عشر، كان التقدم الأوروبي قد أحاط العالم الإسلامي برمته. فنشأ التفكير في هذا الإقليم أو ذاك بضرورة الأخذ بالتقنيات الحديثة، والتعرف إلى الأنظمة التي جعلت من الدول الأوروبية بلداناً متفوقة على غيرها من بلدان العالم. في هذا الإطار تكتسب التجربة العثمانية أهميتها الخاصة، لأن العثمانيين كانوا من أوائل الذين تنبهوا إلى التقدم الأوروبي، وعملوا على الاستفادة منه، ولأن الدولة العثمانية كانت لا تزال تمثل حتى ذلك الوقت الدولة الإسلامية الأقوى»([62]).
وليس بمقدورنا أن نحصي المقالات والأبحاث التي تصدت لهذه الثنائية، ولكننا نتعمد الوقوف عند بعض الصوى للاسترشاد بسبل التصدي لها في الثقافة العربية الحديثة، وقد ارتفعت وتيرتها في فترة البحث، رفضاً للتبعية، ونشداناً للتنمية والتنمية المستقلة، على أن ذلك هو الطريق الصعبة القاسية التي ينبغي على العرب أن يسلكوها لمواجهة تلك المفارقة الفظيعة بين التقدم الأوروبي والتخلف العربي.

[1]. مصطفى، أحمد أمين: «المناظرات في الأدب العربي إلى نهاية القرن الرابع» ـ دار النمر للطباعة ـ القاهرة 1984 ـ ص232.

[2]. المصدر نفسه ص9.

[3]. التطاوي، عبد الله: «الجدل والقص في النثر العباسي» ـ دار الثقافة والنشر للتوزيع ـ القاهرة 1988 ـ ص7.

[4]. المعاملي، شوقي محمد: «السيرة الذاتية في التراث» ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة 1989 ـ ص1.

[5]. المصدر نفسه ص3.

[6]. المصدر نفسه ص52.

[7]. حافظ، صبري: «أفق الخطاب النقدي» ـ دار شرقيات ـ القاهرة 1996 ـ ص248.

[8]. خليل، خليل أحمد: «مضمون الأسطورة في الفكر العربي» ـ دار الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت 1973 ـ ص7.

[9]. المصدر نفسه ص35.

[10]. علي، فاضل عبد الواحد: «الطوفان في المراجع المسمارية» ـ جامعة بغداد ـ مطبعة أوفست الإخلاص ـ بغداد 1975 ـ ص7.

[11]. علي، فاضل عبد الواحد: «سومر: أسطورة وملحمة» ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1997 ـ ص6.

[12]. حسن، حسين الحاج: «الأسطورة عند العرب في الجاهلية» ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت 1988 ـ ص ص117-132.

[13]. عجينة، محمد: «موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها» ـ دار الفارابي ـ بيروت والعربية محمد علي الحامي للنشر والتوزيع ـ تونس 1994 ـ الجزء الثاني ـ ص ص233-340.

[14]. ناصف، مصطفى: «رمز الطفل: دراسة في أدب المازني» ـ الدار القومية للطباعة والنشر 1965 ـ ص5.

[15]. المصدر نفسه ص113.

[16]. المصدر نفسه ص286.

[17]. الفيصل، سمر روحي: «نقاد الرواية في سورية: الدكتور حسام الخطيب» في «الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 121 ـ أيار 1981 ـ ص ص 56-58.

[18]. الخطيب، حسام: «سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية الحديثة» ـ معهد البحوث والدراسات العربية ـ القاهرة 1973 ـ ص3.

[19]. المصدر نفسه ص116.

[20]. المصدر نفسه ص ص125-126.

[21]. الخطيب، حسام: «القصة القصيرة في سورية: تضاريس وانعطافات» ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1982 ـ ص6.

[22]. المصدر نفسه ص10.

[23]. المصدر نفسه ص78.

[24]. الزيات، لطيفة: «نجيب محفوظ: الصورة والمثال» ـ كتاب الأهالي رقم 22 ـ القاهرة 1989 ـ ص7.

[25]. المصدر نفسه ص14.

[26]. المصدر نفسه ص16.

[27]. المصدر نفسه ص90.

[28]. الزيات، لطيفة: «فورد مادوكس فورد و.. الحداثة» الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 1996 ـ ص188.

[29]. الزيات، لطيفة: «من صور المرأة في القصص والروايات العربية» ـ دار الثقافة الجديدة ـ القاهرة 1989 ـ ص ص 90-91.

[30]. طرشونة، محمود: «مباحث في الأدب التونسي المعاصر» ـ المطابع الموحدة ـ تونس 1989 ـ ص8.

[31]. صبحي، محي الدين: «البطل في مأزق ـ دراسة في التخييل العربي» ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1989 ـ ص206.

[32]. المصدر نفسه ص8.

[33]. المصدر نفسه ص82.

[34]. صبحي، محي الدين: «أبطال في الصيرورة ـ دراسات في الرواية العربية والمعربة» ـ دار الطليعة ـ بيروت 1980 ـ ص5.

[35]. المصدر نفسه ص185.

[36]. المصدر نفسه ص7.

[37]. عبد القادر، فاروق: «من أوراق التسعينيات: نفق معتم ومصابيح قليلة» ـ المركز المصري العربي ـ القاهرة 1996 ـ ص11.

[38]. المصدر نفسه ص12.

[39]. المصدر نفسه ص22.

[40]. عبد القادر، فاروق: «أوراق أخرى من الجمر والرماد ـ متابعات مصرية وعربية 1986-1989» ـ مؤسسة العروبة للطباعة والنشر ـ القاهرة 1990 ـ ص8.

