عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 11-26-2012, 10:22 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

وميز بادئ ذي بدء بين المبادئ والمقولات والتجليات، فربط المبادئ بالثبات ووصلها بالجنس، والمقولات بالتحول، ربطها بالنوع، وجعل التجليات ترتبط بالتغير، ووصلها بالنمط، وفرّق بين ثلاثة أجناس للكلام العربي، هي الخبر والحديث والشعر، وانصب اهتمامه بعد ذلك على الخبر، من حيث أنواعه وأنماطه، واجتهد لموقعة «السيرة» إلى جانب الخبر والحكاية والقصة، باعتبارها من الأنواع الخبرية أو السردية الأصلية. ثم جعل القصة متصلة بالمبادئ لأنها مأوى الجنس الأدبي، والخطاب متصلاً بالمقولات «النوع»، وكان النص عنده مرتبطاً بالتجليات (النمط). ورأى أن السرديات النصية لا يمكن أن تكتمل، أو تتكامل إلا بمعالجتها السرد من حيث هو قصة، من خلال «سرديات القصة»، والسرد من حيث هو خطاب «سرديات الخطاب»، ثم درس السيرة الشعبية من حيث هي «قصة» من خلال التركيز على الحكائية باعتبارها الخاصية التي بواسطتها تنتمي السيرة إلى جنس الخبر أو السرد، في كتابه التالي «قال الراوي».
في تأطيره من أجل تصور متكامل لدراسة السرد العربي، اعتمد يقطين على امبرتو ايكو في تسويغ تطوير الفكر بفحص الماضي، لا برفضه. «إننا نعيد فحصه ليس فقط بهدف معرفة ما قيل فعلاً، ولكن أيضاً بهدف ما كان يمكن أن يقال، أو على الأقل ما يمكننا قوله الآن، بناء على ما قيل سلفاً»( )، وهذا إحدى قواعد المنهج العلاماتي والتفكيكي المعرفي المتمثل في إنجاز التناص الذي استعمل باتساع أيضاً في اتجاه شعرية السرد. ويسجل في هذا السياق على يقطين إنكاره للجهود النقدية السابقة على شغله، وهو العارف بغالبيتها وبقيمتها، وثمة بعضها سامق، ويسبق اجتهاداته، كما لاحظنا، وسنلاحظ في أثناء الحديث عن نقد الموروث السردي الأدبي. لقد حكم على القراءات والتصورات السابقة، إجمالاً، أنها «عاجزة عن تحقيق المبتغى الذي نرمي إليه، لأنها بكلمة وجيزة لم تأخذ بأسباب البحث العلمي، التي ننطلق منها، في معالجة الجوانب التراثية»( ).
إن كثيراً من اجتهادات يقطين مسبوقة، وكان الأولى أن ينطلق من جهود النقاد والباحثين لبناء مشروعه. ولربما كان مرد ذلك إلى القطيعة المعرفية العربية. وثمة ما يثير الاهتمام والتساؤل أيضاً مع ناقد مؤصل للمناهج النقدية الحديثة، هو أنه لا يرى إلا شغله النقدي قادراً على الاستمرار والتحول من جهة، وعلى التبلور والامتداد من جهة أخرى، وأنه يجد نفسه يلتقي مع الأدبيات النظرية الأجنبية وحدها في بلورة مشروعه النقدي( ).
مثلما يلاحظ على مشروعه أنه ما يزال في قيد الاشتغال بالنظر إلى شكل موقع السرديات وموضوعاتها، أو تثمير مجال السرديات الحصرية والسرديات التوسيعية المأخوذة عن جيرار جينيت لإيغاله في التنظير، والتماس تطبيقه على الموروث السردي العربي بعد ذلك، ويبدو تصميمه لشكل السرديات الخاصة والسرديات العامة غير مقنع، لأن يقطين، على خلاف عدد كبير من النقاد والباحثين العرب، لا ينطلق من النسق الثقافي العربي، لغوياً وبلاغياً ونقدياً، بل يعمد إلى اجتلاب النهاجية الغربية، وهو جهد أظهره باتساع وعناية في كتابين سابقين، عن تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي، سنعالجهما في الفصل التالي. ومن ذلك طرحه لأسئلة من خارج الثقافة العربية ونصوصها، مثل الملاءمة العلمية والملاءمة الاجتماعية كما وضحها بوبر:
«1- نمط من البحث العلمي الذي يمكن أن يساهم في حل بعض القضايا العلمية.
2- في علاقة هذا البحث مع أبحاث علمية أخرى في المجال نفسه.
3- في علاقته، أيضاً، مع أبحاث أخرى في مجالات أخرى»( ).
أكد يقطين على البعد القومي لبحثه باستمرار، إذ رأى أن «إنتاج الوعي الجديد لا يتأسس إلا على قاعدة تقديم معرفة جديدة وجذرية، وقد يكون رافداً من روافد تثبيت الهوية الثقافية والاجتماعية ونظم عناصرها ومكوناتها أمام العناصر الطارئة، والتحولات التاريخية. وقد يكون أخيراً سؤالاً للبحث عن الهوية المفتقدة والكيان المهدد»( ). ويلاحظ هنا أيضاً استغراق يقطين في المقدمات الإنشائية وأحكام القيمة التي تتعارض أحياناً مع دواعي البحث العلمي، ولا تخلو في الوقت نفسه من مزاعم، لأن غالبية آرائه مسبوقة، كما أشرنا. وأشير إلى بعض الأمور من حديثه عن «النص واللانص في الثقافة العربية»، فقد ذكر أسساً لبعض الثنائيات، وهي المتكلم والمتلقي، ونوع الكلام، وقصد الكلام، وهي فكرة طالما نوقشت لدى الباحثين والنقاد، ثم ذكر أسباباً تجعل القصص مكروهاً، مبنية على حكم فقهي متأخر لابن وهب وابن الجوزي مما يتكرر بأشكال متعددة لدى المفسرين والفقهاء بصورة عامة، بينما أثبت عبد الله إبراهيم في كتابه «السردية العربية» (1992) أنه رأي غير شامل، لأن ثمة آراء تجافيه، وذكر رأياً مماثلاً عن الرأي الأخلاقي في العمل الفني، وهو أمر جاوزته الثقافة العربية والنقد العربي منذ زمن طويل، مع حازم القرطاجني على وجه الخصوص، كما بين إحسان عباس في كتابه «تاريخ النقد الأدبي حتى القرن الثامن الهجري: نقد الشعر» (1971)، واستخرج معايير اللانص من مقالات محمد عبده ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي، وليس مثل ذلك مقبولاً، لأن المعايير تستخرج من تشكلات هذه المعايير في الثقافة العربية القديمة بالدرجة الأولى. وعلى العموم، لم يستطع يقطين أن يسوغ حكماً لا يحتاج إلى مثل هذا الجهد الطويل والمضني، وهو انتقال السيرة الشعبية من وضع اللانص إلى النص( )، فالسيرة الشعبية تنتمي إلى الأدب الهامشي، ولذلك يبدو تخصيصه للفصل الذي يتناول السيرة الشعبية بوصفها بحثاً محجوزاً مما لا طائل وراءه، ولا تزيد فيه، ناهيك عن بعض الأحكام المطلقة التي بثها يقطين، وتستوجب البرهنة عليها، وقد جاوزه على عجل، مثل الاضطراب في لائحة الأجناس أو الأنواع التي أضفيت على السيرة الشعبية( ).
ولدى عرضه للدراسات العامة والخاصة العربية حول السيرة الشعبية، يستغرب المرء من تهوين يقطين لها، والتقليل من شأن الباحثين والنقاد الآخرين، فهو قال عن دراسة عبد الله إبراهيم المشار إليها، ما يثير العجب والاستغراب:
«ولما كانت مقاربته، يقصد عبد الله إبراهيم، لهذه الجوانب التي تستدعي التحليل الجزئي متسرعة ومجتزأة، لم نتبين الخصوصية السردية للسيرة الشعبية، ولا خصوبة الأدوات السردية التي اشتغل بها»( ). وتتكرر هذه الآراء المستغربة والعجيبة في أكثر من مكان في دراسته.
والسؤال هو كيف ننفي السجال عن شؤون وعي الذات، بينما لم يفعل يقطين سوى التنظير واكتشاف ما هو معروف بعد أكثر من مائة صفحة: «وبهذا يمكننا الذهاب إلى أن العرب عرفوا ديواناً آخر غير الشعر، هو السرد»، و«أن الكلام هو الاسم الجامع الذي يستوعب النظم والنثر»( ).
وعندما دخل يقطين في إيضاح مشروعه لدراسة السرد العربي، أطلق أحكاماً تحتاج إلى تدقيق، وأمعن في التداخل الشكلاني غير المقنع، كما في حديثه عن «الجنس والنص في الكلام العربي»، فقد عالج موضوعه من خلال ثلاثة محاور هي:
1- مبادئ، مقولات، وتجليات.
2- الجنس، النوع، النمط.
3- القصة، الخطاب، النص.
ثم ينتقل من الأعم إلى الأخص مروراً بالخاص على النحو التالي:
1- الجنسية: باعتبارها الموضوع الذي يتحقق من خلال الكلام.
2- السردية: التي يعتمد الكشف عنها من خلال حضور جنس السرد في نص محدد.
3- النصية: وهي التي نبحث فيها من خلال التجليات النصية.
ويحدد المبادئ بالثبات والتحول والتغير، ويرصد الكلام في ذاته من خلال البحث في عناصره الجوهرية الثابتة، وفي صفاته البنيوية من جهة ثانية، وفي تفاعلاته مع غيره، وفي صيرورته. أما الأنماط فتتصل بالأساليب: السامي، المنحط، المختلط، ثم مضى في «فذلكة» العلاقة «من التراث إلى النص، ومن النص إلى الكلام إلى الكتب، ومن الكتاب إلى المجلس، أمام العودة مجدداً إلى النص، من خلال ما أسميناه بـ«التجليات النصية»، وذلك عبر جنس محدد هو «الخبر»، لتبيين كيف يتجلى من خلال نص معين هو السيرة الشعبية»( ).
ووضع يقطين بعد نقاش طويل، ليس نافعاً كله، وهو مسبوق في غالبيته، إلى تركيبه عن السرد والسرديات مستعيناً ببروب وذريته عن الأفعال والفواعل والزمان والمكان (الفضاء) والحكائية ضمن إطار لعلم السرديات أوجزه فيما يلي:
«أ- أن تنفتح على السرد حيثما وجد (لفظياً كان أو غير لفظي).
ب- أن تنفتح على الاختصاصات التي سبقتها إلى الاهتمام بالمادة الأساسية الحكائية، وأقصد بالضبط «السيميوطيقا السردية».
جـ- أن توسع مدار اختصاصها، لتتجاوز البحث في الخطاب، إلى ما أسميناه بـ«النص» من حيث أنماطه المختلفة، وتفاعلاته النصية المتعددة، وفي هذا المضمار عليها أن تنفتح على مختلف عطاءات العلوم الإنسانية والاجتماعية»( ).
وهكذا، خلص إلى نتيجة معروفة في الاتجاهات النقدية الجديدة: سرديات القصة، سرديات الخطاب، سرديات النص، تمهيداً لتناول السيرة الشعبية على أساس هذه النتيجة في كتابه التالي «قال الراوي» (1997) بوصفها تجلياً سردياً.
أهدى يقطين كتابه التالي إلى عبد الحميد يونس رائد الدراسات الشعبية، ومحمد مفتاح باحثاً ومجدداً، أي أنه جمع بين تأصيل الموروث السردي، والتجديد في النقد الأدبي، ولذلك عمد إلى «تأكيد كون السيرة الشعبية نصاً واحداً ثقافياً، وعبر ربط النص بالسياق الثقافي ـ الاجتماعي تأكد لدينا كون السيرة الشعبية موسوعة حكائية تلتقي مع التصنيف الموسوعي الذي تبلور في القرنين الهجريين الثامن والتاسع»( ).
لم يغفل يقطين في مقدمته عن استنكار جهود النقاد والباحثين الآخرين، بينما كان من المجدي أن يباشر بحثه مستغنياً عن ثلثي كتابه السابق على الأقل، ومعتمداً على هذه الجهود التي طالما قلل من شأنها، بينما لم يتوصل في بحثه إلى شيء كثير زائد عن هذه الجهود، لأن مقدماته عن السرديات والسيميوطيقا والسرديات والحكائية والبنيات الحكائية تفيد دأبه على تطبيقها مباشرة على السرد العربي والبنيات الحكائية في السيرة الشعبية، بينما لم ينبثق هذا التطبيق، وهذا التنظير من قبل، من داخل الأنساق الثقافية والمعرفية والنقدية العربية، كما فعل عبد الفتاح كيليطو، بشكل واسع، وعبد الله إبراهيم ومحسن الموسوي، بشكل واضح.
خصص يقطين الفصل الأول للأفعال ـ الوظائف في السيرة الشعبية، والثاني للشخصيات، الفواعل، العوامل، والثالث للبنيات الزمانية، والرابع للبنيات الفضائية، والخامس للبنيات والوظائف على سبيل تركيب مفتوح: السيرة الشعبية نص مفتوح، السيرة الشعبية نص ثقافي، السيرة الشعبية والسياق النصي.
لا أريد الخوض في مناقشة تطبيقات يقطين التي تنحاز كلية للمأثور النقدي للاتجاهات الجديدة، ولا سيما العلاماتية وشعرية السرد مما أوضحه في كتابيه السابقين عن «تحليل الخطاب الروائي» و«انفتاح النص الروائي».
2- نقد الموروث السردي الأدبي:
2-1- ما لبث النقد الجديد للموروث السردي الأدبي العربي أن بدأ على استحياء في آواخر السبعينيات، وكان النقد اللغوي الخالص المتأثر بنهاجيات علمية هو المحاولة الأولى في كتاب، فقد وضع المنصف عاشور (تونس) دراسة إحصائية وصفية عن «كليلة ودمنة» تحت عنوان «التركيب عند ابن المقفع في مقدمات كتاب كليلة ودمنة» (1982)، وهو نقد مغاير للموروث السردي، تصير معه الحكاية إلى نص لغوي. وقد صرح عاشور بغايات دراسته وطبيعتها في مقدمته العامة، فهو قصد إلى دراسة لغوية وصفية مغتنياً بالجملة والتركيب مستفيداً من النهاجيات العلمية الحديثة، ولا سيما المنهجية الإحصائية، من خلال المراحل التالية: تقسيم التراكيب، تحديد نوعيتها، عدد المؤلفات المباشرة، توزع المؤلفات المباشرة، طرق الربط بين الملفوظات في السياق الكلامي، تحليل البنى السطحية والعميقة، وملاحظة العلاقات الممكنة بينهما، ودرجة البساطة، أو التعقد في كل ملفوظ، جمع الأشباه والنظائر والتركيز على العملية الإسنادية، التعليق على الظواهر الطريفة تركيبياً ومدلولياً، تحديد الخصائص الكبرى للكتابة عن ابن المقفع.
درس عاشور مدى الأصالة اللغوية، ومدى اللحن، ومدى تفاعل لغته الفارسية مع العربية، وغفل تماماً عن السرد، وقد نظرنا إلى هذا الكتاب لأنه معني بموروث سردي عربي، مما يشي بقيمته في التراث الأدبي العربي لدى الباحثين والنقاد، وبما يجعله أهلاً لدراسة الجملة العربية: «وما الشروع في الدراسات اللغوية الخاصة بالتركيب إلا خطوات أولية تؤدي إلى «شغف علمي» وحرص «لغوي» كان له مداه ومفعوله في محاولة اعتماد معطيات مبدئية في كل دراسة نحوية. ولعلنا سعينا إلى فهم خصائص الجملة بإتباع طريقة الوصف والإحصاء من زاوية الواصف اللغوي»( ).
2-2- ولربما كانت دراسة قاسم المقداد (سورية)«هندسة المعنى في السرد الأسطوري الملحمي: جلجامش» (1984) أول محاولة نقدية للموروث السردي العربي تلتزم مباشرة بالنقد الجديد للقصة والرواية، ولا سيما الشكلانيين الروس والبنيويين ونقاد شعرية السرد، وقد لحظ ذلك جورج كاساي في تقديمه للكتاب الذي رأى فيه عملاً معقداً يهدف في نهاية الأمر إلى تفكيك آليات السرد القصصي، على الرغم من الحرج والصعوبة اللذين جاوزهما بمهارة، كونه يطبق هذا المنهج الجديد على «نص محترم، مثل ملحمة جلجامش، نظراً لقدمه، وطابعه المقدس»( )، وأبدى كاساي إعجابه الشديد بالبحث، وبخاصة ما كتبه المقداد عن «النص المؤسس»، وما يضمه هذا المفهوم، أي، نستطيع تسميته بإيديولوجية جلجامش (التوراة والأسطورة اليونانية والقرآن).
دعا المقداد في مقدمته لدراسته إلى قبول مصطلح «هندسة»، على الرغم من أنه ينتمي إلى فرع معرفي آخر، «فالمعنى» يرتبط «بالهندسة» ارتباطاً وثيقاً، الهندسة هي إعطاء المجرد شكلاً هادياً، وترتيباً منطقياً ومنسجماً، وأشار إلى نشوء تيار «الملفوظية» في تحليل الحديث إشارة إلى ترجمة لكتاب الملفوظية( )، وما يؤدي إليه مثل القول بأن الكلمة ليست بديل الشيء، اتفاقاً مع رومان جاكوبسون، وأن المعنى هو محصلة العلاقات التي تقيمها الكلمات فيما بينها ضمن كل عام متماسك ومنسجم، وأن كل عمل تحليلي يخضع لعاملين ذاتي وموضوعي، وذكر المقداد أسباباً ذاتية لاختيار جلجامش، أما الأسباب الموضوعية فهي:
«1- تعتبر ملحمة جلجامش من أقدم التراث الأدبي الإنساني، إن لم تكن أقدمه، إذ يرجع تاريخها إلى أبعد من القرن الأول قبل ميلاد المسيح، على أنها ماتزال محافظة على شكلها التاريخي والشعري، وعلى مضمونها الفكري. وهي عناصر من شأنها جذب الباحث وإثارة اهتمامه.
2- ملحمة جلجامش هي جزء رائع من تراثنا العربي. وقد كان مهماً دراسة هذا الجزء من التراث على ضوء نظريات النقد الحديثة وعلم اللغة.
3- على الرغم من انتماء الملحمة إلى التاريخ القديم، فإن الموضوع الذي تعالجه لا يزال حياً، ولا يزال يشكل مركز اهتمام البشرية كلها.
4- أما السبب الأخير فيندرج في إطار المغامرة. إذ كيف نطبق منهجية حديثة على نص قديم؟ على نص كامل، ذلك لأن معظم المحاولات في هذا المجال، كانت تكتفي بدراسة وجه واحد من وجوه العمل الأدبي إذا كان بهذه الضخامة»( ).
واستشهد المقداد باستغراب جيرار جينيت نفسه، وهو من هو في ميدان نقد شعرية السرد، حينما سأله عن تطبيق منهجه في التحليل على ملحمة مثل جلجامش، فأجابه: إنها مغامرة، وقد أراد المقداد ركوب المغامرة. واعتقد أن النقد الجديد للقصة والرواية قد كسب ناقداً طليعياً مجدداً بدأ خطوته الأولى مع نقد الأصول، وتعامل مع «نص جديد» بتقديره، لأن «النصوص» تتنفس بشكل مختلف في مختلف اللغات»، على حد تعبير كاساي، وقد درس جلجامش سردياً مترجمة إلى الفرنسية (ثمة ترجمتان الأولى للابا والثانية لعازرية).
مهد المقداد لبحثه بنبذة تاريخية، وبتحديد مصطلحي لبعض القضايا المتعلقة بالرمز والعلامة، ليصل إلى تحليل ما أسماه الظروف الرمزية في القصة، أو تنظيم القصة أو فضاءها، وبحديث عن مفهوم الأسطورة وخصائص الحديث الأسطوري، وكيفية تحول الأسطورة إلى ملحمة. وأدخل المقداد مصطلحاً جديداً من شأنه أن يعطي لجلجامش المكانة التي يستحقها، والمصطلح هو النص المؤسس. ثم حلل تقنية القصة على ضوء المنهج الذي اختاره من جوانب: وظائف القصة أو وحداتها الأساسية، وشخوص القصة، وبخاصة طبيعة العلاقة القائمة بين جلجامش وانكيدو، وتحليل نموذج من الأحاديث النسائية، وبالذات، حديث عشتار، والزمن القصصي، وتوضيح الفروق بين زمن القصة وزمن السرد أو المسرود، ظاهرة التكرار وآثارها على البناء العام للملحمة، وجهة النظر أو المنظور السردي، الحلم ودوره في القصة، وكونه عنصراً من عناصر السرد.
ذكر المقداد في مقدمته أعلام النقد الذين اقتض أثرهم، وهم بروب وجريماس ويلمسليف وبريمون وتودروف وجينيت وميكيا بال وفيليب هامون وغيرهم، أما رولان بارت فقد بالغ في مدحه بما لا يحتمل النقاش؛ بقوله: «أما رولان بارت فلا يسعنا القول عنه سوى أنه هو الذي كان السبب في توجهنا هذا، لأنه كان فوق كل المدارس، وفوق كل التيارات». غير أن المقداد انتقد البنيوية على الرغم من استناده إلى نتائجها في تحليل السرد والتنظيم البنيوي للقصة وإعجابه البالغ برائدها الأكبر بارت، ليس لأن البنيوية منهج خاطئ، بل لمحدوديتها، لأن «النص لا ينتج نفسه. إنه منتوج، يكمن خلفه منتج يخضع بدوره إلى جملة من شروط الإنتاج»( ).
عرف المقداد، على نحو سريع ولماح بالقراءة، دخولاً في قراءة السرديات، مثلما عرف بالأسطورة والرمز دخولاً في تحول جلجامش إلى شكل من أشكال الحديث الأسطوري على سبيل البحث العلامي، وأشار إلى خصائص الأسطورة وتحولها السردي إلى حديث ملحمي، وتوقف عند الخصائص التالية:
1- كثافة الوحدات السردية التي تصف العالم الأسطوري.
2- فورية تتابع الأفعال.
3- تلاصق الوظائف.
4- إثارة خيال القارئ.
5- التساوي بين الشخوص من الناحية الوصفية.
6- المظهر اللامحدود للأسطورة.