[41]. عدة مؤلفين: «دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي» (جزءان) ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـ تونس 1985 ـ ج2 ـ ص272.

[42]. الخطيب، حسام: «سبل المؤثرات الأجنبية» ـ مصدر سابق ـ ص44.

[43]. أشارت سامية أسعد إلى شيوع مثل هذه الشروط وتمثل المترجمين لها، وهي: 1- معرفة اللغة الأجنبية، 2- معرفة اللغة التي يترجم إليها النص، 3- القدرة على التحليل والإدراك الأدبي، 4- رؤية النص من الداخل.
انظر بحثها «ترجمة النص الأدبي» في «عالم الفكر» (الكويت) المجلد 19 ـ العدد 4 ـ يناير ـ فبراير ـ مارس 1989 ـ ص24.

[44]. في إحصاء أولي تقريبي زاد عدد الكتب النقدية المترجمة عن الرواية والقصة عن تسعين كتاباً.

[45]. بو عناني، مختار: «بيبلوغرافيا الرسائل الجامعية في الدراسات الروائية» في مجلة «تجليات الحداثة» (وهران) ـ العدد الثالث ـ يونيو 1994 ـ ص ص204-220.
ويلاحظ أن حركة تعريب الكتب الأجنبية عن القصة والرواية العربية بازدياد خلال فترة البحث، مما يدل على المكانة التي بدأت تتبؤأها في إطار عالمية القصة والرواية، وأذكر بعض هذه الكتب:
- الن، روجر: «الرواية العربية ـ مقدمة نقدية» (ترجمة حصة منيف) ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1988.
- كربوشويك، ب. م: «الإبداع القصصي عند يوسف ادريس» (ترجمة وتقديم رفعت سلام) ـ دار سعاد الصباح ـ الكويت 1993.
- عدة مؤلفين: «الإبداع الروائي اليوم» (ترجمة ابراهيم العريس) ـ (وهو عن أعمال لقاء الروائيين العرب والفرنسيين في معهد العالم العربي بباريس 1988) ـ دار الحوار ـ اللاذقية 1994.
- ستاغ، مارينا: «حدود حرية التعبير: تجربة كتاب القصة والرواية في مصر في عهدي عبد الناصر والسادات» (ترجمة طلعت الشايب) ـ دار شرقيات ـ القاهرة 1995.
- براجوكينا، سفتيلانا: «حدود العصور، حدود الثقافات: دراسة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية» (ترجمة ممدوح أبو الوي وراتب سكر) - اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1995.
وميزة الكتاب الأخير أنه نظرة منصفة لتطور الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية ورحلته من أدب استعماري إلى أدب قومي استهداءً بانفتاحات النقد الماركسي في فهم النظرية الأدبية للعلاقة المتبادلة بين الفن والواقع.

[46]. ايفاشيفا، فالنتينا: «على مشارف القرن الواحد والعشرين ـ الثورة التكنولوجية والأدب» ـ (ترجمة فخري لبيب) ـ دار الثقافة الجديدة ـ القاهرة 1984.

[47]. غوليكا، ارسيني: «الفن في عصر العلم» (ترجمة جابر أبي جابر ـ مراجعة شوكت يوسف) ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1985 ـ ص ص5-6.

[48]. عدة مؤلفين: «النقد الأدبي الحديث بين الأسطورة والعلم» (ترجمة محي الدين صبحي) ـ الدار العربية للكتاب ـ ليبيا ـ تونس 1988 ـ ص ص14-15.

[49]. الفن في عصر العلم - ص ص 5-6.

[50]. عوض، رمسيس: «دراسات تمهيدية في الرواية الإنجليزية المعاصرة» ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1971 ـ ص ص253-254.

[51]. على مشارف القرن الواحد والعشرين ص18.

[52]. علي، نبيل: «العرب وعصر المعلومات» ـ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت 1994 ـ ص ص310-317.

[53]. كنت قمت بدراسة معمقة لرواية عربية من سورية تنتمي إلى موجة الرواية الاستهلاكية، وهي رواية «المدينة الأخرى» لخيري الذهبي. انظر كتابي: «الأدب والتغير الاجتماعي في سورية» ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1990،ص ص307-314.

[54]. نشرت الرسائل في كتاب عن «أخبار اليوم» ـ القاهرة 1978.

[55]. الراوي، مسارع حسن وآخرون: «من قضايا اللغة العربية المعاصرة» ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـ تونس 1990.

[56]. المصدر نفسه ص6.

[57]. النعيمي، خليل: «فضل اللغة: تجربة ذاتية في تدريس الطب بالعربية». في «قضايا فكرية ـ لغتنا العربية في معركة الحضارة» ـ القاهرة 1997 ـ ص175.

[58]. المصدر نفسه ص177.

[59]. علي، نبيل: «نحو نظرة أشمل للغة» ـ المصدر نفسه ـ ص298.

[60]. «العرب وعصر المعلومات» ـ مصدر سابق ـ ص ص 369-380.

[61]. أبو هيف، عبد الله: «أزمة الذات في الرواية العربية» في مجلة «عالم الفكر» (الكويت) ـ المجلد 24 ـ العدد 4 ـ إبريل ـ يونيو 1996 ـ ص ص 25-26.

[62]. زيادة، خالد: «اكتشاف التقدم الأوروبي ـ دراسة في المؤثرات الأوروبية على العثمانيين في القرن الثامن عشر» ـ دار الطليعة ـ بيروت 1981 ـ ص10.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59