واقترح المقداد، كما أشرنا، مصطلح النص المؤسس أو التحتاني، وهو مقارب لمصطلح التناص، على الرغم من رأيه الختامي الذي ينطوي على التباس يحتاج إلى توضيح: «إذا كان مفهوم النص الجمعي (النصوص المتداخلة) يفترض التبادل والتداخل بين النصوص، فإن النص المؤسس لا ينطوي على مثل هذا المفهوم. وحينما نقول بوجود نص ثان، فإن ذلك يعني ببساطة، وجود نص أول، والثاني لا وجود له في حال غياب الأول، تماماً كالعلاقة القائمة بين الأرقام في متسلسلة حسابية»( ).
إن مناقشة هذا المصطلح تفضي إلى نفي التناص عن نص أول، ويعد المقداد «جلجامش» نصاً بكراً ليس على مثال أو منوال، ولربما احتاجت هذه المناقشة إلى حيز ليس مقامه هنا.
شرح المقداد مفهومه للوظائف، الملتبس مع مفهوم الحوافز (الوحدات القصصية الأصغر)، وهي عنده سبع عشرة وظيفة، أي أنه يختزل الوظائف الذي ذكرها بروب، وقد سمى هذه الوظائف على النحو التالي:
الإهانة.
الإضاءة.
الطرف المنصف.
المنافس.
الأحلام (جلجامش يبحث عن صديق).
انكيدو يبحث عن صديق.
الصراع.
الصداقة.
المغامرات.
الإهانة (موجهة إلى الإلهة).
الإساءة.
العقاب.
الموت.
البحث عن السر.
الحصول على السّر.
ضياع السر.
العودة.
واستخرج المقداد، مطوراً تصنيف الوظائف ومبسطاً في مفهوم علاقاتها، علاقات الوظائف، علاقات التناقض أو علاقات السببية أو العلاقات الزمنية أو التحولات السردية، للوصول إلى تشكل القصة من خلال توالد الجمل أو العبارات أو المعاني مما يسبقها، أي ضمن المتتالية السردية للمتن الحكائي. وبحث بعد ذلك في التشابك العلائقي للشخوص من خلال التكامل والصفة التمثيلية والوقائع المفترضة والمساهمة الإخبارية.
وازن بين النظري والتطبيقي في نقده، لئلا يجور أحدهما على الآخر، وهذا ملموس لدى غالبية النقاد المجددين، ولا سيما الرواد في ميادينهم، والمقداد من رواد النقد القصصي والروائي الجديد. ويبدو مثل هذا في تمييزه بين الزمن الأول: سير الأحداث واكتمالها الفعلي، والزمن الثاني: بداية إخراج القصة سردياً، والزمن الثالث حيث يقوم القاص الثاني برواية القصة والسرد معاً.
وعندما تحدث عن وظائف التكرار، رأى أن التكرار الظاهري يخفي العديد من المعاني، وثمة نوعان من التكرار في جلجامش هما: تكرار الكلمات أو التكرار اللفظي، وتكرار المقاطع أو التكرار المقطعي. ومما يحمد للمقداد ناقداً حداثياً أنه جاوز النقد اللغوي، على إغراء ظاهرة التكرار في طبيعتها اللغوية بالأساس، إلى إدغام هذه الظاهرة في المتن الحكائي.
قام المقداد، غالباً، بتطوير منهجية نقدية بنيوية علاماتية، اختزالاً أو تبسيطاً أو مواءمة للموروث السردي، غير أنه يرتهن، أحياناً، لمرجعية نقدية غربية، ولو كانت غير دقيقة، كما في حكمه القاطع والجازم حول أولوية نقاد وجهة النظر أو المنظور السردي، فهو يعد جيرار جينيت من أوائل الذين قاموا بإدخال مصطلح التركيز (ولعل تعريب المصطلح بالتبئير أنسب POCALISATION) أو وجهة النظر POINIDEVEU في مجال تحليل السرد القصصي، بينما المصطلح تطوير لمصطلح وجهة النظر Piont of View( ).
لقد اختط المقداد في بحثه أسلوباً جديداً في نقد السرديات يعتمد على بروب والبنيويين ونقاد شعرية السرد مما سيتعاور عليه غالبية النقاد الجدد الذين حاموا حول هذه المنهجية الحديثة جزئياً أو انتقائياً، توليفاً، أو تطويراً، أو تأصيلاً يسهم في نقد التراث القصصي العربي.
2-3- عمل سامي سويدان (لبنان) على تمثل الاتجاهات الجديدة، ولا سيما النقد العلامي، معطيات علم الدلالة وشعرية السرد، وحوى كتابه «في دلالية القصص وشعرية السرد» (1991) ميله إلى نقد قصصي مختلف عن النقد التقليدي، فثمة وضع متميز «للعمل القصصي لم يقابله اهتمام مماثل في مجال الدراسة والنقد، خاصة من حيث تناول مقوماته الجمالية، والتطرق إلى خصوصياته الفنية»( )، مما دعا سويدان إلى استقصاء بعض أوجه نشاطات النقد والبلاغيين العرب، للتعرف على ما قدموه بشأن الدلالية، انطلاقاً من إنجاز عمل الدلالة اليوم على أيدي أهم أعلامه، ولا سيما أ. ج غريماس Greimas.
لقد سعى سويدان إلى بحث متقص من أجل علم دلالة عربي، يكون بمرتبة مقدمة ترسم الخطوط العامة لدراسة تفصيلية وموسعة ترمي إلى إرساء نظرية تحليلية في دراسة النصوص الأدبية ـ الشعرية انطلاقاً مع معطيات ألسنية ـ نحوية بشكل خاص. ولاحظ أنه لم يفرد للشعرية فصلاً خاصاً بها يستعرض أسسها ومقاييسها ومفاهيمها.
ورأى سويدان أن دراساته النصية للسرد لم تتوقف عند مظهريه: الدلالي والشعري، أو عند الجانب الداخلي للقصص، بل تعدته إلى ذلك الجانب الخارجي المتمثل في الأبعاد الاجتماعية ـ التاريخية والنفسانية ـ الذاتية التي تتيح الانطلاق من المعطيات النصية المطروحة التطرق إليه، فكانت مقاربته المنهجية تعلن في وحدتها تعددية إمكاناتها الأدائية المعرفية والفنية بقصد تعميق البحث في سيميائية أو دلالية القصص وشعرية السرد.
اتجهت دراسات سويدان النصية إلى «سيمياء جمالية القصص الفلسطيني»، و«الدلالات التعليمية والسمات الجمالية في أقاصيص مارون عبود» و«الحس العقلي في النص الخرافي ـ إصلاحية المثقف الحكيم في مواجهة السلطة المستبدة: دراسة نص قصصي في كليلة ودمنة»، ويهمنا في هذا السياق الدراسة الأخيرة.
وضع سويدان مقدمات لدراسته، عالج فيها مصادر كليلة ودمنة، ولا سيما حكاية القرد والغيلم، دخولاً في الطابع الحكمي ـ الخرافي، والجمالي الأدبي، على أن نص الحكاية المثل تعليمي قبل أي شيء آخر، وأن ثمة تلاؤماً بين شعريته وبلاغيته، إذ «تقوم شعرية الحكاية التمثيلية أساساً في تلاؤم الصيغة القصصية مع عقلانية الطرح الخاص بالغاية الإصلاحية التي تحكمها. وإذا كان بالإمكان القول إنه بقدر ما يضعف التلاؤم المذكور في النمط الأول الخطابي بقدر ما تضعف الجمالية الأدبية فيه، وذلك رغم عدم اقتصارها عليه، واعتمادها أيضاً على أوجه من التلاؤم تتعلق بالمستويات الدلالية والنحوية واللغوية الأخرى فيه، فإن بالإمكان قول الأمر نفسه، إنما بصورة متميزة، بالنسبة للحكاية التمثيلية»( ) أي أن سويدان يجعل رمزية الحكاية منطلق الغاية الحكيمة أو التعليمية في فهمه البنية الاستعارية، وهو أمر يتعلق بمبدأ الأنسنة، أي إضفاء صفات الإنسان على الحيوان، ويتساءل المرء عن تجنبه لهذا المبدأ المعروف، والتماسه بدائل بلاغية وبيانية أخرى. وهكذا بذل جهوداً مضاعفة ليستنتج دلالية يظهرها هذا المبدأ دون كبير عناء. ولعله الولع بالشكلانية الذي خاض فيه لرؤية شعرية السرد، مسترسلاً فيما هو قابل للإيجاز في فهم البنية العامة للنص، والبنيات الصغرى الأخرى، فتضاعفت المربعات والأشكال التي لا يحتملها نقد يسعى إلى التأويل، ومادته الكلمات بالدرجة الأولى، واذكر هذه المربعات والأشكال للتعرف على شكلانية سويدان:
المربع السيميائي الأول الخاص بتضييع الغيلم الحاجة بعد الظفر بها.
المربع السيميائي الثاني الخاص بالتماس القرد المخرج من الورطة التي أوقعه الشره فيها.
المربع السيميائي الثالث الخاص بالقدرة الإنسانية على النجاح في المهام المطروحة.
المربع السيميائي الرابع الخاص بعلاقات الصداقة والعداوة.
المربع السيميائي الخامس الخاص بحكمة التمييز بين الحقيقة والوهم.
المربع السيميائي السادس الخاص بالحكمة الوجودية.
المخطط العواملي الأول: مشروع السلطة.
المخطط العواملي الثاني: مشروع المثقف.
المخطط العواملي الثالث الخاص بمشروع الغيلم.
المخطط العواملي الخاص بمشروع القرد.
المخطط العواملي الخاص بالأسد.
المخطط العواملي الخاص بالحمار.
الفضاء القصصي الخاص بالقرد والغيلم.
الفضاء القصصي الخاص بالحمار وابن آوى والأسد.
الجدول الخاص بالتقديم والتأخير في حكاية القرد والغيلم.
الجدول الخاص بالتقديم والتأخير في حكاية الحمار وابن آوى والأسد.
الجدول الخاص بالوصل والفصل في حكاية القرد والغيلم.
الجدول الخاص بالفصل والوصل في حكاية الحمار وابن آوى والأسد.
جدول المخاطبات القائمة في حكاية القرد والغيلم.
ملحق المخاطبات الخاص بأطراف الحوار.
جدول المخاطبات الواردة في حكاية الحمار وابن آوى والأسد.
ملحق المخاطبات الخاص بأطراف الحوار( ).
يمتلك سويدان مقدرة عالية على التحليل السردي، وقد وّظفها توظيفاً مناسباً للكشف عن دلالية الحكاية: العقل مفتاح الظفر، براعة الاحتيال في صراع الأضداد، الإبداعية العقلية في النص القصصي التمثيلي، ولإظهار أبعاد هذه الإبداعية العقلية: البناء العقلاني للقصص الخرافي، جمالية النظام القصصي ودلالاته، المزايا العقلانية لصوت الراوي الفني، الإبداعية التعليمية في المخاطبات والحوارات. وقد استهدى سويدان في تحليله بمنهج غريماس، مستخلصاً نتائج هامة على المستوى الذاتي، وعلى المستوى الاجتماعي، وعلى المستوى الفلسفي. إن سويدان يتمثل المنهج العلاماتي باقتدار تحليلاً مستوعباً لثراء الموروث السردي الأدبي.
ومن اللافت للنظر أن ناقداً آخر هو فهد عكام (سورية) درس نص «القرد والغيلم» في كتابه «نحو تأويل تكاملي للحكاية الخرافية ـ نموذج من كليلة ودمنة: باب القرد والغيلم» (1995)، وأظهر مقدرة مدهشة على تمثل المنهج العلامي نفسه في تحليل الموروث السردي على نحو أشمل وأكثر براعة، وأقل شكلانية، من منظورات أوسع: المنظور النفسي ـ الاجتماعي، المنظور الأيديولوجي، المنظور الأسلوبي، بالإضافة إلى درس السرد من خلال الشخصيات الفاعلة في طرز معالجتها ونظامها على وجه الخصوص.
افتتح عكام دراسته بمسرد الرموز الدالة على منهجه: الاقتران بين شخصيتين، الانفصال بين شخصيتين، الشخصية، الإشارة إلى أن العنصر الذي تسمه خفي في السياق اللغوي، مستوى التصور المراد تصويره، مستوى الصوى المتخذ وسيلة للتوضيح، المشابهة، الدال، المدلول، ثم أورد نص الحكاية، وتلاه بمقدمة تسوغ شرعية النظر إلى نص مترجم على أنه أثر عربي، ومما يمنح هذه الشرعية الأمور التالية:
تمثيل كليلة ودمنة للتراث العربي.
تجدد الحاجة إلى هذا الكتاب في عصرنا.
تأثيره في الثقافة العربية.
أهمية الكتاب عالمياً.
وأورد بعد ذلك الأمور التي تبيح شرعية التأويل التكاملي، وهي:
تحليل الكتاب لعالم يخص الراوي والبيئة العربية.
تمثيل باب القرد والغيلم لعلاقة طبقية.
أهمية العلاقة بين الاجتماعي والنفسي في تطوير الحدث.
العامل الاجتماعي ـ النفسي شرط لمجموع فعالية الشخصية.
أهمية المادة اللغوية في تنظيم النص.
وانتهى عكام، في مقدمته، إلى نظرة عامة تفيد أن قراءة النص لأول وهلة، تلقي في روع المتلقي ما يلي:
«1- المقدمة وحدة مستقلة على الرغم من ارتباطها بالعمل Action، فهي مدخل يقوم على حوار بين ملك وفيلسوف، وعلى رسالة تتعلق بمستوى أدبي يتجذر في الثقافة القديمة: المثل.
2- جسد النص يتألف من حكايتين: القرد والغيلم، الأسد وابن آوى والحمار، وثانيتهما تعقب الأخرى موثقة العرى بها، والحكمة تدخل، مرات كثيرة، في علاقة تناوبية مع القص داخل المناجاة في كل منهما.
3- الخاتمة النهائية تردّ المتلقي إلى المقدمة، فينجم عن هذه الإحالة عرض دائري، والمقدمة والخاتمة تمثلان لحظة حاضرة في حياة الملك والفيلسوف، فهما خارجيتان عن زمن القص»( ).
حلل عكام حكاية القرد والغيلم أولاً، مستنداً إلى إنجازات النقد العلامي، ومبتعداً عن مألوف النقد الشارح السابح في اللغة الإنشائية، ومغلباً لغة نقدية صريحة ومباشرة ودقيقة ووظيفية وسليمة لا نجدها إلا لدى النقاد الأساتذة، وتعمر هذه اللغة منهجية واضحة واستعمال محدد للمصطلح، فلا يرتهن للمصطلح الغربي، ولا يكتفي بالمصطلح العربي، بل يؤلف شبكة مفاهيم ومصطلحات على سبيل تطوير البلاغة العربية والتفكير النقدي العربي بالرواية والسرد، وعلى سبيل حضانة المصطلح الغربي في ممارسة نقدية عربية، فانطلق عكام في تحليله من المقدمة إلى الحكاية، معولاً على الإشارات اللغوية Signes، والرموز، والأقنعة، والآثار العجيبة.
ووجد عكام لدى تحليله أن ثمة خصلة تقيم علاقة حميمة بين المقدمة والحكاية على الصعيد الفني، ويريد بها ازدواجية الراوي، فالفيلسوف الذي ذكر في المقدمة إن هو إلا راوٍ فردي وسيط بين الراوي الفعلي والمتلقي، وقد أشير إليه بالصيغة اللغوية «قال الفيلسوف». أما الراوي الفعلي الذي يقدم السرد فقد أشير إليه بالتعبير «زعموا» في مطلع الحكاية. فهو، والأمر كذلك، راو جمعي يمثله الضمير الجمعي في هذا التعبير، وهو ذات تروي الحكاية، ولكنها لا تكشف عن نفسها بعلامات شكلية لأن القص يستخدم الضمير الغائب لوصف الذات الإنسانية، التي هي، في عين الراوي ـ الشاهد، الموضوع الذي يشغله، ويوحي بالموضوعية في مجرى القص، ومن هنا من الصعب إعادة بنائها.
وأدت معالجة ازدواجية الراوي إلى إضاءة قضية الزمن في مجرى السرد، فهذه الازدواجية تحقق النقلة لغوياً من المقدمة إلى الحكاية، وهي، قبل كل شيء، حدث يجري مع الزمن، مما يفترض أو يشير إلى المسار الحكائي، والحوادث تتوالى، في تحليل عكام، في مسار الحكاية على النحو التالي:
وثوب القرد الشاب على القرد الهرم (فاردين) ملك القردة.
إلقاء التين في الماء وتوطد الصداقة بين القرد الهرم والغيلم.
تآمر زوج الغيلم مع صديقتها ومقصده.
اللقاء مجدداً بين الغيلم وزوجه والجارة.
اللقاء مجدداً بين الغيلم والقرد والمخادعة.
ويلاحظ عكام أن هذا التسلسل الزمني للحوادث غير مطرد، ويقوم على تقنيتي الاسترجاع الداخلي والاسترجاع الخارجي، وينسرب ذلك في تحديد الزمن الذي وقع فيه القص: من الزمن الكوني إلى الزمن النفسي، وثمة ثغرة زمنية، هي الفترة الزمنية في القص التي لا يعالجها الكاتب معالجة نصية.
وثمة الاستباق الذي يتجلى في حادثة التقاء زوج الغيلم بجارتها (المرحلة الثالثة)، حيث تمس الشخصية المساعدة قضية المستقبل. أما قضية المكان، فيحس المتلقي، برأي عكام، بأنه ينتقل من واقعه المكاني المباشر الذي يعيش فيه إلى عالم خيالي من صنع كلمات القاص يقع في منطقة مغايرة لواقعه، ولهذا المكان مقوماته الخاصة وأبعاده المتميزة، الشاطئ، الشجرة، البحر، الجزيرة.
ويتفاعل المسار الحكائي مع الوصف بوصفه سمة هامة من سمات الفن القصصي، وقد جاء مقتصداً للغاية في حكاية القرد والغيلم، مما يوحي بأن الحركة الزمنية لها الأولوية في الرواية، والوصف الروائي يمثل وقفة زمنية، قد تطول، وقد تقصر، دون أي حركة زمنية. ويضاف إلى الوصف المشهد الذي يعد من مظاهره، وحكاية القرد والغيلم تقدم منه نموذجاً في المرحلة الخامسة امتد فيه الحيز المكاني، المقطع، الامتداد الأكبر معبراً عن فترة زمنية قصيرة.
لاشك، أن تحليل عكام للسرد معمق، مستوعب للمنهج النقدي العلامي في صوغ ممارسته النقدية، دون أن يستأثر هذا المنهج بهذه الممارسة. ويلمس المرء استيعاب المنهج واندغامه في نقد الموروث السردي الأدبي على سبيل المضي في تحديث منهجية نقدية عربية، دون غلو في الشكلانية، تمثلاً مدهشاً للمصطلحات النقدية، خلل شبكة مفهومية دلالية تجردها هذه المصطلحات من شكليتها لتلتحم في سياق ثقافي نقدي يناسب نسق الحكاية الخاص، مثل مصطلحات: الوقفة، التوتر، الجذب، الدور.. الخ، أثناء حديثه عن الاسترجاع الخارجي( )، مما توفر عليه الناقد جيرار جينيت في كتابه «خطاب الحكاية- بحث في المنهج» (1997) ( ).
وتتبدى هذه البراعة أكثر في استخدام معطيات علم السرد في منهج النقد العلامي لدى تحليل عكام للشخصيات الفاعلة Operateurs، في طرز معالجتها ونظامها. وتبرز في هذا المجال استفادته من المنهج العلامي أيضاً ومن إسهامات نقاد شعرية السرد مثل غريماس وجينيت وغيرهما، وهو ما تمثله جمال الدين بن شيخ (الجزائر) في دراسته التحليلية لحكاية الوزير نور الدين وأخيه شمس الدين، في ألف ليلة وليلة، في مقالته: «اقتراحات أولية لنظرية ذات ترسيمة مولدة»، وكان ترجمها عكام( ).
وينهض تحليل الشخصيات الفاعلة على تطوير الحوافز والوظائف والفواعل، انطلاقاً من بروب وذريته، وأظهر عكام طرز معالجتها على النحو التالي:
إقصاء شخصية فاعلة غدت غير فاعلة.
تنحية شخصية غير فاعلة مؤقتاً.
تعهد الشخصية الفاعلة.
أما نظام الشخصيات الفاعلة فيتضح من خلال وجود:
شخصية فاعلة على غير علم بالمقصد.
شخصية فاعلة على علم بالمقصد.
ثم رهن أهمية الشخصيات في تطور المسار الحكائي وعلاقتها بالمقصد الذي يسعى لتحقيقه بعوامل خفية أخرى، تتبدى في منظورات السرد: المنظور النفسي ـ الاجتماعي، المنظور الإيديولوجي، المنظور الأسلوبي، بغية تحليل التعليلات الواعية في فهم سلوك الشخصيات، وتوقف أمام المستوى الدلالي، وأردفه من بعد بالمستوى النفسي والاجتماعي منبهاً إلى العلاقة بين هذه المستويات. ولاحظ أن المستوى الدلالي يقوم، في المرحلة الأولى من المسار الحكائي، على حادثة انقلاب سياسي وقع في أسرة ملكية، ثم دخل في قراءة دلالية للتفصيلات، غير أنني، على إعجابي بتحليله المدهش، لا أجد ضرورة للرسوم والترسيمات، وهي قليلة على وجه العموم، لأن الكلمة النقدية تفي بالغرض، مما يجعل من هذه الرسوم والترسيمات زائدة، أو أشبه بلزوم ما لا يلزم، واعتمد عكام على التحليل البنيوي للبنية الدلالية على المستوى النفسي، واستنطق الرموز والإشارات تأويلاً للمستوى الاجتماعي. وتوصل إلى ما يسمى وحدات نظائرية دلالية مثل: الأكل، الإيقاع، الإعجاب، الولوع، الطرب.. الخ. وعالج تأويل هذه الوحدات في علاقاتها بالمستوى النفسي والاجتماعي، وفسر بعض الدلالات الناجمة عن المسار الحكائي، وحدد السمات النفسية التي تُخفى وراء الظواهر الدلالية، وعلاقة ذلك كله بالمستوى الاجتماعي للخطاب.
وعنى بالمنظور الإيديولوجي وجهة النظر الأساسية التي تحكم العمل الأدبي، أي منظومة القيم العامة لرؤية العالم ذهنياً، وقدم نص القرد والغيلم قيماً جزئية من رؤية العالم الكلية التي يُعبر عنها تعبير تجلٍ أو خفاء مجموع الحكايات في كليلة ودمنة. أما الرؤى الأساسية التي تتكشف في هذه الحكايات فهما الرؤية السياسية والرؤية الاجتماعية، كاشفتين عن صورة المنظور الإيديولوجي، كما تبدى من خلال السياق الحكائي.
ثم عالج عكام المنظور الأسلوبي، ويفيد كيفية تقديم المادة أسلوبية القص، بينما تسمى الخصائص اللغوية المستخدمة في هذا التقديم أسلوبية التعبير، فكان تحليله للمنظور الموضوعي والمنظور الذاتي، وقد أفضى إلى ملاحظات عامة، هي:
1- تطوير المفهومات الاجتماعية المتصلة برؤية العالم.
2- ترابط الحكمة مع العالم الداخلي للشخصية.
3- الحكم على المنظور الإيديولوجي دون مفاضلة ولا تجريم.
4- التركيز على الشخصيات، ولا سيما شخصية القرد.
وعاين عكام أثر أسلوبية القص في متعة النص، من خلال أسلوبية التعبير في السرد، وأسلوبية التعبير في الحوار، وأسلوبية التعبير في المناجاة، وانتهى إلى الملاحظات العامة التالية بشأن الأخيرة:
1- إشعاع الإشارة في السياق بدلالات متعددة.
2- تدرج المقولات اللغوية في نسق تأثيري بغية الإقناع.
وختم دراسة الأثر بتقصي أثر أسلوبية التعبير في متعة النص، حيث تتمثل تقنية الالتفات بتناوب الضمائر من غيبة وتكلم ومخاطبة في سياق القص ظاهرة لافتة للمتلقي تضفي على الأسلوب نوعاً من التنوع والحيوية، وتدفع عنه الرتوب الممل، وخير ما يمثلها في هذا النص إبدال الإشارات( ).
وعالج عكام على هذا النحو حكاية الأسد وابن آوى والحمار، وكأنه يقصد إلى طريقة في نقد الموروث السردي الأدبي، مخصوصة باجتهاده، مبنية على تطوير منهجية علم الأدلة والنقد العلامي وشعرية السرد، وأبرز ما في هذا التطوير هو عدم الغلو في الشكلانية، والاستفادة من التقانات والأنظمة المعرفية واللوازم الاصطلاحية، وتدعيم بحث الخطاب السردي باتساع المنظور السردي ليستوعب آفاق رؤية العالم، فيما سماه تعدد المنظورات: النفسي ـ الاجتماعي، والأيديولوجي، والأسلوبي.
لقد كان عكام واعياً لشغله الذي يندغم في عمليات وعي الذات من أوسع الأبواب، فأنجز هذا التركيب النقدي القابل لمنهجية تؤصل وهي تنشغل بمعضلات التحديث:
«أضف إلى ذلك أن الفترة التي ظهر فيها الكتاب، يقصد كليلة ودمنة، تشبه الفترة التي نعيشها اليوم: فالحضارة العربية كانت تبحث عن ذاتها، فلجأت إلى هضم ما في الثقافات الأخرى من تراث إنساني أكان هندياً أم فارسياً أم أغريقياً عن طريق الترجمة، كما نفعل اليوم في موقفنا من الثقافة الغربية»( ).
2-4- كتب عبد الفتاح كيليطو كتبه الأولى بالفرنسية التي ما لبثت أن ظهرت بالعربية في وقت متقارب خلال العقدين الأخيرين، مثل «الكتابة والتناسخ: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية» (باللغة العربية 1985)، و«المقامات: السرد والأنساق الثقافية» (باللغة العربية 1990)، و«العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة» (باللغة العربية 1995).
ورافق كيليطو ذلك كتابته باللغة العربية لعدد من الكتب التي تتصل بالسرديات على نحو جزئي مثل «الأدب والغرابة» (1982)، أو على نحو كلي مثل «الغائب: دراسة في مقامة للحريري» (1987) و«الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي» (1988).
ونعرف في هذا الحيز، حسب ما تقتضيه حاجات دراستنا، بجهده الأبرز في نقد الموروث السردي، أعني كتابه «المقامات» وهو مفصل هام من مفاصل مشروع كيليطو في السرديات العربية، تدعيماً لأبحاث الأصالة الثقافية بنهاجيات حديثة. يعمد كيليطو إلى الحفر المعرفي النقدي استناداً إلى اعتمال يقظ ونشط بالتأويل الدلالي.
حدد كيليطو في افتتاحية كتابه «المقامات» مصطلح «المقامة»، فهي ليست حكاية خرافية، إذ يتعذر أن يكون ثمة مؤلف لها، ومن العبث محاولة الوصول إلى نسختها الأصلية، وما يمكن هو مساءلة الراوي الحالي الذي استقاها من رواة تضيع لائحة أسمائهم في ماض يتزايد بعداً؛ بينما رأت المقامة النور في لحظة محددة، ولها مؤلف، ولهذا المؤلف سيرة يمكن الرجوع إليها. ورأى أن المقامة شأن القصيدة شكل لا نوع، ولم يمنعها ذلك من أن تتضمن أنواعاً مختلفة. إنه يعرفها بالنظر إلى فهم الشكلانيين الروس، ولا سيما توماشيفسكي، على أنها «زهرة برية لا يُدرى كيف تفتحت. لدينا الدلالة المعجمية للفظة، وبعض الترابطات الصدفوية، وبعض العناصر السيرية، لكن كل هذا لا يردم الهوة التي سببها مؤلف الهمذاني». ويضاعف من ظهورها المفاجئ، أن للأنواع الشعرية التقليدية شكلاً عروضياً داخلياً، «يوجه المضمون الموضوعاتي، والنبرة الخاصة بكل نوع، بينما لا تقدم مقامات الهمذاني نبرة ثابتة، بل انزلاقاً نغمياً ذا تنويعات متعددة: إنها تتضمن عدداً مهماً من الأنواع التي إذا نظر إليها على حدة كانت أحادية النبرة»( ).
ثم دقق كيليطو مفهوم المقامة غوصاً في الحفر المعرفي الذي نهجه ميشيل فوكو في مؤلفاته الكثيرة، ولا سيما «اركيولوجيا المعرفة» (1969) ( )، و«نظام الخطاب» (1971)، فبحث عن العناصر المكونة للمفهوم متتبعاً مصادر الهمذاني الذي يعد «خالق نوع المقامات»، وسمى ذلك الحفر المعرفي «عادة منهجية يتم الخضوع لها دون انشغال بتدقيق حدودها، مما يستدعي «دراسة التأثيرات التفصيلية التي تتضح سرابيتها، وإعلان أصالة لا يمكن البرهنة عليها»، ولذلك عني كيليطو في متنه بخمسة مؤلفين للمقامات هم: الهمذاني، وابن شرف القيرواني، وابن بطلان، وابن ناقيا، والحريري. وميز في كتاباتهم، أنها لا تحمل جميعها اسم مقامات، «لأن اثنين منهم: ابن شرف وابن بطلان اختارا لمؤلفيهما تسمية أخرى، لكنهم، خمستهم، كتبوا حكايات وامتثلوا للأنساق الثقافية ذاتها»( ).
وعلى الرغم من تسمية المقامة بالحكاية، إلا أن ثمة صعوبة «تتعلق بموقعتها إزاء الأنماط الأخرى للحكاية التي عرفتها الثقافة العربية، وحين يتعلق الأمر بدراسة العناصر السردية المكونة لها، وعلة تتالي هذه العناصر تبعاً لنظام ثابت، أو يكاد يكون ثابتاً، وحين يتعلق الأمر بمساءلة الدلالة، لا الأدبية فحسب، بل كذلك الدلالة السوسيولوجية لهذا النظام، وحين يتعلق الأمر، إجمالاً بالكشف عن الأنساق الثقافية التي تقع في الأساس منها والتي تمنحها مظهرها الذي ظهرت به دون غيره من المظاهر»( ). وانسجاماً مع نهاجيته المعرفية، عرّف كيليطو النسق الثقافي بأنه «مواضعة اجتماعية، دينية، أخلاقية، استيطيقية.. تفرضها، في لحظة معينة من تطورها، الوضعية الاجتماعية، والتي يقبلها ضمنياً المؤلف وجمهوره. ويكون أفق النصوص المفردة والإنجازات الفردية هو «النص الثقافي» الذي يجعلها ممكنة، وفي الوقت نفسه يحد من مدى تساؤلاتها. وهذا ما يجعل النص منفتحاً على نصوص أخرى، ومعرفيات أخرى دخولاً في مشروعية البحث التناصي، وهو سمة من سمات شعرية السرد من جهة، ومن سمات التفكيكية على وجه الخصوص من جهة أخرى. عقد كيليطو فصولاً للموازاة بين المقامات ونصوص من القرن الرابع الهجري، وبعضها يكاد لا يكون معروفاً لاستجلاء عدد من الأنساق التاريخية والجغرافية والاجتماعية والشعرية. ثم بحث في الأنساق التي كانت في الأصل من التلقي الذي خصّ به معاصرو الهمذاني وأعقابه المباشرون مقاماته. ونظر في القسم الثالث المخصص للحريري في الأنساق القديمة للقراءة بالقياس إلى الأعراف الحديثة للقراءة. وقد أدغم كيليطو شغله بأبحاث الهوية الثقافية، بتوكيده على أننا ندرس أنفسنا حين نعكف على النص الكلاسيكي، و«الخطاب عن الماضي هو في الآن ذاته خطاب عن الحاضر»( ).
محص كيليطو في بحثه عن «حوار الأنواع» خواص المقامات في حشد من الحفريات المعرفية تاريخياً وفنياً، فهي في فضائها تقترب من مؤلفات الجغرافيين العرب في القرن الرابع للهجرة: الاصطخري، والمقدسي، وابن حوقل قصروا رؤيتهم عمداً على مملكة الإسلام، والراوي ينتقل بين عصور مختلفة، يروي أحداثاً لم يحضرها. كما في «المقامة البشرية، وكل ما يمكن ملاحظته هو أن الإسناد الموجود في مطلع المقامة، لا يذكر التسلسل الذي مكن الراوي من معرفة الأحداث التي يحكيها، فالمشكلة الزمنية التي تثيرها المقامة محيرة: كيف يمكن العيش في آن واحد في القرن الرابع والقرن الأول للهجرة، فعيسى بن هشام يتخطى القرون، ويتحرك كما يشاء عبر الزمان، معمراً حقيقياً، مما يجعل منه إخبارياً، هو مستودع المعرفة وراوي تراث محاط بإجلال خاص. وباختصار، فهو «صوت» التراث، صوت في الوقت ذاته طريق يسلكه في منعرجاته وعقباته ومفاجآته: الهمذاني وأساتذته ومقلدوه. وتؤدي تحولاته إلى تحولات في المقامة نفسها، فكل مقامة هي مسرحة لتحول ولدور موضوعاتي، وتعبير عن دوام هوية عبر تعاقب الأجيال. ووقع كيليطو على سمة مفادها أن تقطع القراءة ناتج عن غياب رابط سردي بين المقامات.
وتابع كيليطو مناقشته على هذا النحو من الاستحضار المعرفي وانتظامه في تركيب نقدي، كما في تحديده لملامح المضحك وامتداح الجنون والانتهاك والعجائبي في مدار الكدية حين تعكس «الثقافة العربية نفسها في ثقافة مضادة، يمثلها الماجنون والشعوب الأجنبية والماكرون وحيل التاريخ الماكرة»( ).
بات واضحاً أن كيليطو يعضد تأويله الدلالي بحفريات معرفية سبيلاً لإدراك الخطاب القصصي، وهو تأويل ينهض على قاعدة منهجية كبرى عند فوكو هي «ترك الخطاب نفسه يتكلم، دون أي تدخل من قبلنا نحن!»( )، وهذا ما فعله في حديثه عن «النوع: التسمية والبنية» ، وبدأ مسعاه في تحليل البنية السردية الكامنة في المقامات، مقارنة بنصوص أخرى مقاربة مثل «رسالة التوابع والزوابع» لابن شهيد، و«أحاديث» ابن دريد، وهو ما أشبع بحثاً، و«مسائل الانتقاد» لابن شرف القيرواني، و«دعوة الأطباء» لابن بطلان، و«مقامات الحنفي وابن ناقيا وغيرهما» (مقامات ابن ناقيا). غير أنه لا يقع على بنية سردية متماثلة، فالمقامات أشبه بكتابة الملل والنحل.
أما التطبيق الذي اختاره كيليطو فكان مقامات الحريري، مبتعداً عن شرحها أو تحليلها منخرطاً في قضايا قراءتها، كما ألزم نفسه بذلك، فاطنب في تكوين الحريري وما آلت إليه مكانته حتى صار محجاً للائذين، وعرض تنميطاً لهم في «حواشي النص»، أي ما حرص الحريري عليه في تركيب النص بوسائط التبليغ والامتلاك البلاغي وحرية اللغة إزاء هيمنة الفكرة.
واستتبع ذلك دراسة «التلقي الذي يجري في داخل كتاب الحريري ذاته، حيث كل مقامة مبنية حول خطاب كثيراً ما يتطلب، لأسباب مختلفة، مشاركة المخاطبين والتزامهم ويقظتهم»( )، وكان سماها «اللعبة بين قطبي التواصل». جعل من «التورية» صورة السرد، وهي حركة تقود من معنى إلى آخر، لكن في المقامة الخمسين، سيتغلب الجمود على الحركة، وسيكون المعنى القريب هو المعنى البعيد في ذات الوقت. ومضى تالياً إلى الانكباب باهتمام أكبر على دراسة دلالة التورية ووظيفتها في السرد، ومدى اندراجها في سيرورة سردية. ويضاف إلى ذلك استهداف المقامة الحريرية للمناظرة، وهو ما لاحظه باحثون سابقون، ولكن كيليطو، وجدها المناظرة التي تفضي إلى قضية( ).
وختم كيليطو بحثه بتجميع عناصر تخصّ وضعية السارد في الثقافة العربية الكلاسيكية، على الرغم من أن الصفحات المخصصة لقضايا السرد في التراث النقدي نادرة. وقد لفت نظره ما أبصره السلفي، أحد معاصري الحريري، يوماً في المسجد الأموي، حين زار حلقة من الناس تحيط بالحريري، وتستملي منه المقامات. ولأنه لا يعرف كاتبنا فقد استفسر عنه، فقيل له: «إن هذا قد وضع شيئاً من الأكاذيب، وهو يمليه على الناس»، فانصرف السلفي عنه، فهل كاتب المقامة كذاب محترف؟ ربط السابقون بين تأليفهم الحكائي وبين المثل، فالترابط مقبول على مستوى الحكاية، «لكن لا الحريري ولا أي من سابقيه لم ينزلوا إلى المستوى الأدبي ليميزوا المقامة أو المأدبة أو الحديث عن المثل. كان من مصلحتهم الإبقاء على الخلط ليفلتوا من تهمة الكذب»( ).
ولم يسع الحريري نفسه إلى نفي الكذب، بل مقاربة المثل، لأن «السرد الكاذب، المقامات في هذه الحالة، يعرض كل مظاهر السرد المطابق للحقيقة، لكنه لا يطابق لا الوقائع ولا معتقد الذي يرويها. صحيح أن ما يقوله «يشبه الصدق»، لكننا حين نتمعن جيداً، لن نجد إلا ادعاءات كاذبة. فضلاً عن أن الحريري، كما لاحظ ابن الخشاب «لا يدعي صحة» تأليفاته. ولو كان له رأي مخالف، لكان قد أشار إليه في مقدمته، ولم يلجأ إلى المثل للدفاع عن المقامات»( ). وهذه هي أنواع السرد كلها تقوم على الخديعة أو الوهم. على أن أسئلة الخاتمة أكثر بلاغة بإثارة المعنى الراهن والمستقبلي لسيرورة التقاليد الأدبية الكامنة في سرد المقامات. ففي «خلفية المقامات، رأينا شبح الأدب يرتسم باستمرار، وحاولنا أن نحيط بهذا المفهوم بفحص الأنساق التي يقوم عليها»( )، وفحص بعد ذلك أنساقه المهجورة في الأدب العربي المعاصر، وذكر أمثلة لذلك، لأن الأدب بمعناه الحديث هو الذي بانسلاله شيئاً فشيئاً إلى الثقافة العربية، قد طرد الأدب بمعناه القديم، لا الكلمة، بل ما تدل عليه الكلمة، ظلت كلمة الأدب حية. ودعا إلى تجديد النصوص القديمة على ضوء الأسئلة الجديدة التي تطرحها العلوم الإنسانية، وإلى إعادة كتابة هذه النصوص ذاتها، كما أعاد آخرون كتابة الأوديسة وأوديب ملكاً والإنجيل.
إن قيمة مشروع كيليطو ليست في أمثال هذه الدعوات، لأنها قائمة منذ مطلع عصر النهضة في القرن التاسع عشر حين احتذى الكتاب، وما يزالون، السرد المقاماتي، جزئياً أو كلياً، بل في نهاجيته الحديثة، استفادة من الحفريات المعرفية والتأويل الدلالي الذي أنعشته العلاماتية والتفكيكية، وتكمن فضيلة نهاجيته في استمداده لخصائص الثقافة العربية دون أن يملي على أنساقها مصطلحات مجتلبة. ولعلنا نقرأ بعض أسلوبيته واكتشافاته لدى كثيرين ممن تلوه.
2-5- استفاد الميلودي شغموم (المغرب) من النقد المعرفي الباشلاري في نقده للموروث السردي الصوفي في كتابه المتميز «المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة» (1991)، مثلما استعان ببعض أدوات مناهج التأويل الأسطوري والرمزي للكشف عن معرفة موضوعية تناسب تفريد اللاوعي في المتخيل، طلباً لمعنى في الموروث السردي الصوفي.
أثار شغموم أسئلة في مقدمة بحثه حول العلاقة بين الحكاية والبركة، وإلى حد ما تستطيع الحكاية أن تؤسس بركة؟ ليلاحظ أن الأدب هو الذي نبهنا إلى أهمية الحكاية أو القصة في بناء نظري كالتصوف الإسلامي. وهكذا، بحث شغموم الأسطوري والقدسي وطبيعة الحكاية القدسية، دون أن يغفل عن مكانة مرسيا الياد في الكشف عن الحضور المكثف للحكاية في الثقافة العربية الإسلامية، فتعاضد منهجه المعرفي الموضوعي مع تأويلية تجليات القدسي باتجاه خطاب ذي معنى.
انطلق شغموم من دراسة علاقة الكرامة بالأسطورة، وتعبير الكرامة عن القدسي الذي يسمى بركة، ليصل إلى تركيبه: «في البركة سمو من المتخيل إلى القدسي، وهناك العديد من الحكايات التي تعبر عن هذا السمو، وإذا كانت الحكاية محاكاة أو مشابهة أو تقليداً، فأي شيء تتم محاكاته أو مشابهته أو تقليده»( ). وافترض، بناء على هذا التركيب، أن الكرامات أو البركة في القصص التي نرويها تحاكي أربعة أنماط أساسية أصلية، ويعني بالأنماط طرزاً أو نماذج تتم محاكاتها، وهذه الأنماط هي:
- النمط ـ *****ي ـ الأسطوري.
- النمط النبوي.
- النمط الإبليسي.
- النمط النعيمي.
وأردف شغموم سؤالاً إجرائياً ينفع في سياق انشغاله بالتركيب المقترح، هو في ذاته شامل لأسئلة كثيرة متفرعة تظهر صعوبات البحث: «كيف نختار الحكايات التي تعبر حقيقة عن البركة؟ ما السبيل إلى فرز الأنماط الأساسية الأصلية من ذلك الركام المختلط من الحكايات، بل ما الضمانة، ما مبرر إرجاع حكاية إلى نمط بعينه، خاصة إذا وجد تشابه، وإذا نتج تردد في التصنيف مع نمط آخر؟ ماذا نفعل بتفاصيل الحكاية: نحن نرجع هذه الحكايات إلى أنماط عامة، مجردة، جوفاء، ولكن الحكاية تعتمد على تفاصيل لتقوم: تاريخ، أماكن، سرد؟ ماذا نفعل إذن بهذه التفاصيل؟» ( ).
بحث شغموم عن أصل البركة ومصدرها أو ما سماه «إشكال الأصل»، للوقوف على فضاء محاكاة *****ي ـ الأسطوري، الممتد من المنظومة المرجعية لقيام أو حدوث حكاية من هذا النوع، معتمداً على تعريف مرسيا الياد للكرامة مما هو سائد في علم «تاريخ الأديان»:
«1- لأن الكرامة كحكاية تروي حضور القدسي في شخص معين وانبثاقه فيه أو عبره.
2- لأن هذا الحضور للقدسي هو ما يتجلى في البركة كقوة دينية تحل في شخص معين أو شيء معين»( ).
لقد توصل شغموم إلى فعل التحويل الذي يتم بواسطته السعي إلى «تحويل الإنسان العادي» أو «تحويل البدن» إلى «أشرف وأسمى وأنبل»، «رفع العادي إلى الشريف»، «أي تحويل أناس وأشياء من وضع انطولوجي إلى وضع آخر، تحويل الدنيوي إلى قدسي، ليصبح المحول أو المتحول متوفراً على القدرة التي تسمى كرامة أو بركة هي ما تعبر عن انبثاقه واستمراره الحكايات التي تروى عن كرامات الأولياء، فعلى هذا المستوى من التحليل تبدو وظيفة الحكايات جلية لا غبار عليها. إنها أداة من أدوات صناعة البركة، في حياة الولي، أي وسيلة من وسائل التحول من الدونية إلى القدسية، أو الإيهام بمثل هذا التحول ومظاهر تعبيره عن ذاته. أما بعد موت الولي فهي كل ما يتبقى من بركة هذا الولي. وإذا اعتبرنا أن كرامات الأولياء مجرد خرافات وأكاذيب أو هذيان، فإن تلك الحكايات تصبح تعبيراً عن المتخيل الذي يبني القدسي في التصوف الإسلامي ويرعاه»( ).
ويبدو تأثير النهاجية الباشلارية في تحليل شغموم الجيد لكون البركة من ولي مثالاً للنبوي، في التلاعب السردي والمعرفي بالمتخيل واجتراحه للمقدس عبر علائقية المزج بين الذات والموضوع، وعبر رؤية العالم موجوداً كما يتراءى في قيعان الذات، أو كما أحلمه «بتعبير باشلار نفسه في «شعرية حلم اليقظة»( ). وقد انتظمت هذه العلائقية في تناوب التاريخ البسيط والتاريخ الذائب والتاريخ المغيب.
والتاريخ البسيط عند شغموم هو الشائع أو الطبيعي في خبر الولاية، وهو الطبيعي لأن لجميع الأولياء حياة دنيوية قبل أو خلال فترة الولاية، مع أو على هامش الولاية، ولكن هذه الحياة الدنيوية تصبح قليلة القيمة أمام «السمو» الذي يطبع الحياة القدسية. والتاريخ الذائب هو الترجمة الذي تذكر فيه الحياة الدنيوية للولي، كجزء أو كل، مختلط اختلاطاً تاماً بحياته القدسية بحيث لا تنفصل تلك عن هذه. أما التاريخ المغيب، فلا توجد في حالته أية إشارة منفصلة أو مندمجة في الكرامات إلى الحياة الدنيوية للولي، وقد لا يشار إليه، أي إلى الولي، إلا في سياق الحديث عن ولي آخر.
ويفيد هذا التحليل في إيضاح أهم سمات النمط المسمى «النمط النبوي الذي تحاكيه حكاياتنا وتنتج «عالمها» الخاص بواسطته. وهو نمط قائم الذات، لا في حدود استقلاله عن النمط *****ي ـ الأسطوري، أو استقلال هذا الأخير عنه، ولكن في حدود تكراره للنبوة، ووجود حكايات تروي هذا التكرار»( ).
أما النمط الإبليسي فيجاوز الحدود التي ينبغي على المؤمن أن يراعيها ليظل إيمانه خالياً من الشبهات، أي أن النمط الإبليسي يثير السؤال حول طبيعة القدسي، وهل يمكن تصوره بمعزل عن الدنيوي؟ وهذا ما يتيح الانتقال إلى منطقة خطرة يتحول فيها «الولي إلى إبليس لعين يكرهه ويحاربه من هو خارج سيطرته!» ( ).
وتكون النتيجة أن الصوفي عندما يصل «إلى هذه الدرجة من إلغاء النبوة والألوهية، ويصير النبي والإله معاً، فإنه يصبح سيد الكون، ذلك الذي يملك القدرة على الخوارق، إذ كيف تصعب عليه خارقة والحال هذه؟ ولكنه كذلك السيد الذي يحكم الكون، يأمر وينهي، يحرم ويحلل، مالك مفتاح الجنة والنار الذي يضمن النعيم لأتباعه ومحبيه، يوفر لهم الحماية والأمن، يرفع أمامهم الحدود والحجب، بواسطة البركة التي تحل الجنة في الأرض بعد أن أحلت النبوة والألوهية فيها، في شخص الولي. ولقد أهله لكل ذلك الحبّ، كما يزعم، فهو المحب الذي يطلب الوصال ليذوب في محبوبه، فلا يبقى بينهما فرق»( ).
يلوذ شغموم بالتركيب الباشلاري الذي يصعب على التحديد أو التسمية، فقد أدرج جان ايف تادييه منهج باشلار في «نقد الخيال»( ) وهي تسمية غير دقيقة وغير موفقة، وسماه ويليك فانتازيا العلم( )، ويستند التركيب الباشلاري إلى أدوات معرفية علمية من النقد الأدبي الموضوعي وأولها الاستعارات والصور وتخييل المادة وتثمير التحليل النفسي واللغة ظواهرية صورية توغل في نبش اللاوعي أو الشطح في «منطق» خاص بها.
ويظهر ذلك بجلاء في تحليله للنمط النعيمي والتمهيد له، فقد استعمل الإبليسية بمعنى النزوع إلى المكبوتات والممنوعات عقلاً وشرعاً، في الثقافة العربية ـ الإسلامية السائدة، من جهة، كما استعمله، من جهة أخرى، وبالخصوص، بمعنى رفع الحدود بين الخالق والمخلوق، أي مجاوزة ثنائية الله/ العالم. وتتجلى هذه المجاوزة، وفي أعلى صورة، «في الحكايات التي تتحدث عما يسمى «شطحات الصوفية»، في هذه الحكايات يرفع الولي كل ما يفصله عن الله، يتصف بصفاته، ويحل ما لا يحله، يقارن نفسه به، يضع نفسه مكانه، أو يعلو عليه.. فلا غرابة، والحال هذه، أن يحل النعيم في الأرض، فقد رفع الولي الدنيوي منها! وقد يساعد على فهم هذه الظاهرة تذكر أن الولي محب، وأنه ككل محب يريد أن يمتلئ بهذا الحبّ، ويذوب فيه، فهذه بداية نعيمه: الوصال. لذلك يمكن أن تسمي هذا النمط «النمط الغرامي» وتقرب الحكايات التي تحاكيه من «رسائل العشاق» أو «ترجمان الأشواق»!»( ).
يعّمر شغموم تحليله للنمط النعيمي بمقدرته العالية على ضبط التوازن بين الذاتي والموضوعي في ردع الولي بما يجعل الخيال خاضعاً لنسق شعري، وقابلاً لاكتناه موضوعي عبر شعرية المادة. لقد وجد شغموم النمط النعيمي في «استيهام النعيم» أو«فيض المحاكاة»، حين لا تروي الحكايات إلا الكيفية التي يتمتع بواسطتها الولي ببركته الخاصة، وهذا «نابع من: أولاً- أن هناك حكايات تعبر بالفعل عن هذه الحالة حيث يبدو الولي أول مستفيد من استيهام النعيم، وثانياً- إن استيهام النعيم كلي إلى درجة أنه لا يمكن لأية حلقة من حلقات الدائرة أن تحرم منه، بل إن استفادة الولي منه شرط ضروري لاستفادة الآخرين منه.. ذلك ما ترويه حكايات التمتع بالولاية»( ).
ويستوعب تحليل شغموم للنمط النعيمي ذروة شعرية المادة، حين يوضح سعي الحكاية إلى خلق جماليتها بوسائل عديدة، أهمها:
«أولاً- إحلال القدسي، أي النقي أو الصافي الكامل، محل القذر أو النجس اللعين.
ثانياً- إحلال العجيب والغريب محل الاعتيادي عقلاً ونقلاً وخبرة يومية.
ثالثاً- إدخال كثير من العناصر الجمالية الطبيعية والحكائية: إن استعمال الحكي في حدّ ذاته عنصر جمالي، ولكن العناصر الطبيعية في الحكاية ليست أقل جمالية!» ( ).
ويؤدي إدغام شعرية المادة في شعرية الحكي إلى تمام الإيهام، تمام محاكاة البركة، أو فيضها، ذوباناً في حلم يقظة هو روح صوفية تجترح المقدس لت*** الجنة إلى الأرض. ولعمري أن شغموم طرح السؤال، وأنار جانبه العويص فيما يخص وعي الموروث السردي الصوفي إجابة على حدود إمكانية التمييز في الثقافة العربية الإسلامية، وخاصة في مجالي القدسي والمتخيل، بين ثقافة «عالمة» وأخرى «عامية»؟.
2-6- يعد شغل عبد الله إبراهيم (العراق) في كتابه «السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي» (1992) المشروع الثاني المكتمل، بعد عبد الفتاح كيليطو، في التعريف بالسردية وعلم السرديات من جهة، وفي استخدامها أو تكييفها لحاجات درس السردية العربية في تشكلاتها تاريخياً وفنياً من جهة أخرى. غير أن إبراهيم يختلف عن كيليطو في أن الأول يعلن منهجه، ويصرح بمقاصده، ويعنى بالإطار النظري، ويميل إلى المنهج الانتقائي الذي يوائم بين أمشاج من مناهج حديثة متعددة، بينما يلتفت الثاني عن وصف منهجه وأهدافه وإطاره النظري، ويقارب منهجه ضمن وحدة فكرية في مدار شواغل التأصيل والهوية الثقافية إياه، وهو مدار عريض ذو مشارب متعددة واجتهادات متنوعة، تلتقي غالبيتها حول وعي الذات القومية في الوجود والمصير، ولا يخفي إبراهيم هذا الانشغال، فقد أدرج بحثه ضمن الجهود المبذولة في ربع القرن العشرين الأخير «للبحث في أصول الفكر العربي، ومصادره التركيبية والتعبيرية، بغية كشف سماته وأبنيته وركائزه الأساسية التي يقوم عليها»( ).
ويصدر إبراهيم عن الرأي نفسه الذي يعول كثيراً في فهم مظاهر التعبير اللساني والبلاغي، ولا سيما المظهر السردي الذي يشكل إلى جانب النتاج المعرفي والشعري، الهيكل الكلي للثقافة العربية، بتجلياتها الفكرية والإبداعية. وهكذا اعترف بالصعوبات التي تواجه نقاد التراث القصصي العربي نحو اشتقاق مادة البحث من نطاق لم يعتن بها، تحقيقاً وتبويباً وفهرسة، قبل نقدها بمنهج تقليدي أو حديث. ولذلك جرى حفر وتنقيب، من قبله، في مصادرها الأصلية من علوم الدين والأدب والتاريخ، فضلاً عن المرويات السردية التي تؤلف متن المادة، وذلك دون وساطة مراجع حديثة، قد تقوم على قراءة تلك المصادر، قراءة محكومة بظرف خاص، قد تجهض الهدف الذي يتوخاه البحث، وهو استنباط البنية السردية في الموروث الحكائي العربي، كما تشكلت في دائرة الثقافة العربية، وثمة صعوبة تالية ناجمة عن التأسيس النقدي لمصطلحات جديدة تتصل بعلم جديد هو علم السرديات، مما يدعو الناقد إلى تحديد المصطلحات وشرحها وإيضاح فروقاتها. وقد حرص إبراهيم على أصالة بحثه، وتجنب إلى حد، إخضاع السردية العربية إلى معيار خارجي مستمد من موروث سردي آخر، فما كان يهدف إليه، بتعبيره، هو تحديد الطبيعة السردية العربية كما تكونت في نطاق المحضن الثقافي الذي تشكلت فيه، وقد حقق إبراهيم كثيراً مما يصبو إليه، وهو مقاربة السردية العربية ولكن هذه المقاربة لم تبرأ من مؤثرات المعايير الخارجية، فهو عرف السردية حسب الاتجاهات النقدية الجديدة، ولا سيما النبيويون واللسانيون على أنها «العلم الذي يعنى بمظاهر الخطاب السردي، أسلوباً وبناء ودلالة»( )، وقد حكم هذا الفهم أسلوبه في العملية التي اتبعها لرؤية الموروث السردي، وهي «الاستقراء الفني» الذي يستند إلى الاستنطاق تارة، والوصف تارة أخرى.
استنطق إبراهيم الأصول، ابتغاء استخلاص الهياكل التي تؤطر بنية المرويات السردية، في القسم الأول من البحث، ثم في القسم الثاني منه، الاعتماد على نوعين من الوصف والمعاينة، الأول تاريخي تعاقبي Daichronic غايته كشف تشكل الأنواع القصصية الرئيسة كالخرافة والسيرة والمقامة، والثاني: وصفي تزامني Synchronic انصب الاهتمام فيه على مكونات البنية السردية للأنواع المذكورة، وتوج التحليل، بكشف مستويات التماثل بين بنية الموجهات الخارجية وبنية السرد، بما يؤكد أن الاتصال قائم بينهما، على نحو تمثيلي، في أشد الركائز أهمية، وهو: الإرسال السردي بأركانه من راوٍ ومروي ومروي له.
ونلحظ اقتراب شغل إبراهيم من شغل كيليطو في استهداف المشروع النقدي من جهة، وفي استغراقه بنهاجيات معرفية نقدية حديثة من جهة أخرى، إذ سعى إبراهيم إلى استنطاق الأصول المعرفية، استنطاقاً يبتعد عن التقويل، ويترك لها أن تكشف عما تغيبه دونما تعسف، بهدف «تحديد طبيعة السردية العربية ضمن البنية الثقافية ـ العامة. لهذا، ففي الوقت الذي مكن الانفصال فيه، من رصد البنى السردية للأنواع، مكن الاتصال من كشف خصائص البنية السردية العامة.
وقد احترز إبراهيم في استخدامه لمصطلح «السردية العربية» من المقاصد العرقية، لأنه هدف إلى الوقوف على المرويات السردية التي تكونت، أغراضاً وبنى، ضمن الثقافة التي أنتجتها اللغة العربية»، واتفق إبراهيم مع غيره من الباحثين والنقاد مثل عبد الفتاح كيليطو ومحمد رجب النجار على انبثاق السردية العربية من الخصائص الأسلوبية والتركيبية والدلالية للغة العربية، ومن الشفاهية( ).
وجد إبراهيم أن العناية الكلية بأوجه الخطاب السردي، أفضت إلى بروز تيارين رئيسين في السردية، أولهما السردية الدلالية التي تعنى بمضمون الأفعال السردية دونما اهتمام بالسرد الذي يكونها، إنما بالمنطق الذي يحكم تعاقب تلك الأفعال، ويمثل هذا التيار بروب وبريمون وغريماس، وثانيهما السردية اللسانية التي تعنى بالمظاهر اللغوية للخطاب، وما ينطوي عليه من رواة وأساليب سرد ورؤى، وعلاقات تربط الراوي بالمروي. ويمثل هذا التيار باحثون ونقاد منهم بارت وتودروف وجينيت. إن الفصل بين التيارين غير ميسور، وقد أدرك إبراهيم ذلك عندما أشار إلى أن تاريخ السردية لم يعد محاولة للتوفيق بين منطلقات هذين التيارين. وقادته هذه الإشارة إلى إشارات أخرى حول تطور السردية والمشتغلين في علم السرديات من بروب إلى ذريته بتعبير شولز Progeny of Proop مثل غريماس وبريمون وتودروف وجينيت، ممن عملوا على توسيع حدود السردية، لتشمل جميع مظاهر الخطاب السردي. ثم عاد إبراهيم إلى الفكرة السائدة حول انحدار المرويات السردية بصورة عامة، عن جذور الشفاهية، ذلك أنها كانت تتداول مشافهة، فهي «فن لفظي». ولا يختلف السرد العربي القديم عن ذلك( ).
اختار إبراهيم أنواعاً سردية بعينها هي الحكاية الخرافية والسيرة الشعبية والمقامة، بوصفها الأنواع التي تهيأت لها الظروف، لتكون أظهر الأنواع والأشكال القصصية في الأدب العربي القديم، وهذا يعني إغفاله لأنواع سردية كثيرة جرت الإشارة إليها من قبل. واستنطق في بحثه عن الموجهات الخارجية للسرد العربي، الأسس التي قامت عليها النظرية الشفاهية في تقييدها للمنطوق، خلل صلتها بالظاهرة الدينية.
ووجد إبراهيم ركائز النظرية الشفاهية في أعمال الأدباء الكبار، منذ الجاحظ، في رسالته «ذم أخلاق الكتّاب»، إلى علي بن رضوان 4531= 1061)، فقد سوغ الجاحظ شرعياً إحلال المشافهة محل الكتابة، وأسهم في ترسيخها، ومنحها قوة لممارسة دورها في الثقافة العربية في عصر تأسيسها الأول، ويكاد المرء يجد نظرية عربية تسوغ الشفاهية لدى علي بن رضوان. ثم ناقش بعد ذلك أركان نظرية الإسناد المتبعة في التواريخ والتراجم والمرويات الإخبارية واللغوية، وقد وجد أن مظاهر هيمنة نظرية الإسناد على معطيات الثقافة العربية الأخرى، يصعب حصرها.
إنه اجتهاد يمدّ الشفاهية من الأدب الشعبي إلى الأدب المكتوب أو الرسمي، وهو اجتهاد لا يوافي الوقائع الأدبية والثقافية العربية منذ القرن الثاني الهجري حين ساد التدوين، وتقلصت الشفاهية إلى حد كبير حتى في مجال الأدب الشعبي.
ارتبط القص عند إبراهيم بفضاء الدلالة الدينية، فلم ينظر للقصص في القرآن، إلا بوصفها تنطوي على موعظة، وتهدف إلى ضرب المثل، وتقديم النصح، من خلال وقائع الماضي المغرقة في القدم، وكذلك حدد الرسول وظيفة القص، وهي التذكير والوعظ والاعتبار، وكانت هذه هي الموجهات المهيمنة في نشوء أخبار وعظية اعتبارية، وظفت في خدمة الدين. وكانت المرحلة التالية هي نشوء فئة القصاصين والمذكرين التي بادرت إلى الخروج من المسجد إلى أماكنها الخاصة، على أن إبراهيم التفت عن هذا التطور إلى رصد ظهور «قصص العامة» ودأبها لتأسيس وجودها بخروجها عن الإسناد الحقيقي والصادق، وليس من المسجد فحسب، ولعل وجهة نظره تضمر مثل هذا الرأي، لأن ردّ الفعل العنيف إزاء «قصص العامة وقصاصيها» يفصح عن ذلك كله، لأن القصص تلهي المؤمن عن دينه، كونه ينشغل بها ولا يعتبر بها، وقد «استقام على يد ابن الجوزي موقف شامل تجاه القصاص والقصص، استمده من سلطة السلف، التي هيمنت في القرون السابقة عليه»( )، وكان هذا الموقف في أساس الصياغة النظرية لموقف الإسلام من القص، الداعي إلى ضبط فعالية القص وتوجيهها توجيهاً محدداً، «لتحقيق أغراض وعظية وأخلاقية ثابتة، ذلك أن موقف الإسلام، لا يقتصر على وضع شروط ينبغي إتباعها وحسب، بل هو يقترح موضوعات القصص، ويوجب تنفيذها، غرض تهذيب السلوك الاجتماعي، والتعبير عن فروض الدين، فيكون مجلس القصص، بحسب موقف الإسلام، مجلساً دينياً، هدفه التوجيه والوعظ، يقف فيه القاص، موقف الواعظ الديني، على أدلة الأحكام من قرآن وسنة، وسير الفاضلين والأولياء، ثم ينحو منحى تعليمياً في بيان أصول العبادات، وشؤون المعاملات، إلى غير ذلك مما يندرج في علوم الحديث والفقه( ).
لا يعنى إبراهيم بتطور الموقف من القص في الثقافة العربية، مقتصراً على موقف إسلامي، وليس الموقف الإسلامي، لأن ثمة تيارات أخرى مختلفة. أدغمت، في مراحل تالية، القصة في صلب التأليف العربي، التاريخي والفلسفي والصوفي والأدبي واللغوي وسواه، ولنتأمل بعض أمهات الكتب مثل «الكامل» للمبرد و«البخلاء» للجاحظ، و«الأغاني» للأصفهاني، و«لسان العرب» لابن منظور، لنعرف الحجم الكبير للقصة أو السرد فيها.
اهتم إبراهيم بفضاء الحكاية الخرافية، ولاحظ أن البوابة التي دخلت بينها الخرافة شرعياً، في الثقافة العربية، كانت قد فتحها الرسول نفسه، لا اقتداء بالأفعال الخرافية، فيما يبدو، إنما بغية التسلية والسمر اللطيف الذي لا يخلو من هدف اعتباري، لا يتعارض وتعاليم الدين الإسلامي. وتوقف ملياً عند حديث الرسول عن «حديث خرافة»، لأهمية ذلك، فالتثبت من نسبة الحديث إلى الرسول يعني عناية العرب المبكرة بهذا النوع القصصي، مثلما يكشف توالد الحكايات ضمن إطار الحديث نفسه عن البنية الإطارية للحكاية الخرافية، دون أن يغفل عن مصادر أخرى لا تقر نسبة الحديث للرسول كقول الشريشي (619=1222): «وحديث خرافة مثل سائر على ألسنة الناس في القديم والحديث، يضرب لكل حديث لا حقيقة له». ثم رأى إبراهيم في متن حديث خرافة ما رآه كيليطو في معنى الحكاية، «منح الحكاية مقابل الاستمتاع بالحياة، وبعبارة أخرى مقايضة الحياة بالحكاية»( ). ولدى تقصيه للتأليف الخرافي عند العرب وجد أكثر من سبعين كتاباً في الأسمار التي تتداولها الأيدي قبل منتصف القرن الرابع. ويضاف إليها كتب الخرافات الكثيرة التي أوردها ابن النديم في الفن الثالث من المقالة الثامنة تحت عنوان «أسماء خرافات تعرف باللقب، لا نعرف من أمرها غير هذا».
وأعاد إبراهيم متواتر القول في موضوع ألف ليلة وليلة: معضلة الانتماء والتأليف، اعتماداً على محسن مهدي إياه وسهير القلماوي ومحمود طرشونة وغيرهم، واختار لتمحيص البنية السردية للحكاية الخرافية وبحثها ثلاث ذخائر هي: «ألف ليلة وليلة» و«مائة ليلة وليلة» التي درسها وحققها ونشرها محمود طرشونة( )، و«الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة»( ).
عد إبراهيم خرافة شهرزاد أنموذجاً عالمياً للحكاية الإطارية، وهو مصطلح مجتلب عن مياجير هاردت بأنها ذلك السرد المركب من قسمين بارزين، ولكنهما مترابطان، أولهما حكاية أو مجموع الحكايات التي ترويها شخصية واحدة أو أكثر، وثانيهما تلك المتون، وقد رويت ضمن حكاية، أقل طولاً وإثارة، بما يجعلها تؤطر تلك المتون، كما يحيط الإطار بالصورة. وكان الحري بإبراهيم أن يطلق عليها مصطلح الكتاب القصصي، وهو المصطلح الشائع لدى دارسي القصة العربية، ويفيد توافر القصص داخل قصة أو أكثر. ويقال مثل هذا القول عن استعماله لمصطلح تودروف في هذا المجال، حين وصفها بأنها من «الأدب الإسنادي»، لأن «التأكيد فيها يكون دائماً على الإسناد، وليس على موضوعه»، إذ إن الإسناد في الثقافة العربية يتصل بالرواة عن طريق العنعنات، أو أننا محتاجون إلى تعريب المصطلح بعبارة أخرى.
كانت خرافة شهرزاد سبيله للاقتراب إلى البنية السردية للحكاية الخرافية، من خلال مكوني الراوي والمروي له، وأثرهما في تحديد مستويات السرد. فعرض مظاهر هذه الثنائية تعريفاً وترسيمات لنماذج مختلفة مثل:
ترسيمة لنموذج متعدد الرواة إزاء مروي له واحد.
ترسيمة لنموذج وحدة الراوي وتعدد المروي له.
ترسيمة لنموذج تعدد الراوي والمروي له.
ترسيمة لمستويات الرواية ومستويات المروي له.
ترسيمة لنسق توالد الحكايات فيها.
ولا يخفي إبراهيم في دراسته لبنية المروي الخرافي مرجعيته لنقاد شعرية السرد و إرثهم الشكلاني الروسي والبنيوي، كما في هذا الاستنتاج عما يميز الحكاية الخرافية، فهي «تتكون من رواية أفعال، أكثر مما تتكون من أفعال فالفعل الذي يعرض للحزم في أجزاء عديدة منه، كلما ظهرت شخصية جديدة، من الضعف، بحيث يبدو أنه غير قابل للخرق، بل والقطع، في أحوال كثيرة. وهو ما أفضى إلى التكرار، وهو تكرار رواية الفعل، وليس الفعل نفسه. ويندرج ضمن الضرب الثالث من ضروب التواتر التي حدد، جيرار جينيت أربعة منها، وهي:
أن يروى مرة ما حدث مرة.
أن يروى أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة.
أن يروى أكثر من مرة ما حدث مرة.
أن يروى مرة ما حدث أكثر من مرة»( ).
وثمة ما يقال في المصطلح حول مفهوم «الاستباق» اللصيق بتجنيح الخيال، وصار ركيزة من ركائز أدب الخيال العلمي، ومن المعروف أن هذا الأدب تطور عن هذه المخيلة الجامحة في الحكايات الشعبية. وقد ورد مصطلح «الاستباق» عند إبراهيم في سياق الأحلام والوصايا والنبوءة، ليؤكد مظهراً من مظاهر الحكاية الخرافية، «ألا وهو أن الحكاية، تنتمي دائماً إلى الماضي، فالرواية تلحق بالحكاية، ولا يمكن أن تتزامنا، أو أن تسبق الرواية الحكاية، إلا فيما ذكر من أمر الاستباق، علماً أن الاستباق كونه جزءاً من الرواية، يقع ضمناً في الماضي، وتعليل ذلك، أن الحكاية الخرافية تستحضر بوساطة الرواية، وعبر سلسلة من الرواة، وهنالك دائماً فاصل كبير بين زمان الحكاية ومكانها، وبين زمان الرواية ومكان».( ). ويحتاج هذا المصطلح إلى تعليل ظهوره في الحكاية الشعبية العربية داخل الأنساق الثقافية والمعرفية العربية. ويقال مثل هذا الرأي حول مولد البطل الخرافي أو البطل في الحكاية الشعبية، وهي معضلة طالما عولجت عند دارسي الفولكلور.
ركز إبراهيم على الشفاهية، كما لاحظنا، في الوقوف على مكونات البنية السردية للحكاية الخرافية، مع أن الحكاية الخرافية نوع من أنواع الحكايات الشعبية. أما العلاقة بين تلك المكونات فلا تخضع لأسباب يغذيها التطور العضوي المتنامي للحكاية، إنما توجدها صيغة مناقلة الحكاية بين الراوي والمروي له، وهي صيغة شفاهية، لا تهدف إلى توفير أسباب موضوعية، تعمل على تطوير الحكاية الخرافية، بل تعمل على تنسيق مجموعة من الوقائع التي تقع للبطل، وتعرضها بوصفها مشاهد تؤلف سلسلة من الأحداث. وهذا تأكيد لثنائية المروي والمروي له، ذلك أنهما الإطار الذي يوفر الأسباب الكاملة، لظهور الحكاية، الأمر الذي يستحيل معه، وجود حكاية خرافية، دون أن تتشكل وسط إطار صارم، قوامه العلاقة بين الراوي والمروي له.
وانتقل إبراهيم إلى معالجة السيرة في تشكل نوعها وبنيتها السردية، وقد اعتمد اصطلاحياً على تعريف فاروق خورشيد لها: «مجموعة من الأعمال الروائية الطويلة، ذات سمات فنية متشابهة، وذات أهداف فنية متماثلة»، غير أن هذا التعريف لا يقول شيئاً محدداً إزاء جنس شديد الخصوصية مثل السيرة. والحق، أن مصطلح السيرة ملتبس، وثمة اجتهادات كثيرة حوله، ولكنه تجنبها، وخاض في ظهور السيرة في الأدب العربي، واعتنى بأربعة أشكال سيرية هي: التراجم والسير الموضوعية والسير الذاتية والسير الشعبية، وتلمس فوارقها على عجل تمهيداً لتفصيل القول في السيرة الشعبية، إذ وجدها تنتمي إلى مرويات العامة، مما جعلها تتشكل في منأى عن الثقافة المتعالية التي كانت تعنى، إجمالاً، بأخبار الخاصة، الأمر الذي أفضى إلى عدم العناية بهذه المرويات، تدويناً ووصفاً. على أن تشكل السير الشعبية، لا يبتعد عند إبراهيم، عن رواد دارسيها من عبد الحميد يونس إلى فاروق خورشيد إلى البقية، وهو ما كرره اندريه ميكيل وسواه من المستعربين ويقضي بإرجاع ظهور السير الشعبية إلى تعلق الجماعة الإسلامية بذاكرتها، وإلى اهتزاز الوجدان العربي بسبب الحروب الصليبية مما دفعهم إلى أن يعتصموا بعصر البطولة. وقد وضع إبراهيم مسرداً يبين أهم الآراء التي بحثت في زمن ظهور مرويات السير الشعبية، من القرن الثالث الهجري بالنسبة لبعض السير إلى القرن الثالث عشر الهجري بالنسبة لبعض السير الأخرى، ولاحظ في الوقت تغير صورها الشفاهية تبعاً لتغير عصور رواتها، وتأثير الإنشاد على تماثلها فيما بعد، واستدعى ذلك التدقيق بوظائف الرواة انطلاقاً من استخلاص لابدّ من أخذه بعين الاعتبار هو أن المروي السيري يرتبط بالراوي، وعنه يصدر إلى المروي له، ولذلك فهو أداة لتشكيل نسيج ذلك المروي. وذكر وظائف الراوي المفارق لمرويه الاعتبارية والتمجيدية والبنائية والإبلاغية والتأويلية، ووظائف الراوي المتماهي بمرويه الوصفية والتوثيقية والتأصيلية، وعرف بنية الوحدة الحكائية بأنها «سلسلة الأفعال المتعاقبة التي يقوم بها بطل السيرة لإشباع حاجة ما، مادية كانت أو معنوية، وتستدعي رحيلاً عن المكان الذي يقيم فيه، والذهاب إلى مكان خصومه، والدخول معهم في مواجهة، وعودته ظافراً إلى مكانه، وقد أشبع الحاجة التي دفعته للرحيل»( )، وكما عرضنا من قبل، فإن مفهوم الوحدة الحكائية ملتبس مع مفاهيم مقاربة مثل الحافز والوظيفة.
واقترح إبراهيم مكونات الوحدة الحكائية تطويراً للوظائف التي وضعها بروب، فتحفف من تفاصيلها الكثيرة، وأفضى بها إلى تصنيف أكثر تبسيطاً، ولعل حديثه عن بنية الوحدة الحكائية يؤكد مثل هذا الالتباس حين باح بحقيقة مهمة هي أن هذه البنية «محكومة بمنطق صارم، يوجه بناءها، ابتداء من ظهور الحافز، وصولاً إلى إشباع الحاجة التي ينتدب البطل نفسه لها»( ).
ثم اهتم إبراهيم ببنية الشخصية السيرية، ولا سيما تأصيل نسب بطل السيرة قومياً وتاريخياً، لأن الوجدان القومي يرفض بطلاً غريباً عنه. وهو ما سيحكم البنية برمتها التي تتألف منها:
أ- النبوءة. ب- الأصول النبيلة. جـ- الانتساب.
د- الغربة. هـ- الاختيار. و- الاعتراف بالبطل.
ز- التكليف الأولي. ح- المعارضة الضيقة. ط- التكليف القومي ـ الديني.
ي- المعارضة العامة. ك- المعاضدة. ل- الخوارق و*****.
م- الانتصار. ن- العزلة والموت. س- التوريث.
وخلص إبراهيم إلى نتيجة مفادها أن الثوابت الأساسية في سيرة البطل تكشف عن تواتر نسق من «الوحدات الدلالية» تتطابق بنية ودلالة مع نسق «الوحدات الحكائية» التي تؤلف متن السيرة. أما تأثير زمن إنشاد المروي بالنظر إلى زمن أحداث المروي فيؤدي إلى نتيجتين أساسيتين، الأولى طول زمن الأحداث، الذي يبلغ أحياناً عدة قرون، كما في سيرة الأميرة ذات الهمة، والثانية، «التمدد الدلالي» الذي يضفيه الراوي على المرويات السيرية بما يجعلها تنطق، على نحو غير مباشر، بوقائع عصره، لا عصر البطل الذي يروي أفعاله.
وفعل إبراهيم الإجراءات نفسها في بحثه عن تشكل نوع المقامة وبنيتها السردية، وألقى أضواء على الإشكاليات المتداولة بين الباحثين والنقاد: بزوع المقامة جنساً قصصياً، والريادة الإبداعية، وبخاصة الصلة بأحاديث ابن دريد، وثبات البنية التقليدية ومحاولات تقويضها بين رواد المقامات مما جعل لها أكثر من نمط، ولكن إبراهيم آثر أن يقتصر «على دراسة «سردية» النمط التقليدي، كونه يمثل تياراً كبيراً، يتصف بخصائص وصفات محددة، تمنحه حق انتزاع صفة النوع القصصي الخاص، بين أنواع القصص العربي الأخرى»( ).
وأردف إبراهيم دراسته للبنية باستخلاص سمات الراوي وخصائصه: المفارق لمرويه والبطل راوياً، والتعرف بما ينفع في تشابك نسيج البنية السردية، وهي شديدة الخصوصية إزاء الأنواع السردية العربية، وعلى الرغم من الملاحظات التي ذكرناها، فإن مشروعه النقدي منسجم إلى حد كبير، ويدعو إلى الإعجاب في كثير من جوانبه.
تكمن أهمية مشروع عبد الله إبراهيم في نقده الجديد للتراث السردي، ومحاولته الرائدة للكشف عن السردية العربية بعامة، وعن بعض أنواعها بخاصة، وأن السردية العربية بعض تجليات الأصول الثقافية العربية في اتصالها بالقرآن، وبخدمة الدين الإسلامي، وبسيرورة الأدب الشفاهي في التقاليد الأدبية العربية، ومحاولته إدغام مصطلحات النقد الحداثي في سياق تطور السردية العربية.
2-7- صرف حاتم الصكر (العراق) اهتمامه النقدي إلى التراث السردي الأدبي في كتابه «البئر والعسل: قراءات معاصرة في نصوص تراثية» (1992)، إذ عرف عنه الاهتمام بنقد الشعر. استفاد الصكر من قابليات النقد النصي: استخراج الدلالات من شبكة الرموز والمبنى المجازي على وجه العموم.
افتتح الصكر كتابه بنص مفتاحي لابن المقفع هو حكاية تبين كيف تأخذ الحلاوة بلب الرجل، فلم يزل لاهياً غافلاً مشغولاً بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التنين فهلك. وهذا هو الصكر يقدمه لفصول كتابه باستعارة النص المفتاحي «بئر النص وعسل القراءة» ليكون تحليله «أقرب إلى الممارسة النقدية منه إلى الفهم والشرح والتفسير كخطوات تأويلية تقليدية، فلقد انقدت حيث أرادت له النصوص، فسرت في متاهاتها، ولم أسلط عليها قراءتي فقط، بل كانت توصلاتي ووسائلي إلى تلك التوصلات آتية من شعاع النص نفسه: من جرمه الذي يدور حولي، ويفرض علي رؤية فضائه»( ).
صرح الصكر أنه ينشد التحليل التأويلي الذي يفترض أولاً أن ما في النص قد انفصل عن مؤلفه بمعنى أن قصده أصبح بعيداً حين أنجز نصه، وأطلقه حراً للقراءة، موضحاً أنه إذا كان ثمة في عملية التأليف، فهو لا يكمن في نيات المؤلف، بل في تلك العلاقات المتشابكة بين ظاهر النص وباطنه، بين الملفوظ والمكبوت، المقول والمسكوت عنه. وأدرج التأويل في عملية القراءة بوصفها دوراً للقارئ، وما يقوم به هو قراءة.
ومن الواضح، أن ثمة تداخلاً في مفهوم الصكر عن القراءة والتأويل والقصد، يعيدنا إلى إشكاليات لم تحسم في المنطلقات، أو في الممارسة النقدية، وهذه الإشكاليات تتعلق بالنهاجيات المعرفية والإجرائية للقراءة التي قد لا تناسب التأويل، وقد لا تلتقي مع النهاجيات المعرفية المتعلقة بالقصد، لأن ثمة تاريخاً طويلاً لمغالطة القصد في النقد يتصل بوجهة النظر والمبدأ الحواري والتماهي بين المؤلف والراوي أو السارد.. الخ. غير أن الصكر لا يلتزم بمنهج حداثي معين، مكتفياً بأن نقده قراءة تستعمل التأويل بالدرجة الأولى، وتنبه إلى ما في النص التراثي من محمول دلالي ربما يفوت القراءة العابرة.
يستخدم الصكر بعض مصطلحات نقاد شعرية السرد دون الالتزام بمنهجهم، مثلما ترد في نقده مصطلحات من فوكو ودريدا مثل «شعر الحكايتين» (في الصفحة 18)، فالطبقات التي تختفي تحتها النصوص تسمح بما لن ينتهي من الحفريات تجوس متعرفة مكتشفة» (في الصفحة 22)، «اشتراطات القارئ المتكون قبل النص» (في الصفحة 22).. الخ.
يختار الصكر أول حكاية للقراءة من «كليلة ودمنة»، وهي حكاية رمزية أطلق عليها اسم «البئر والعسل» (عنوان كتابه)، ومنها أخذ مفتاح نقده التأويلي. وتعد قراءته لهذه الحكاية نموذجاً لشغله النقدي، فقد وضع لها مدخلاً عرف فيه بعبد الله المقفع ومكانته الفكرية والأدبية وأسلوبه البلاغي والتمثيلي.
ويلاحظ أن الصكر جاوز التأويل إلى مبالغة تقدير قصد المؤلف، إلى حد أنه قوله ما لم يقل، كما في هذا الحكم النقدي: «وجد ابن المقفع أن الحكاية أفضل الطرق لتوصيل الأفكار، شرط ألا يطغى عنصر المتعة على المغزى (وهذا مقبول).. وبهذا الشرط أراد لكتابه «كليلة ودمنة» أن يقرأ.. إنه يقترح في الواقع نوعين من القراءة:
الأولى: ظاهرية تأخذ القصص بما جاءت عليه من إطار ممتع، فهي تسرد على ألسنة الطيور والحيوانات، فيجد فيها الهازلون بغيتهم، والثانية: باطنية تسبر أغوار الحدث القصصي لتترجم مفرداته إلى ما يعادلها في الحياة وتطبق الحكمة المستفادة على ما يشبهها من الأحوال»( ). ولا نعرف إلام استند الصكر من أقوال وقرائن جعلته يطلق مثل هذا الحكم أو التأويل؟.
انطلق الصكر في نقده من إيمانه بالبعد الرمزي لحكايات «كليلة ودمنة»، واستخدم مصطلح «الترميز»، ولم يوضح حدود استعماله لهذه المصطلحات لأن نقده لا ينتمي إلى المنهج الرمزي المعروف، إذ تتعاور قراءته النقدية شيات من الشرح والتأويل والترميز (رمز ومرموز، دال ومدلول)، ولعل هذا ما جعل القراءة تفتقر إلى تحديد نهائي لمقاصدها، خلا الإشارة إلى انتساب «النص إلى حقل الأدب التربوي الذي تصاحب فيه المنفعة دائماً ما يمكن أن يصل إلى القارئ من متعة»( )، ولا تخدعننا في هذا المجال الأشكال والترسيمات التي صارت إلى حلية أو زينة دون توظيف نقدي يذكر، فما الذي يقوله في النهاية الشكل رقم 1 عن «صورة الدوال»، وما الذي يقوله الشكل رقم 2 عن «صورة المدلولات»؟. إنه الولع بالحداثة على سبيل المحاكاة البراقة حيناً، وعلى سبيل المحاكاة الوظيفية في إنتاج نقد جديد حيناً آخر. وما فعله الصكر، تطوير للنقد اللغوي والبلاغي بشيء من نهاجية حديثة تقترب من القابليات التي تتيحها القراءة أو التأويل أو الترميز، لعل الإطلاع على قراءته لنص آخر تبين ملامح أخرى من تحديثه لمنهجه، يقرأ في «العصا المبصرة» نصاً من ملحمة جلجامش وتبيين للمعري، على أنهما يسعفان في تبيان «تجليات التوصيل في حاسة غائبة».
يلجأ الصكر في قراءته إلى التناص سمة من سمات منهجية التفكيكية، فيقارن النصين بقصة لمحمد خضير عنوانها «إلى المأوى» من مجموعته «في درجة 45 مئوي». ويمد مجال المقارنة إلى نصوص أخرى لسارتر في «التخيل»، والجاحظ في كتابيه «الرد على المشبهة» و«البرصان والعرجان والعميان والحولان» ومعجم العين، وقصيدة لبشار بن برد، ونصاً لطه حسين في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه»، ونصاً لملتون في «الفردوس المفقود»، ونصاً من الأدبيات العراقية القديمة من كتاب «المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين ـ مختارات من النصوص البابلية»، وقصيدة للمعري، وبعض أخباره من كتاب «تعريف القدماء بأبي العلاء»، وجاء ذلك لتحديد دلالات البصر والبصيرة.
ثم عمد إلى التناص مع نصوص أخرى في تدليله على «استيهام الرؤية باللمس»، من قصيدة لابن العلاف، ومن ملحمة الخلق البابلية «عندما في غي العلى»، ومن الصفدي في كتابه «نكت الهميان في نكت العميان»، ومن قصيدة للخرمي، وقصيدة لبشار بن برد، ومن خبر عنه، ومن قصيدة للمعري، وقصيدة «المومس العمياء» للسياب، ومن كتاب جابر عصفور عن طه حسين «المرايا المتجاورة»، ومن نص لإلياس كانيتي في كتابه «أصوات مراكش»، ومن قصيدة «العميان»لبودلير، ومما يجدر ذكره أن الصكر اكتفى بالقراءة التناصية المقارنة ليؤكد أن البصيرة تفوق البصر.
قرأ الصكر في كتابه نصوصاً تراثية نثرية وشعرية في فصول، وجمع في قراءته بين النصوص النثرية والشعرية في فصل واحد أحياناً، مثل «تأملاته في فضاء الغراب» في حكاية «من رسالة الحيوان والإنسان» لإخوان الصفا، و«القدرة التواصلية في الجنون» في نص شعري لأدونيس، و«الطبيعة التواصلية للأسرار» في نص للجاحظ من كتابه «كتمان السر وحفظ اللسان»، و«الحكاية منظومة» في حكاية من حكايات «كليلة ودمنة» وفي نص شعري لحسب الشيخ جعفر نظم فيه هذه الحكاية شعراً بعنوان «صيحة الجرار»، و«انشطار العاطفة» في قصيدة لابن دلامة يرثي فيها المنصور ويهنئ المهدي، و«اتساع المشهد وضيق المكان» في نصوص متعددة، و«تعويذة القشة» في نصوص بابلية، و«كاتب الخط وكاتب اللفظ» في نص لابن قتيبة، و«المنادمة والنديم» في نص لابن المعتز من كتابه «فصول التماثيل في تباشير السرور»، و«الخبز: الرمز والجسد» في نص «جلجامش» ونصوص أخرى.
واختتم الصكر قراءاته بحديث مراوغ عن «غوايات المؤلف»، يفضح بعض أسرار صنعة التأليف، فمن «حيث يحسب المؤلف أنه يغوي قارئه باصطناع المقدمة، فإنه في حقيقة الأمر يعترف بغواياته هو: بما خضع له خلال عملية التأليف، وتسلط عليه عند إنتاج الكتابة وجذبه إلى اقتراف البوح والمكاشفة»( ). واختار مثالاً لهذه الغوايات مقدمة الجاحظ القصيرة لكتاب «البخلاء»، ليجد أن ما وعدنا به الجاحظ من حجج متبادلة يبدو مغرياً للقراءة، فهو لا يتحقق في الكتاب، لأن الجاحظ واقف في جهة واضحة من ظاهرة البخل هي الرفض.
وتفيد الخلاصة الأخيرة شيئاً من اندراج منهجية الصكر في الاستفادة من معطيات العلاماتية والتفكيكية على نحو مبسط، حين تمعن القراءة في تأويل اللغة والإشارات والرموز لتستخرج من تراكب علاقات النصوص مطاويها ودلالاتها.
2-8- اهتدى عبد الملك مرتاض إلى منهجه السيميائي التفكيكي الذي طبقه في دراسته لألف ليلة وليلة، مختلفاً الاختلاف كله عن منهجه التقليدي الذي ألف على منواله كتبه حتى منتصف الثمانينات. وعاد إلى دراسة المقامات وفق منهجه الحديث في كتابه «مقامات السيوطي» (1996). وقد اختار لدراسته مقامة واحدة هي «الياقوتية» من أربعة مستويات هي:
المستوى الأول ينصرف إلى سيميائية التشاكل في المقامة الياقوتية.
المستوى الثاني ويتعلق بسيميائية الألوان في هذه المقامة.
المستوى الثالث ويعنى بجمالية الحيز فيها.
المستوى الرابع والأخير ينصب على جمالية الإيقاع فيها.
بدأ مرتاض دراسته بمدخل تقليدي تاريخي موجز عن ماهية المقامة وشأنها في الأدب العربي، وعن السيوطي ومكانته بين كتاب المقامة من خلال ثلاثة مستويات هي المستوى اللغوي والمستوى التناصي القرآني والشعري، والمستوى الجمالي، ليظهر مدى تميز مقامات السيوطي من المقامات الأخرى، فهو مختلف عن السابقين له، واللاحقين به، على الرغم من اتباعه التقاليد العامة للكتابة الإبداعية على عهده. ولذا عقد العزم على دراسة هذه المقامات من وجهة نظر حداثية: «أن نقرأ النص ونؤوله، ونحلله أو نشرحه، لا أن نقيم من حوله هيئة محاكمة بحق أو بباطل»( )، ويخشى أن يؤدي ذلك، برأيه، إلى الوقوع في النقد التقليدي الذي لم يعد راضياً عنه.
حلل مرتاض في المستوى الأول سيميائية التشاكل في نص المقامة الياقوتية، الذي يفيد معنى المكان المتساوي أو تساوي المكان، ثم توسع في إطلاق هذا المصطلح على الحال في المكان من باب «التماس علاقة المجاورة أو العلاقة الحالية ذاتها: أي في مكان الكلام»( )، واستنكر أن يحلل أي محلل أي نص أدبي في غياب النظرة إليه من زاويتي التشاكل والتباين من وجهة، ومن زاويتي الانتشار والانحصار (ويشير إلى أن هذين المصطلحين، هما أيضاً، مما يندرج ضمن مستحدثاته المفاهيمية) من وجهة أخرى، ثم وقف جهده على تحليل ثلاثة نماذج فقط من الوجهة التشاكلية:
أولها: نموذج من خالص نص المقامة (أي من إنشاء الكاتب نفسه).
وثانيها: نموذج من الحديث النبوي الوارد في بعضها.
وثالثها: نموذج واحد من الشعر المستشهد به فيها.
ويستغرق مرتاض في التوصيف الشكلي البديعي على غرار السكاكي في تصنيفاته البلاغية والبديعية، مما يفتقد المعنى غالباً، كأن يورد أشكالاً نسجية مثل التشاكل النسجي ثلاثي الأطراف، والتشاكل النسجي ثنائي الأطراف، والتشاكل النسجي ثلاثي الأطراف يمكن ملاحظته في مستوى الكلام لدى قراءة العناصر اللسانية، عمودياً وأفرادياً، والتشاكل النسجي ثنائي الأطراف، إفرادي العناصر، والتشاكل المعنوي لعناصر الكلام، والتشاكل المركب، والتشاكل المعنوي لمراعاة أصل الصفة في ذاتها، والتشاكلات الأخرى.
لقد أوغل مرتاض في الشكلية إلى منتهاها، توصيفاً وتصنيفاً ورسماً لأشكال لا تضر ولا تنفع، دون أن يخلص في تحليله إلى حوصلة أو دلالة أو معنى، على الرغم من تألق التحليل وجمال اللغة وفطنة التدليل على عناصر المقامة، كمثل حديثه عن سيميائية الألوان خلل استعماله لمصطلح الهرمنوطيقيا أو التأويل، فقد توزع حديثه عن الألوان إلى المحاور التالية:
أولاً: لماذا الحديث عن الألوان في هذه الدراسة؟
ثانياً: ما الألوان التي تهيمن على نص هذه المقامة؟ وما الألوان التي تغيب عنها؟ ولماذا؟
ثالثاً: الألوان الصريحة.
رابعاً: الألوان المؤولة.
ولعلنا نذكر مثالاً لحديثه عن التزاوجات اللونية:
«التشكيل اللوني الأول
أبيض مع أحمر (در مع ياقوت)
أبيض مع أزرق (در مع ياقوت)
أبيض مع أصفر (در مع ياقوت).
التشكيل اللوني الثاني
أبيض مع أخضر (الدر مع الزيرجد)
أبيض مع أبيض (الدر مع النرجس)
أبيض مع أصفر (الدر مع النرجس في قراءة ثانية للنرجس).
التشكيل اللوني الثالث
أحمر مع أخضر (الياقوت مع بسط السندس)
أزرق مع أخضر (الياقوت مع بسط السندس)
أصفر مع أخضر (الياقوت مع بسط السندس)»: ( ).
وكانت خلاصات مرتاض شكلية لا طائل وراءها كمثل قوله:
«وواضح أن الألوان الأجمل، والألصق بالأنوثة، والأدنى إلى الرقة والبهاء هي الألوان التي وردت في المراتب الثلاث الأولى وهي الأصفر، والأحمر والأخضر ثم الأبيض، على حين أن الأزرق جاء في المرتبة الأخيرة، لأنه أقل الألوان وروداً في التجميل، وأندرها شيوعاً في التزيين»( ).
عني مرتاض بتحديد مصطلحاته في مطلع دراسته للمستويات جميعها، فخالف الجميع، بصريح العبارة، في فهم مصطلح الحيز Space - Espace، فأطلق لفظ «المكان على كل ما هو جغرافي، والحيز على كل ما هو خيالي، أو روحي، غيبي، غير مرئي، مثل الجنة والنار، وما وصفتا به من أحياز سحيقة، ونص هذه المقامة المطروحة للتحليل مما يشتمل على أخبار من الجنة عجيبة، أو خرافي، أو أسطوري، مثل السبل الغريبة التي تسلكها الجان، ومثل المهاوي السحيقة التي تهويها في أعمق الأعماق الأرضين، بناء على المعتقدات الشعبية العربية»( )، ولكنه ما يلبث أن يغرق الشكليات والوصف والتوصيف المجاني الذي لا يؤدي إلى معنى، ولا يضيء دلالة.
أخذ مرتاض عن السيميائية إجراءاتها، وجانب فحصها للمحتوى ومداها التأويلي لدلالات النصوص، ليصير نقده شكلياً لغوياً يشير إلى جلده ومكابدته لتلاوين المفردات والجمل وإيقاعاتها، وأغفل الفعلية والمسرودية وطبيعة النوع السردي الذي تمثله مثل هذه المقامات، ففاضت الحكائية في ألعاب اللغة وبلاغتها ورسومها كمثل قراءته الإيقاعية التالية:
«1- وشبه
وجعل.
2- بي
في
في.
3- معدني
مسكني.
4- الحور
البحور
النحور»( ).
وقد ارتأى أن يتجزأ بما قدمه من تحليل، عبر هذا المستوى من المدارسة لنص المقامة الياقوتية للسيوطي، وحسناً فعل، إذ لا طائل وراء هذا اللعب اللغوي والشكلي الذي يغطي على طبيعة المقامة السردية والفكرية والدلالية.
من الواضح، أن مرتاض يدرك تبعات منهجه، ويوحي هذا النص الختامي بإغفاله لما يشير إلى السردية وخصائصها العربية التي ميزت المقامات، لقد نظر إلى المقامات من وجهة لغوية استفادت من المنهجية الحديثة لتقع في شكلانية محضة، معولاً على دور المتلقي في تحليل هذا النوع السردي.
2-9- استند محسن جاسم الموسوي (العراق) في دراسته للتراث السردي الأدبي على مشروعه في البحث العلمي للسرد العربي قديماً وحديثاً. وانطلق من النقطة الأصعب، ألا وهي المثاقفة المعكوسة، حين خصص دراسته الأكاديمية الأولى، باللغة الإنكليزية، في مطلع السبعينيات، على أرض الغرب، لتأثير السرد العربي على الأدب الإنجليزي، وظهرت الدراسة بالعربية في كتاب «ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي ـ الوقوع في دائرة *****» (1982)، ثم تلته كتب كثيرة عن السرد العربي الحديث: قصة ورواية، ليتوج مشروعه في نقد التراث السردي الأدبي بمنهج حديث يعد بالاستقلال الثقافي والنقدي، فقد دان في تمهيده لكتابه «سرديات العصر العربي الاسلامي الوسيط» (1997) أخذ الدراسات الكثيرة للسرديات العربية الوسيطة بآليات القراءة الغربية للسردية، بمناهجها وعلاماتها المستجدة، منذ العناية الشكلانية بالحكاية، وصعد نبرة الإدانة لارتهان الباحثين والنقاد لهذه المناهج الحديثة، «إذ لا تكفي كثرة العكازات والشواهد والإحالات على باختين وبروب، أو على الشكلانيين الروس والنقاد الجدد، أو على البنيوية الغربية، وما بعدها للإتيان بقراءة عميقة للسرديات، فالذي لابدّ منه كخطوة أولى تسبق التعامل الناقد مع النص هو توطين الذات الغارقة داخل الجهاز المعرفي وآلياته، لتأتي القراءة متناغمة وغنية. وعندما يغيب ذلك ويجري استنطاق النص مرغماً، ويستعان له بعكازات من هنا وهناك، تصبح القراءة تمريناً مدرسياً مبتدئاً، لا يغني كثيراً في ميدان يستدعي الحذر من جانب، وتدفق الاستجابة المنظمة من جانب آخر»( ).
انتقد الموسوي الرأي الآخر المنحاز إلى نماذج السرد الغربي الحديثة، وفي خضم ذلك، التبعية، وأكد أن الرواية العربية استعانت بالموروث السردي العربي، على الرغم من القطيعة، وتموضعت في أنساق المحكي، أو تناصت مع نصوصه المدونة، أو عادت ثانية إلى بنيات سياسية واجتماعية، وأخرى معرفية، تعود إلى عصور خلت، تسترجعها بشكل أو بآخر، وكأنها تعيد تمكين السرد من الامتداد في أكثر من ظاهرة ونوع. واسترجع الموسوي فكرة المثاقفة المعكوسة بشأن «شهريار المرفوض حسب معيار غربي أخلاقي هو نفسه الذي يتقمصه الغرب في علاقته بالشرق»( ). وأثار مجموعة من المشكلات التي تخص السرديات العربية الإسلامية الوسيطة: لماذا تغيب الوحدة التي تتجمع عندها المتواليات السردية في عقدة واحدة؟ ولماذا يعنى العرب بالخبر كما لم يجر ذلك في أغلب الثقافات؟ ولماذا جرى التدوين بهذه السعة؟ وكيف لنا تدبير الغائب من النصوص؟ ولماذا التقابل بين الموضوعات؟ وما سر هذا الإصرار على أخبار الصفوة؟ وكيف تظهر المدن في الأخبار؟ وما جوهر العلاقة بالشعر؟ بلغته وتحولاتها؟ وما الذي يجمع المقامات؟ وكيف تستجيب الأخبار وكذلك السرديات بعامة لوطأة الإحساس بالدهر؟.
بدأ الموسوي مشروعه بالبحث عن تسمية للمحكي بين المرويات والمنقولات والمسموعات داخل التقاليد الثقافية العربية وتطوراتها وصراعاتها، وانطلق من الإقرار بولع العرب بالأسمار كولعهم بالشعر. «يأتي الشعر بالمدونة إلى الجنس السائد والمقبول، بينما يخرق المؤلف بالمجالسة الخاصة ما هو مضروب من حجاب ضد المحكي، فتظهر المجالسات أسماراً يختلط فيها بأكثر من جنس أدبي محدد، كذلك الذي جرى قبوله وتموضع في حياة السلطات وفئاتها الأساس»( ).
ووجد الموسوي أن القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، شهد اهتماماً بتدوين المحكي، كما يشير فهرست النديم، واقترن ذلك باحتراف المسامرة والمهاترة والمنادرة، وساق أنموذجاً لذلك هو أخبار التنوخي في كتابه «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» الذي حوى حكايات تشمل على توالٍ سردي متوتر ضاج بالفعل، مما أفسح المجال لظهور مؤلفات كثيرة تحتضن الأنواع السردية بمكوناتها المختلفة والمتعددة.
وانتقل الموسوي خطوة أخرى في مشروعه من البحث عن تسمية المحكي إلى «فعل المسامر والمنادر والمهاتر: من المشافهة إلى المكتوب»، وارتبط هذا الفعل بالتدوين، «أي الارتقاء بالأسمار إلى المكتوب، في ضوء فرضيات المجتمع التراتبي، وهي فرضيات لم تفسح المجال بعد لمن يسميهم الحصري «المنادر والمهاتر والمسامر» بتغطية هذه المساحة ما دام «الراوية أحد الشاتمين»، و«السامع أحد القائلين» يقيمان في فضاء المشافهة، وليس في حدود الكتابة والتدوين»( )، وهذا ما دعاه إلى قراءة شروط المسامرة والمسامر، ومواصفات المنادر والمنادرة، من أجل معرفة السرد مزاولة وفعلاً، ويسر ذلك تقصي الجهود الكتابية، وكان الجاحظ من أوائل العلماء والأدباء الذين عنوا بالسرد، وقد حذا الحصري حذوه في كتابه «زهر الآداب»، فوضع ما يشبه «استراتيجيات السرد».
وكشف الموسوي عن أساليب الرواة، فثمة راو جامع، راوي الرواة كالحصري، وثمة راو حاضر كالأصمعي والصولي، وثمة راو شريك وفاعل كالحسن بن سهل وأبي العيناء، وثمة رواة التناسل، الذين يظهرون عن آخرين كالعتابي عن الحمدوني وغيره، وثمة راو مـرسل جرى تكليفه بذلك، أو دُعي لهذا السبيل لسبب أو لآخر، كالتوحيدي في الامتاع والمؤانسة. ونلاحظ أن الموسوي يقرأ السرديات العربية من داخلها، وبما هو أقرب إلى الموروث النقدي وقد جرى اشتقاقه استحداثاً له لا تغريباً عنه. وتخلو تسويغاته وأحكامه من الارتهان للتقليد الغربي النقدي الحداثي كما في ملاحظته على الحصري على سبيل المثال( ).
خصّ الموسوي الجاحظ بعناية فائقة، وكتب عن «مفهوم السرد عند الجاحظ: النظرية والكتابة»، إذ يكاد يطور مفهوماً للسرد يتجاوز فيه ما كان سائداً في قصيدة السرد أو في الآثار القائمة حينذاك عندما يؤخذ هذا المفهوم في ضوء تعددية النظرة وتنوع الصوت من جانب، وكذلك في ضوء غاية السرد وفعله من جانب آخر. وعلى الرغم من أن الجاحظ لم يجر التفريقات المطردة في مصطلح النادرة والحكاية والحديث والخبر والقص، إلا أن مصادرها برواتها ومنشئيها أو فاعليها، هي التي تتيح لنا تحديد المصطلحات ومفاهيمها.
ورأى الموسوي أن الجاحظ معني بثلاثة أمور تستحق الملاحظة والانتباه عند قراءة السرد العربي في عصره الذهبي الذي شاعت فيه الحاجة الاجتماعية للإصغاء والاستماع والقراءة وحتمت النقل والترجمة عن الآداب الأخرى: فهو يفرق بين النادرة والقصة، وكذلك بينها وبين التأويل، ملاحظاً أن ثمة تداخلاً بين هذه الأفعال، القاص والمحتال والمكدي واللص، وكلها تجتمع على «المحاكاة» و«التمثيل» والاسترضاء والخداع والحيلة. ويتابع الموسوي اجتهاده من داخل خصوصيات الثقافة العربية ومكانة السرد فيها، فيجد أن جميع الآراء تتفق على أن القاص أو القصاص صاحب قول ووعظ ونادرة، وكلما اتجه القصاص نحو التمثيل، اخترق الخاصة نحو العوام، إذ يردف الجاحظ، أثناء السرد، ردود فعل المتلقين، وهذا ما يجعل «النص الجاحظي قادراً على التشخيص، ويتدخل فيه الحضور والتجسيد بالخبر، فالشخص سرد، كما يكتب اللاحقون، من أمثال تودوروف، وهم يعنون بالسرد في شعرية النثر: فلا شخص بدون حدث، كما لا حدث بدون شخص، وكلاهما سرد. ولهذا يتناول الجاحظ السرد وكأنه «الحديث»، والحديث كأنه السرد»( ).
ثم تطور فعل السرد عند التوحيدي، تلميذ الجاحظ، مباركاً ملاحظات عبد الرحمن كيليطو في كتابه عن المقامات، فالذين كتبوا في المحكي من التالين للحداثة لم يخرجوا عن دائرة المقارنة الأساس التي عقدها بين الجاحظ وبين حكاة القرن الرابع الهجري. غير أن التوحيدي، يفترق عن الجاحظ، في وفرة التلميح وتعذر التصريح لديه، مثلما يتبدى هذا الافتراق في «حركية» السرد ومكوناته.
ويذكر الموسوي ملاحظات أخرى حول فعل السرد عند التوحيدي فيما يلي:
توزيع «الحديث المتباعد الأطراف» في ليال يعجز عن تكوين بنية سردية، كما أن غياب نزعة التشخيص لدى الراوي يدفع بفنه بعيداً عن الجاحظ، لاسيما في «البخلاء» لكن هذا التوزيع يسقط على الحديث إطاراً زمنياً يموضعه في زمان.
هؤلاء الرواة، سواء كانوا «بدلاء» أبي حيان، أو ظهروا كشخصيات معاصرة أو متقدمة، يشتغلون غالباً في الحوار والمجادلة، ليكون السرد متتالياً على هذا الأساس، أي تنامي المجادلة والمنطق ومتابعة الأخبار.
التوحيدي، راو شهرزادي، أكثر استقراراً واتساقاً عندما تسعفه منقولاته المراوغة، فتتعدد لديه الأصوات، ويترك لها حرية السرد.
مراعاة حاجات الحكي لدى المتلقي.
تتضمن استراتيجيات السرد لدى التوحيدي الاحتجاج والجدل والاقتباس والنقل والتضمين والإشارة والتلفيق والإهمال المتعمد. كما إنها تتضمن التصريح والمراوغة، معنية بالكلام وصنوفه أكثر من العناية برسم الشخوص ومقالب الأحداث، ومتباعدة عن «سخرية الجاحظ، وقدراته الفريدة في التسلط على أوضاع الأشخاص ومصائرهم ورغباتهم المعلنة والمكبوتة، ولذا فهو صاحب خبر وحديث.
وتابع الموسوي دراسته للسرد العربي غفران أبي العلاء المعري، وأطلق على سرده «مخاتلات النص» حيث تتطور استراتيجيات السرد، لتنحرف إلى التصريح، بتأثير تعدد الأصوات المبثوثة داخل النص، فقد اتسع الشكل الحواري والتمثيلي، وتراكيبه المتباينة وشروحه المفترضة وأدعيته واستهلالاته وتمنياته.
واستخرج الموسوي من سرد المعري خصائص وسمات أخرى، نوجزها فيما يلي:
ينبغي ألا نغفل المتلقي الضمني الذي يقيم في واقع المجالس، كما يقيم في ذهن باث الرسالة.
بروز شكل الوصايا والإخوانيات، حيث ثمة شخصية تتشكل من وراء كلمات صاحبها، وتدعي الإيثار والفداء كلما جرت المقارنة بالمرسل إليه.
تعبير تعدد الأصوات عن الصراع الكامن والظاهر، وكما يتأكد من خطاب ابن القارح تتساوى السلطة مع الحق.
توافر المحاكاة الساخرة الموضوعة لغرض التهزئة.
تتمدد الكلمات شراكاً وشباكاً يقيم فيها ابن القارح وسبيلاً لتشكل «الرحلة» أو «النزعة» سردياً على أساس مكونات الفعل الأساس، الحركة كالسير، والصوت كالإنشاد، والنظر، والمنادمة، والسؤال، والخاطرة، فالفعل الذي يتحرك من خلاله السرد لا يتحدد بالحدث الخارجي، على الرغم من أن هذا الحدث هو الإطار الخارجي لرحلة التطهير التي يمر بها «فاعل» السرد أو شخصيته المركزية من الفردوس إلى المحشر فالجحيم فالفردوس ثانية.
ويرى الموسوي أن هذه المكونات السردية، سواء اشتغلت دافعاً أو فاعلاً أو حضوراً قرينياً فقط، تتيح للسرد أن يتسع لاحتواء المشاهد والمناظرات والمقابسات والمساجلات. وقد دعم المعري سرده بأسلوب المحاكاة الساخرة، وباللجوء إلى بنية المفارقة الملغومة.
وانتقل الموسوي بعد ذلك إلى مقامات الجوابين، خطوة تالية في تطور السردية العربية، وهي المقامات التي خرجت من جبة الجاحظ، ويعلل ظهورها، في مسار شغل كيليطو وسواه، في ضوء الأنساق الثقافية، على أن الموسوي، كعادته، لا يوثق مراجعه ومصادره إلا عرضاً أو إلماحاً أحياناً. مثلما تعاني كتابة الموسوي من ضعف التبويب أو التصنيف لانغمارها بالشرح وفيض التأويل أو توليد المعاني والدلالات. وقد ذكر مصطلح كيليطو حرفياً، وأشار إلى مجموعة دراسات متصلة بالمقامات دون توثيق( ).
وعلل الموسوي تحولات المقامة وضمورها، بالنظر إلى انحرافها جنساً أدبياً عن أنساقه. وختم حديثه عن تطور السرد العربي بالوقوف ملياً عند «ألف ليلة وليلة» الذي يعد ذروته، وتلمس خصائصه في المناحي التالية:
• العناية بالوصف التزييني وبالقرائن.
• بناء وحدات القص الوظيفية على أساس الإجابة عن استفهام، فالاستفهام هو الحافز الرئيسي للحكي، والمعادل للحنق الشهرياري.
• التعددية اللسانية وما تفصح عنه دلالياً ومعرفياً، إذ تتباين بتباين الحكايات، وهي تتأكد في احتواء الاستفهام على أساس دائري ملتف، فيه الإضافة والإسراف والسجع.
• حدة جريان السرد انشغالاً بالتوصيل والتبليغ والهدم والحضور الشخصي.
نقد الموسوي حداثي يتأصل في المعرفة النقدية بلغتها وبمصطلحاتها إلى حدّ كبير، على أن سيولته في الشرح والتأويل دون توثيق أو تصنيف تجعل متابعته عسيرة، والتعريف بنقده عصياً. وما يحتاج إليه هذا النقد أيضاً هو التسويغ المنهجي وتحديد المصطلح لإضاءة قضية شائكة مثل تطور السرد التراثي، أو الموروث السردي.
2-10- تشير آخر دراسات الموروث السردي المتأثرة بالاتجاهات الجديدة إلى الأخذ شبه التام بمنهجية علم السرد التي تكونت في رحاب هذه الاتجاهات، وهذا واضح في كتابي «السرد في مقامات الهمذاني»(1998) لأيمن بكر (مصر)، و«تحليل النص السردي: معارج ابن عربي نموذجاً»(1998) لسعيد ال**** (مصر)، ومن الواضح، أنهما يكادان ينقطعان عن الجهود العربية النقدية المبذولة في هذا السبيل كما يظهر من أمرين: أولهما حرصهما على التمهيد لدراستيهما بشروح نظرية باتت معروفة في حركة النقد الأدبي العربي الجديد، وثانيهما فقر اطلاعهما على الدراسات السابقة كما تشير مقدماتهما ومتني بحثيهما وثبتي فهارسهما، إذ ذكر أيمن بكر، على سبيل المثال، دراسة عبدالله ابراهيم «السردية» ودراسة ناصر عبدالرزاق الموافي (مصر) وعنوانها «القصة العربية: عصر الإبداع» (ط2 1996)، وهي دراسة تبسيطية تحليلية في خمسة نصوص سردية للمقامة وسواها مما أنتج في القرن الرابع الهجري.
وسع ال**** مجال السرد ومفهومه في دراسته اعتماداً على بعض معطيات علم السرد كما عرفت في اتجاهات البنيوية وما بعدها، وقد سماها علم السرد والشعرية، مثل مفهومي الوظيفة والمتوالية عند رولان بارت، واستخلاص التركيب النموذجي للوظائف فيها، مع الإفادة من بروب وكلود بريمون، وتحليل تودوروف الخصب للأدب العجائبي (الفانتازي)، وعلاقات الراوي والمروي والمروي له، ومفهوم التداخل النصي والاهتمام بالخطاب ذاته وبما وراء النص /المتعاليات النصية عند كريستيفا وسواها.
اختار ال**** لدراسته بعض نصوص ابن عربي، وهي ليست سردية أو قصصية لدى كتابتها، وإن تضمنت طابعاً سردياً وهي:
• الإسراء إلى المقام الأسرى، وهو كتاب قائم بذاته بتحقيق سعاد الحكيم.
• ما اصطلح على تسميته بمعراج الفتوحات، ويرد في الفتوحات المكية في الجزء الثالث ممتداً على الصفحات 345-350.
• معراج «في معرفة كيمياء السعادة» أو «معراج التابع المحمدي وصاحب النظر الفلسفي». ويرد في الفتوحات المكية في الجزء الثاني ممتداً على الصفحات 272-284.
• ما اصطلح على تسميته بالمعراج المعنوي، وهو الوارد في السفر الأول من الفتوحات المكية بتحقيق عثمان يحيى، ممتداً في الفقرات 332-365.
• معراج التنزلات، وهو الوارد في كتاب التنزلات الموصلية، في الصفحات 243-338.
أي أن ال**** عمد إلى اختيار نصوص قليلة من نتاج هذا الفيلسوف الكبير الذي لا يُعرف بانتمائه إلى جماعة القصاصين والسراد، وإنما جعل القص والسرد أسلوباً ومطية لفكره الفلسفي والصوفي( ).
استند ال**** في فصله الأول «بناء الوحدات الحكائية» بالدرجة الأولى على تودوروف وبروب وبارت، وسبك هذه المعرفة النقدية الجديدة في تحليل سردي يأخذ ببعض العلاماتية، وإن لم يذكر مصادرها، بينما صاغ الفصل الثاني «الرؤية وتعدد الذوات السردية» وفق مصطلحات بارت وتودوروف وجاب ليننفلت، وما أثر عنهم وعن سواهم لدى بعض الباحثين المبكرين ممن عرّفوا بطلائع هذه الاتجاهات الجديدة أمثال سمير المرزوقي وجميل شاكر (تونس)، وعبدالله ابراهيم (العراق)، وصلاح فضل (مصر).
واستفاد ال**** في فصله الثالث والأخير «التداخل النصي» من كريستيفا وباختين وتودورف ومارك انجينو وفوكو وبعض المشتغلين الأوائل بهذه الاتجاهات أمثال بشير القمري (المغرب) وسعيد يقطين (المغرب) وصبري حافظ (مصر) ومحمد مفتاح (المغرب).
وثمة ملاحظة حول الاستغراق في تلقف الاتجاهات الجديدة، كما في نقل الحديث عن التناص بوصفه مرتبة من مراتب التأويل وعن وضع تقسيم منطقي عام للعلاقات بين النصوص دون ذكر مصدره، بينما هو مأثور ومتداول لدى المشتغلين بالنقد الأدبي العربي الجديد، وألا كيف يسوغ ال**** ذكر هذا التقسيم في خاتمة بحثه دون تطبيقه على نصوص المعارج مثل التآلف المتطابق، والتآلف المتماثل، والتآلف المتشابه، والتخالف المتناقض، والتخالف المتنافر، والتخالف المتقاطع( ). إن هذه المعلومات لا توظف في سياق التحليل السردي لمعارج ابن عربي، مما يبين ذلك التنازع في عناصر التحليل السردي ذاته بين المكونات التقليدية وتأثيرات الاتجاهات الجديدة.
ونلمس التنازع إياه في كتاب أيمن بكر «السرد في مقامات الهمذاني»، فقد اعتمد أيضاً على علم السرد ونظرية السرد Theory of Narrative, Narratology، راصداً العناصر السردية المكونة للنص، وصولاً إلى تحديد خصائئص نوع المقامة، واعترف بكر أنه لجأ إلى تقسيم نظري يقوم عليه التحليل ويتبين نموذج ميك بالMieke Bal في كتابها «Narratology: Introduction» (1996، تاريخ طبعته الأولى في الولايات المتحدة)، على أن التقسيم النظري الوارد لا يخص من نسب إليها إذ كان بارت أول من أطلقه في كتابه «التحليل البنيوي للقصص»، أما كتاب ميك بال فهو تعريفي بعلم السرد كما أظهرته إنجازات واضعيه، كذكر ثلاثة مستويات للسرد هي مستوى الإحداث الغفل، (والأفضل أن نسميه مستوى الحكاية) Fabala ومستوى القصة Story ومستوى النص/الخطاب ****، أو أن يذكر مكونات السرد بوصفه قصة، وهي: التبئير Focalization والشخصيات Characters والزمن Tense والفضاء Space، أو أن يذكر ملامح السرد بوصفه خطاباً، وهي: الوصف Pe******ion، والخطاب Discourse والراوي ومستويات الرواية Narrator and Levels of Narration، والمروي له Narratee، والمؤلف الضمني Implied Author، وهذا هو موضوع الفصل الأول من كتابه «مفاهيم نظرية»( ).
وقد عاد بكر إلى مصادره الأساسية تعضيداً للمفاهيم النظرية في علم السرد مما عرف عن بارت وجيرار جينيت وجاب ليننفلت وجيرالد برنس وتيري ايجلتون، بالإضافة إلى الاشتغال المبكر للنقاد على مفاهيم النقد الأدبي العربي الجديد مثل حميد لحمداني وسيزا قاسم والسيد ابراهيم محمد وعبدالملك مرتاض.
وزع بكر كتابه إلى أربعة فصول، هي: مفاهيم نظرية، ومكونات القصة، ومكونات النص، وفي تأويل النص، أي أنه جمع بين البنيوية والعلاماتية في إطار بعض إنجازات علم السرد.
مايزال حال النقد الأدبي العربي الجديد هو محاولات متناغمة أو غير متناغمة بين عدد من تأثيرات الاتجاهات الجديدة، مع ميل إلى المواءمة بين النظرية والتطبيق، أو إلى تغليب أحدهما على الآخر. وعند بكر، وهو نموذج غالب على نقد الموروث السردي. إنه نقد تبسيطي يدغم، إلى حدّ كبير، مؤثرات الاتجاهات الجديدة في المتن النقدي التقليدي.
2-11- تؤشر دراسة محمد القاضي (تونس) في سفره الضخم «الخبر في الأدب العربي: دراسة في السردية العربية» (1998) إلى ذروة الاشتغال النقدي الجديد بالموروث السردي الأدبي موازنة بين تأصيل وتحديث، فثمة تمحيص شديد العمق والدلالة لطبيعة السردية العربية القديمة وتكونها واستخلاص حدودها ومفاهيمها وتاريخيتها وعناصرها الثابتة والمتغيرة من خلال فنّ سردي محدد هو «الخبر»، وقد عني القاضي بدراسته في الأدب العربي إلى منتصف القرن الرابع للهجرة. لقد دُرس الخبر مراراً من قبل، وأشار القاضي نفسه إلى بعض هذه الدراسات، واستخلص قيمتها النقدية، وإنني لا تفق معه على أنها محدودة القيمة والفاعلية لافتقارها إلى الضبط المنهجي والدقة العلمية في بحث سيرورة التقاليد القصصية العربية. وأغفل بالمقابل دراسات قاربت «الخبر» في إطار بحثها عن السردية العربي: تاريخيتها، مفاهيمها، خصائصها، قضاياها المختلفة، وكنت عالجت غالبيتها آنفاً، غير أن دراسة القاضي متميزة عن سواها بمزايا متعددة أذكر منها:
أولاً: ربما كانت هي المرة الأولى التي ينصرف فيها جهد باحث ناقد انصرافاً كلياً لدراسة الخبر في الأدب العربي بوصفه سردية عربية داخل الأنساق الثقافية العربية، من منظورات الاتجاهات الجديدة.
ثانياً: وسم القاضي منهجه المعرفي الجديد بالإنشائية (يقصد الشعرية) في السرد، هادفاً إلى الوقوف على عملية إنتاج الفن في البيئة الثقافية العربية، وعلى السمات الأساسية للمخيال الذي صدرت عنه هذه النصوص، وعلى أهم الطرائق التي بها تم هذا الإنتاج.
ثالثاً: استرشد القاضي بالمنهج المعرفي الجديد لدراسة السردية العربية متعينة في فن الخبر دون استسلام لآليات هذا المنهج أو طرائقه، مما يلزم هو طريقة نقدية معرفية لفهم السردية العربية وتشكلاتها ومصائرها من داخلها، وهو ما فعله القاضي.
وزع القاضي كتابه الضخم (744 صفحة من القطع الكبير بحروف صغيرة) إلى خمسة أبواب، وفي كل باب ثلاثة فصول، وألحقه بفهارس مفيدة: مقدمة الفهارس، فهرس رجال السند، فهرس المصطلحات، فهرس الأبيات وأنصاف الأبيات، فهرس الآيات القرآنية، فهرس الموضوعات، فهرس الفهارس.
وأعرض لموضوعاته بقدر من الإيجاز، ثم أرفق ذلك ببعض الملاحظات النقدية:
أولاً: عالج في أبواب كتابه «الخبر والأجناس الأدبية في الأدب العربي القديم»، و«قضايا الخبر الأدبي التاريخية»، و«قضايا الإسناد في الخبر الأدبي»، و«متن الخبر الأدبي» و«دلالات الأخبار». ونلاحظ أنه مزج في دراسته بين جوانب من «الوصفي التاريخي» لدى استقصائه لقضايا الخبر الخارجية ومن «شعرية السرد» لدى تمحيصه لمتن الخبر الأدبي وحدات سردية ونظاماً إخباراياً وتناسلاً للأخبار، ومن «البنيوية التكوينية» عند تقصيه دلالات الأخبار وصلتها بالواقع والإيديولوجيا الساخرة والمقنعة. ولعل القاضي أفلح إلى حد كبير في إدغام هذه الجوانب المتعددة في سياق ثقافي عربي، وهو أمر لا مندوحة عنه وصولاً إلى نتائج مجدية، فليس ينفع إخضاع الإنسان الثقافية العربية لمنهجية متغربة، بل الاستشهاد بهذه المنهجية المتغربة لفهم الموروث السردي العربي، أو السردية العربية القديمة. وقد كان القاضي على حق بقوله:
«إن هذه القضايا التاريخية هي التي تسمح لنا بمواجهة مسألة الخبر في الأدب العربي القديم، لأننا عليها سترتّب طرائق معالجتنا له، وسنتنبه إلى المعضلات التي يثيرها بوصفه ممارسة فنية ذات ضوابط محددة يتعين علينا أن نستخلص سماتها الجوهرية من خلال التحليل النصي لنماذج منها مختارة»( ).
ثانياً: لقد درس القاضي قضية الأجناس الأدبية في الدراسات عند الغربيين والعرب المعاصرين، وتبين منزلة الخبر من الأدب العربي القديم في المعاجم والمصادر القديمة، وعني بفهم الخبر في دراسات المحدثين، ووقف عند الخبر ومنزلته من فنون القص، وعند حدّ الخبر عند المعاصرين. وعاين أصول الخبر والمواقف منه: لا نثر للعرب في الجاهلية، للعرب نثر في الجاهلية، لا إثبات ولا نفي للنثر العربي في الجاهلية، ونظر في الصلات بين المشافهة والتدوين حيث الانتقال في الثقافة العربية القديمة من نمط المشافهة والتدوين مثل التعايش والاصطراع، والتاريخ والنصوص، ووقف ملياً عند دور المؤلف في الخبر ناقلاً أو ناقداً أو مبدعاً.
وفحص القاضي مصطلحات الإسناد ومقوماته النظرية، مثل معنى الإسناد، ومراتب التحمل، وشروط الأداء ومصطلحاته، ونظر في تاريخ الإسناد وتطوره في أدب الأخبار في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة، واستخلص خصائص الإسناد ووظائفه في أدب الأخبار، ولاسيما طبيعته وسماته ووظائفه. ولا يخفى أن هذه الدراسة الوصفية التاريخية للخبر هي بحث في التراث العربي أولاً وأخيراً، ولقد قام بها القاضي بمنهجية حديثة لا ترتهن لمنهج معين، بل تستفيد منها ما هو أنسب لدرس السردية العربية القديمة، كما هو الحال في دراسته لأصول الخبر، إذ استرشد برأي لهانز روبرت باوس بقوله:
«إن حديثنا عن الأخبار يظل منقوصاً مبتوراً غائماً إن نحن لم نشر فيه إلى أصول الخبر وبداياته. وهذا المبحث، وإن كان بتاريخ الأدب ألصق منه بالإنشائية، يعدّ مدخلاً أساسياً لإدراك خصائص هذا الفن، والوقوف على المراحل الكبرى التي مرّ لها في مساره. ولقد أثار علماء الفولكلور مسألة الأصول هذه حينما سعوا إلى تحديد البدايات التي انطلقت منها أجناس الأدب الشعبي، رغبة منهم في إبراز خصائصها البنائية، ومن شأن ذلك أن يقودهم إلى استشفاف السنة التي اعتمدتها فحذت خددها أو تمردت عليها، والسنة التي أنشأتها، وجعلت منها قانوناً راسخاً على مرّ الأعوام»( ).
ثالثاً: تجنب القاضي إطلاق الأحكام النقدية، واعتمد المنهجية العلمية في استخلاص نتائج بحثه القابلة للنقاش، كما هو الحال مع استنتاجه أن القرن الأول للهجرة لم يشهد بداية التأليف في الأخبار، «وإن كنا نقرّ بأن نشاط الأخبار قد شهد في هذه الفترة شيئاً من الانتشار، لأنه استطاع أن يسير على قدمين: إحداهما قيم الدين الإسلامي الجديد، ولذلك كانت المساجد المكان المفضل لدى القصاص، وثانيهما التخويض في حلبة الخيال وملامسة الأسطورة والولوج في عالم العجيب والغريب مما يتجاوز تعاليم الدين. ولعل هذا ما يفسر شعبية القصاص من جهة، ومقاومة الفقهاء لهم من جهة أخرى، لأنهم أصبحوا في نظرهم يستغلون مشاعر مستمعيهم الدينية ليطرحوا بهم في آفاق الخيال»( ).
رابعاً: حاذر القاضي باستمرار من أن يحيد عن بحث الخبر الأدبي إلى مزالق غير مأمونة فيخوض في ضروب من الأقوال تبعده عنه، أوضحها ما يتصل بالحديث النبوي، وثانيهما أن يقصر الحديث على كتاب واحد، بل على جانب منه يكاد يعد جزئياً، فيغفل عن الحركة الكلية التي تتحكم في التأليف في مجال الأخبار الأدبية( ).
خامساً: استفاد القاضي من نقاد شعرية السرد لدى دراسته «متن الخبر الأدبي» على صعوبته في اعتماد مدونات سردية إخبارية معينة، وعلى استبداد الحيرة إزاء الإشكال المنهجي، لتعذر الفصل بين المدخلين الإنشائي والتاريخي في أية مرحلة من مراحل التحليل. ولقد فعل حسناً عندما درس الخبر بوصفه وحدة سردية في حدّ ذاته، فاستخرج مقوماته وخصائصه انطلاقاً من بنيته الحديثة ووصولاً إلى بنيته الخطابية. واستتبع ذلك دراسته لعلاقة الجوار الرابطة بين الأخبار: ماكنهها وما قوانينها؟ ثم اهتدى إلى ما سماه بتناسل الأخبار، أي دراسة أوجه التماثل بين الأخبار وضروب العلاقات بينها، لا في سياق تركيبي تتابعي قوامه التسلسل، بل في جدول اختيار تتبع من خلاله المسار التاريخي للخبر، فوقف على تراكب الأخبار وتضامّها، أو تفككها وانفصال بعضها عن بعض، أو تضخم نواة خبرية أو ضمورها. ويتصل مصطلح «تناسل الأخبار» بدراسة الحكاية والأسطورة عن انتقال الوحدات القصصية من بيئة لأخرى، ومن استعمال لآخر، فثمة رحلة للوحدة القصصية أو السردية كما في ميلاد البطل أو جريمة قتل الأب، أو الخيانة..الخ.
لقد استفاد القاضي من جينيت (يسميه جونات) أو الشكلانيين الروس، وتودوروف (كتابه شعرية النثر) وبارت (وعرب عنوان كتابه تعريباً آخر مختلفاً في الشكل، وليس في المحتوى عن سابقيه: «مدخل لتحليل القصص تحليلاً بنيوياً»، وسمى الكتاب مقالة)، ومجموعة انتروفارن في كتابها «التحليل السيميائي للنصوص». وطوّر بعض الوظائف في الرواية العذرية مما أطلقه بروب، وهي: التعارف، الحب، المخالفة، العقاب، الطلب، الرد، الزواج، المحنة، الطلاق، التأزم، التزويج، التدهور، التحدي، الوداع، الموت، وهي وظائف رئيسة استنبطها القاضي من كتاب «الأغاني». واللافت للنظر أن تطبيق القاضي صادر عن استيعاب تام لإنجازات الاتجاهات الجديدة، فليس ثمة إحالة بنفسها أو كامنة على سبيل الإشارة في الفصل التطبيقي «نظام الأخبار».
سادساً: حرص القاضي على لغة نقدية عربية أو معربة ناصعة نفوراً من الترجمة أو تنافرها الاصطلاحي واللغوي أحياناً وندر أن وردت مصطلحات أو ألفاظ أعجمية أو أجنبية بلفظها، مثل لفظة الموتيف والموتيفات Motif، بينما اصطلح على تعريبها الوحدة القصصية أو السردية الأصغر( ).
سابعاً: جانب القاضي ولع الاتجاهات الجديدة بالشكل والشكلية والخصائص الجمالية، مما أقبل عليه النقد الأدبي العربي الجديد، فرأى أن عمله لم يتسم بالانتظام، لأن مقصده كان الفحص عن مكونات الخبر وآلياته بغية فهم طبيعته، «غير أن هذه الخصائص الجمالية ـ على أهميتها ـ لا ينبغي أن تصرفنا عن المسار التاريخي الذي تتنزل فيه الأخبار، وعن الحركة العامة التي تندرج فيها»( )، فوجه القاضي عنايته إلى الحاضنة التاريخية للأخبار الأدبية، ودرس دلالات الأخبار في علاقتها بالشعر: خادماً له أو مستخدماً له، وبالواقع، أسيراً له أو منعتقاً من إساره، وبالإيديولوجية الساخرة أو المقنعة حين أصبح الخبر أداة أساسية من أدوات الصراع الفكري والسياسي، وحين غلبت الصيغة التاريخية الواقعية على الخبر.
تفتح دراسة القاضي عن السردية العربية القديمة الباب على مصراعيه لتأصيل السرد العربي واستمراره في السردية العربية الحديثة، مثلما تؤكد على أن الاتجاهات الجديدة تنفع في تعضيد جهود التأصيل، إذ يسرت الكشف عن فهم السردية العربية القديمة بخصوصيتها الثقافية والفنية والجمالية، وياسرت إلى مجانبة الاستلاب الذي مايزال محدقاً في غالبية دراسات نقد الموروث السردي.

3- ملاحظات ختامية:
ولعلنا نورد بعض الاستنتاجات حول نقد الموروث السردي المتأثر بالاتجاهات الجديدة، ونوجزها فيما يلي:
أولاً: كان نقد الموروث السردي المتأثر بهذه الاتجاهات هو الأسبق على أقلام النقاد والباحثين، بالقياس إلى النقد النظري والنقد التطبيقي للكتابة القصصية والروائية العربية الحديثة، ومرد ذلك إلى سببين هما:
أ- تفاعلات وعي الهوية القومية في رؤية السرد والسرد العربي، فقد عمد النقاد والباحثون إلى الدفاع عن خصوصياتهم الثقافية، وقدامة السرد العربي وخصوصيته، فتضاعف الاهتمام بالاتجاهات الجديدة المستندة إلى الاشتغال النصي الواسع بعلم السرد الذي يتيح لهم اختبار هذه الخصوصية، ويعزز أبحاث الأصالة الثقافية.
ب- انطلاقة علم السرد من إرث الشكلانيين الروس، ولا سيما بروب الذي صارت له ذرية ممتدة لدى غالبية أصحاب الاتجاهات الجديدة من البنيويين ومن تلاهم، متأثرين بإنجازاتهم، أو مجاورين لها، أو مطورين لنهاجياتها المعرفية والنقدية.
ثانياً: كان نقد الموروث السردي الشعبي سابقاً على نقد الموروث السردي الأدبي، لأن اشتغال بروب وذريته تركز على السرد الفولكلوري، ثم اتسع، فيما بعد، ليشمل أنواع السرد الأخرى.
ثالثاً: تباينت أشكال نقد الموروث السردي من القراءة إلى التحليل إلى التنظير، وإن غلبت القراءات النقدية المستندة إلى التحليل البنيوي للسرد، والمستفيدة كثيراً في الوقت نفسه من النقد العلامي، عناية بالدلالة في مداها العلائقي وشبكة مفاهيمها من جهة، وبالحفر المعرفي في هذا الفضاء، وفي نسيج هذه الشبكة من جهة أخرى.
رابعاً: ثمة ميل لا يخفى إلى إدراج نقد الموروث السردي في كشوفات العلوم الإنسانية الباهرة في مجالات النقد الأدبي، أي إثراء النقد الأدبي بالقابليات المعرفية والمنهجية للعلوم الإنسانية، ولاسيما علم النفس والتحليل النفسي، وعلم الاجتماع الأدبي.
خامساً: بروز عدد من النقاد الذين ينشدون تأصيل مشروعهم النقدي لدرس الموروث السردي في حاضنته وأنساقه الثقافية وفي سيرورته التاريخية والفنية، اندغاماً بالتقاليد العربية في النظر إلى السرد بعد ذلك، وهذا واضح في أعمال سعيد يقطين وعبدالله ابراهيم ومحمد رجب النجار ومحسن جاسم الموسوي.


الفصل السادس
النقد النظري المتأثر بالاتجاهات الجديدة
1ـ محاولات جنينية:
شهدت أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينات بزوغ المحاولات الجنينية للنقد الجديد، نظرياً وتطبيقياً، جذاذات نقدية من هذا المنهج أو ذاك، كما في الكتب التالية: «ملامح في الرواية السورية» (1979) لسمر روحي الفيصل، و«حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث» (1979) لخالدة سعيد (سورية)( )، و«الألسنية والنقد الأدبي: في النظرية والممارسة» (1979) لموريس أبو ناضر (لبنان)، و«نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة» (1980) لنبيلة إبراهيم سالم (مصر)، و«في معرفة النص» (1983) ليمنى العيد، و«بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ» (1984) لسيزا أحمد قاسم (مصر)، و«القراءة والتجربة: حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب» (1985) لسعيد يقطين، و«مدخل إلى نظرية القصة» (1985) لسمير المرزوقي وجميل شاكر. وكان محمد سويرتي (المغرب) درس هذه الكتب في كتابه «النقد البنيوي والنص الروائي» (حزيران 1991)، ونتفق معه في غالبية الآراء والاستنتاجات التي توصل إليها. واكتفي بالإشارة إليها وإلى كتب أخرى من المرحلة نفسها كلما لزم الأمر. وأعالج أهم المحاولات النظرية فيما تلا ذلك.
ولعلنا نبادر إلى القول: إن حركة النقد القصصي والروائي ما تزال تفتقر إلى اتجاه ناجز من الاتجاهات الجديدة، إلا من تمثل لاتجاه ما واستيعابه أو تطويع أكثر من اتجاه في عمل نقدي واحد في التعريف أو التنظير أو التطبيق، وأشير في مجال النقد النظري، إلى نماذج منها، ونلاحظ أن أمثال هذه الأعمال النظرية لا تخفي ميلها إلى التطبيق، مما يصعب معه إدراج هذا العمل في خانة محددة.
2ـ تحديث الأدوات دون منهج معين:
عمد بعض الباحثين والنقاد إلى تحديث أدواتهم النقدية دون الالتزام بمنهج معين، مما يعكس ولعهم في مجاراة الاتجاهات الجديدة، ورغبتهم في الإحاطة بخصائص الكتابة القصصية معرفياً وجمالياً. وقد عني نقاد وباحثون بجزء أو بعنصر من النص القصصي والروائي، أو بخاصية من خصائصه، أو بتمحيص القول في شكل، أو نوع من أنواع النصوص القصصية، ونلاحظ في اشتغالهم النقدي بعض أدوات النقد الجديد. وسنلمح الفرق عندما نناقش فيما بعد موضوعات مشابهة، مثل الاستهلال أو البداية بين ناقد يعتمد جزئياً أو إشارة على منهج أو آخر، وناقد يستهدي بالنهاجيات الجديدة كلياً.
ونختار الناقد ياسين النصير (العراق) نموذجاً للكتابة عن جزء أو عنصر من النص القصصي والروائي. وعرف عن النصير دراساته النظرية والنقدية والجمالية للمكان في كتبه التالية: «الرواية والمكان: جزآن» (1980-1986)، و«دلالة المكان في قصص الأطفال» (1985)، و«إشكالية المكان في النص الأدبي» (1986). ثم ألف كتاباً ضمن المجهود نفسه عن «الاستهلال: فن البدايات في النص الأدبي» (1993).
انتقى النصير، كعادته، شيئاً من المعرفة النقدية الحديثة، وهذا واضح من العنوانات بالدرجة الأولى: الاستهلال والكتابة الجديدة، البنية النصية والبنائية الاجتماعية، الاستهلال لغة وبناء، بنية الاستهلال، الاستهلال بوصفه علامة... الخ، وهو واضح أيضاً في لغته النقدية، كما في تحديده للوظائف الفكرية للجملة الاستهلالية، وأوردها مختصرة:
1- إنها جزء من شكل كلي حيث هي شكل أيضاً، لكنه يتحول خلال الفعل التكراري التوليدي إلى محتوى دلالي، فالموتيفة الصغيرة (يقصد الحافز) التي نراها، وقد عممت على كل مفردات العمارة تكتسب وظيفتها الجديدة من خلال الموقع الذي وجدت فيه، والعلاقات المكانية التي تربطها مع ما يجاورها..
2- إن الوحدة العضوية للمبنى ما هي إلا تطوير اشتقاقي من الموتيف الاستهلالي عندما تتوسع هذه الوحدة، أو تدخل في علاقات جديدة تكسب وتكتسب، تنمو وتندثر. إنها أشبه بالحجيرة البشرية في الوقت الذي تكون فيه الجسم البشري، تكتسب وظيفتها ووجودها من خلال العضو الذي تدخل في تركيبه.
3- والجملة الاستهلالية المتحولة إلى علامة، والمتضمنة أول الأمر في المدخل بوصفها علامة بارزة، تتحول داخل النص المعماري إلى قيمة معيارية..
4- البعد الزمني للجملة الاستهلالية، هو حضور الماضي في الحاضر في اللحظة التي يحتاج فيها إلى الماضي، لا حاجة استدلال معرفي، وإنما حاجة تفسير، فالحاضر هو الأقوى بوصفه محصلة الأزمنة.
5- الجملة الاستهلالية في الفنون المكانية كالعمارة، والرسم والمسرح، هي جملة مكانية تستخدم لغة الفن الخاص لتدلل على نفسها.
6- لكن بعض الاستهلالات تولد غامضة، أو في المواقع الخفية من الفعل، كاستهلالات الجريمة أو السرقة أو الفعل النفسي( ).
تنطوي بعض الوظائف على أدوات بنيوية أو علاماتية «سيميائية»، وتعالج بعض الوظائف بأدوات النقد التقليدي. وفي انتقاله للحديث عن «الاستهلال السردي الروائي»، لا يحدد النصير تعريفاً، ولا يضع خصائص وسمات، بل يضع رأياً عاماً أن استهلالات الفن الروائي تميل إلى السعة والتنوع، واختار مباشرة للتطبيق رواية «الرجع البعيد» لفؤاد التكرلي، ووجد أن استهلاله عرّف بشخصيات الرواية، وبالمكان، وبنوعية الأحداث المركزية، وبحضانة الأفكار وبنى الفصول اللاحقة، وذكر روايات أخرى ذات استهلال مماثل مثل «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان، و«الثلاثية» لنجيب محفوظ، و«شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، و«المصابيح الزرق» لحنا مينة، و«اللاز» للطاهر وطار. وعالج ضمن المنظور نفسه الاستهلال الروائي متعدد الأصوات، في الروايات التي تروي كل شخصية من شخصياتها أحداثاً من وجهة نظرها، ومما يلاحظ على لغة النصير تعميمها وعدم دقتها اللغوية والاصطلاحية، كما في هذين الشاهدين:
1- تصبح الرواية متعددة الأصوات «هي الكيفية البنائية لها. كل شخصية تروي كل الأحداث من وجهة نظرها»، وليس هذا صحيحاً، لأن كل شخصية تروي الأحداث التي عرفتها أو شاركت فيها.
2- «كما يصلح هذا الاستهلال لروايات الحقب التاريخية حيث تداخلتها تنوعات الفن القصصي وكشوفات متعددة لزوايا الرؤية»( ).
ويقصد بذلك الرواية النهر أو الرواية الانسيابية، وليس ذلك الحكم صالحاً لمثل هذه الروايات، ولنذكر على سبيل المثال رواية «الحرب والسلم» لتولستوي، أو «الثلاثية» لنجيب محفوظ، أو «الثلاثية» لمحمد ديب.. الخ.
وغالباً ما يخرج النصير عن إطار الاستهلال إلى الرواية ككل، كما في حكمه على رواية غائب طعمة فرمان «خمسة أصوات»( ).
وعالج النصير الاستهلال الروائي المحوري البنية الذي يتحدد معناه «بأن ثمة فكرة أو محوراً واحداً يتكرر داخل الصفحات الأولى من العمل، فهو إما أن يكون حالاً معينة، أو مكاناً، أو موقفاً، أو زمناً ما، ويكون الاستهلال إشارة مركزة وقوية لهذه البنية المحورية ثم تتكرر في مقاطع عدة من الرواية، لتغذي مفاصل الرواية وتمدها بتصورات كلية لاحقة»( ). وذكر نموذجاً أقرب لها رواية «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف، وهي من الروايات التي ينطبق عليها وصف «الانسيابية».
وأمعن النصير في التصنيف لأنواع الاستهلال، فذكر «الاستهلال الروائي الحديث»، ومن مقوماته «قوة الأشياء وحضورها الفاعل والعمل المثيولوجي للشعب، والبعد الأسطوري للحياة المعاصرة، والشاعرية الغامضة في الأسلوب، ووحدة الزمن الإنساني، واعتماد الحس التطوري في صياغة مشروعات الغد، والرؤية الشاملة للعالم والعمق الرمزي والكثافة الواقعية»( ).
ويتساءل المرء هنا أليس ما ذكر سابقاً روايات حديثة؟!.
وشرح النصير «استهلالات الرواية القصيرة» التي تميل إلى الكثافة بطبيعتها المركزة، ولا يحدد أيضاً مفاهيم «الكثافة» و«التركيز» و«الرواية القصيرة»، على الرغم من أنه أورد أسماء روايات كثيرة تنتمي إلى هذا النوع. وقد وضع اشتراطاً عاماً، لا ينجح الاستهلال فيه «إلا متى كانت الحاجة إلى مفرداته وأفكاره مستمرة داخل العمل، عندئذ يبني كيانه اللغوي والمعرفي على شيء من تأريخية العلاقات الداخلية للنص، لا تأريخية المكان العامة أو جغرافيته»( ).
غير أن النصير نظر في «الاستهلال السردي في القصة القصيرة معتمداً على بروب، واستخلص وظائف أساسية للجملة الاستهلالية في القصة القصيرة على النحو التالي:
ثمة وضع موشك على الانهيار يراد صيانته.
استحضار بطل كفوء.
صياغة أسلوبية مبهمة، غامضة، إحالية، متفتحة.
الجملة الخبرية متعدية وغير لازمة.
كل المفردات الواردة ستوّلد مفردات ومشتقات جديدة داخل النص.
لها علاقة بنائية بالمتن من خلال فنّ حسن التخلص والانسياب.
لها علاقة ممهدة بالنهاية حيث اختتام الخلق التكويني بها»( ).
ونلحظ ثمة تداخلاً بين مفهوم الجملة السردية والجملة اللغوية، كما أن أشكالاً من الاستهلال مغفلة مثل السرد الدائري. وأفاد النصير في سياق نقده باستعماله للتوليدية بوصفها منهجاً بنائياً، يبتدئ بالشرارة التي تحتويها الجملة الاستهلالية، ومن ثم تتوسع النار في الجسد حتى إذا وصلت القصة النهاية لا يكون ثمة انطفاء أو حريق مستمر، وإنما اكتمال، فالخاتمة لا تبنى إلا وفق سياق فعل البداية، وهذه خصيصة من خصائص البنائية، ولكنه عبر عنها بغير لغة البنيويين ومصطلحاتهم. وكانت أمثلته على أكثر من عشر قصص لكتاب عرب من العراق، ناقش من خلالها مستويات الفعل في الاستهلال وهي:
المستوى الإبلاغي.
المستوى الوصفي.
المستوى الشعري.
المستوى البنائي (الزمنية ـ المكانية ـ الماضوية ـ التركيب..).
المستوى الحركي للجملة الاستهلالية..
وطبق ذلك على عدة قصص لمحمد خضير وكاظم الأحمدي وأحمد خلف وعائد خصباك. هل يشير شغل النصير إلى التعامل مع مناهج النقد الجديد على استحياء؟ ربما. وهذا هو طابع بعض الجهود البحثية والنقدية، مثل محمد غازي التدمري (سورية).
3ـ الاستعانة البنيوية الملتبسة:
سرعان ما انتشر التأثير البنيوي وما جاوره من نهاجيات معرفية، كما في كتابة صدوق نور الدين (المغرب) عن الاستهلال أو البداية من منظور أشمل وأكثر عمقاً واتساقاً في كتابه «البداية في النص الروائي» (1994)، فقد عالج موضوعه مستهدياً ببعض معطيات علم النص، فتتوارد في ثنايا نقده مصطلحات النص، كما عرفت لدى البنيويين والعلاميين واللسانيين، وأثار في مدخله العام «النص وسؤال النص، أسئلة عن «الماقبل» و«المابعد»، لما يخص العلاقة القائمة بين النص ومبدعه، وهو سؤال البداية، فإن ما يربط النص والمتلقي هو سؤال الختام.
ثم استغرق في لغة إنشائية موشاة بعبارات تنظيرية تفتقر إلى الدقة والتحديد غالباً، كأن يقول:
«على أن من النصوص التي تفرض ذاتها، سياقاتها داخل النص، إذ بإمكان قارئ النص التمكن منها، وبالتالي الإحالة إلى كون النص قد استقى منها تجليه ومظهره، كما أن بالإمكان عدم التفطن لذلك»( ).
وختم نور الدين تنظيره «المبهم» بقول تودوروف أن المبدع يؤول العالم، في حين أن القارئ يؤول الكتاب، ليفيد، برأيه، أن سؤال النص لا يكتمل إلا بسؤال القراءة.
وعالج في القسم الأول من كتابه البداية مفهوماً ووظيفة، على أن البداية مكون بنائي، والجزء المشكل للمفتتح أو المدخل، بالدخول في البداية، والشروع في خلق تآلف معها، يقود المتلقي إلى الانتقال مما هو واقعي نحو «الخيال الواقعي»( )، ثم لا يوضح نور الدين الوظيفة، على الرغم من استشهاده بمقالة هامة لصبري حافظ (مصر) هي «البدايات ووظيفتها في النص القصصي» (الكرمل 1986)، مؤثراً أن يجعل التطبيق سبيلاً لتوضيح مفاهيمه ومصطلحاته، فأشار لنصوص قصصية وروائية عربية كثيرة، من خلال إلماحاته إلى «الصوت السردي والبداية»، و«البداية ومنطق الزمن» و«البداية والمكان»، ومستعيناً بين الحين والآخر بتودوروف، وبارت، وسيزا قاسم، وتوماشفسكي، ويوري لوتمان، وباختين، وامبرتو ايكو، وجينيت. وانتقل بعد ذلك إلى عرض أنماط من البدايات، مثل البداية المتناصة، والبداية المتعالقة، والبداية الواصفة (ومنها الشعرية الخالصة، والناهضة على الزمن، والواصفة المشهدية). ونلاحظ أيضاً التداخل في هذه الأنواع، فالبداية المتناصة تماثل البداية المتعالقة، لأن التعالق مستوى آخر من التناص، أما الالتباس في تداخل الأنواع الأخرى، فمرده إلى الإيجاز المخل الذي عمد إليه نور الدين، كمثل قوله عن البداية الواصفة بشعريتها:
«وفيها تذهب اللغة على الأمداء بصور فنية قائمة على ضبط المشابهة، ويتعلق هذا خاصة بالمكان المتواجد فيه، حيث تتفاعل الأحداث وتحتد، دون أن يسقط من اعتبارنا أن اللغة الواصفة الشعرية قد تمتزج بالسياق السردي، بعيداً عن تجسيد الوقفة التأملية المحض..» ( ).
وخص نور الدين مقاربته النقدية في البداية رواية «الزيني بركات» (1972) لجمال الغيطاني، في صلة العنوان بالبداية، وفي صنعة الخيال، وفي البداية المتناقضة، ونلاحظ أيضاً خروج الناقد من علائق البداية ومكانتها السردية، إلى الانغمار بالتحليل السردي بعامة، كما في ختام كتابه: «إن تنوع الخطابات وتداخل الأجناس الأدبية يموضع الرواية في سياق من التعددية التي تفقد هذه الرواية خصوصياتها المتفردة بها، ولعل هذا ما أضفى عليها نوعاً من الأسلبة المتضحة في تنوع اللغات، وهو حسب باختين تهجين إرادي قصد إليه الغيطاني لوسم النص بواقعيته وموضوعيته كذلك»( ).
لجأ صدوق نور الدين إلى الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، ولا سيما المعنية بعلم النص وشعرية السرد، ولكن كتابته النقدية ملتبسة، لافتقارها إلى التحديد، ولا يغالها في التطبيق الموجز المخل، والأهم، لحاجتها إلى تسويغ نظري نقدي كاف مما توصل إليه علم السرد من كشوفات وإنجازات هائلة.
4ـ التعامل مع المناهج الحديثة على استحياء:
ثمة تنازع عند محمد غازي التدمري في كتابه «لغة القصة» (1995) بين التقليد والتحديث، فسادت المرجعية التقليدية استئناساً بمنهج حديث، كأن يكون سيد قطب (كتابه: النقد الأدبي، أصوله ومناهجه الصادر عام 1947 لأول مرة) المرجع الوحيد، «فالقصة الجيدة هي التي تستغل ما للنثر من قوة إيحائية ودلالية من الممكن أن تشع في سياق المفردة، كما تشع المفردة في سياق الجملة، التي يفترض فيها أن تشع وتتوهج، وتتفق صوراً وخيالات، داخل سياقات ونص القصة القصيرة المتطورة شكلاً ومضموناً بوعي دائم»( ).
بحث التدمري عن العلاقة بين القصة والشعر، وتلمس خصائص لغة القصة، مازجاً بين تعبيرات تقليدية وأخرى حديثة، وتوقف عند اختيار أدوات التوصيل، واختيار أدوات الدلالة، إلحاحاً على فهم اللغة غالباً، وعلى فهم اللغة من خلال تقنية القصة أحياناً. وقد تميز دخوله في التطبيق باستخدامه لأدوات منهجية حديثة، كما في حديثه عن حركة الفعل، أو حركة الضمير في سياق القصة، واللغة الشعرية، واللغة الإشارية، وحركة اللغة في سياق الصراع، واللغة المكشوفة والتعبير المكبوت أو الجنسي.
ويظهر التباين عن تنازعه في فهمه للسرد، فهو لم يذكره إلا في خاتمة كتابه، وقد ربطه بحدود الجملة الأساسية، على أن اللغة أوسع من «مجرد سرد»( ). وأنها المعبر «إلى فهم عامل الزمان وإشكالياته»( ).. الخ، مما يشي بتسرب بعض أدوات النقد الجديد على استحياء أو عدم الرغبة في تمثلها.
5ـ جهود نظرية تمهيدية:
ربما كان كتاب نبيلة إبراهيم سالم «نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة» (1980) الجهد الأول المكتمل تعريفاً بمناهج النقد الجديد، من بروب إلى غريماس إلى جاكوبسون، وهو جهد بدأته، كما أشرنا، في كتابها الرائد «قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية» (1974). وقد غلبت في تنظيرها منهجاً انتقائياً يقترب من نظرية التواصل التداولية اعتماداً على معطيات شكلانية ووظيفية من بروب وبنيوية ودلالية وسيميائية من غريماس على وجه الخصوص.
وتلا ذلك جهد مميز للناقدين سمير المرزوقي وجميل شاكر (تونس) في كتابهما «مدخل إلى نظرية القصة» (1985). يكمل الباحثان جهد نبيلة سالم، وفي المسعى نفسه، وإن اختلفت مصادرهما، أو مرجعيتهما، الفرنسية عندهما، والإنكليزية عندها، والصحيح أنهما لم يعتنيا بنظرية القصة، وإنما بعلم السرد Narratologie( )، لأن البحث في النظرية يستدعي معالجة جوانب أخرى لم يتطرقا إليها، وقد أضاف الباحثان إلى مرجعية سالم الشكلية البنيوية الدلالية Semantique والعلامية Semiotique مؤلفات ونظرات لجينيت وبريمون.
واعترف الباحثان بتبعات الانتقائية، بوصفها عقبة منهجية، ولكنهما وجداها «معضلة الجامعة في العالم كله، وهي كذلك مشكلة البحث الأم»( )، وأشارا إلى أن بارت قد اتهم بالوقوع فيها، ولا مناص منها، برأيهما، ما دام الانغلاق المنهجي يؤدي إلى التحجر! وتكمن مزية بحثهما النظري في أنهما سعيا إلى تنظير متكامل لعلم السرد، هو خطوة أخرى بعد سالم، وتمثلت هذه الخطوة في الإحاطة بالتحليل الوظائفي للسرد، وبتحليل النص السردي، وفي تحليل السردية والعلامية.
6ـ تسويغ عقائدي للنقد البنيوي:
وكانت الخطوة الثالثة الأهم في شغل يمنى العيد (لبنان)، وهي بدأتها في كتابها «في معرفة النص: دراسات في النقد الأدبي» (1983) الذي حاولت فيه تسويغ منهج النقد الجديد، بالاستفادة من كشوفات الشكلانية والبنيوية، ضمن منهجها الواقعي القديم، وهي معضلة كبرى بالنسبة إليها: النقد الجديد الذي يدرس بنية النص، والممارسة النقدية السالفة التي تدرس بنية المجتمع، أو تدرس النص «برؤية الخارج في هذا الداخل، أي بالنظر في النص الثقافي، وربما الاجتماعي». لتحسم تسويغها: «إن الدلالات داخل النص، وكما هي في النظرة البنيوية، موظفة باتجاه إنتاج البنية. وعليه نرى أن النص، من حيث هو حضور في المجال الثقافي، وظيفة إنتاج هذا المجال الذي ينتجه»( ).
وهكذا، انحصرت المعضلة في حدود ممارسة التقنيات والأدوات، فمثل هذا التغيير، برأيها، «يبقى في حدود البنية، لأنه لا يغير هويتها الأدبية». لقد اكتملت دائرة التسويغ المنهجي، تلمساً لعذر عقائدي: «إنه تغير في حدود شكل البنية لا يطول مفاصلها الأساسية، ولا ينتج أثرها المختلف، بل يستمر على اختلافه، في إنتاج الأثر نفسه. يستمر النص بإنتاج الأثر نفسه، ويوهمنا، نحن القراء، بأن حقيقة عالمه المتخيل هي، في هذا الاستمرار، الحقيقة. على هذه الحقيقة تطرح القراءة النقدية الواقعية سؤالها»( ).
وتابعت يمنى العيد تسويغها العقائدي للمنهج البنيوي في كتابها «الراوي: الموقع والشكل ـ بحث في السرد الروائي» (1986)، ولعلها المرة الأولى أن يحمل كتاب نقدي عربي هذا العنوان صراحة ويلتزم بالتنظير للسرد الروائي. ولم يفارقها هاجس التسويغ لمعضلة الفني والإيديولوجي، فعنيت على «تخريج» موقفها، وليس «تخريج» منهجها، لأن المناهج تعبير عن رؤية فكرية كما ذكرنا، والعيد تدرك ذلك تماماً، ولعل ضالتها التي تستقيم مع موقفها الفكري تكمن في النقد الاجتماعي وكشوفاته المذهلة التي تعرفها العيد كذلك. لقد تكررت في أثناء شغل العيد النظري أصوات ذلك التسويغ حتى مرحلة متأخرة من تأليفها النقدي، كالصوت الذي يحول المنهج إلى تقنيات وإجراءات في قولها:
«لئن كان عملي قد ركز على بؤرة مسألة الموقع للراوي، وحاول، في حدود قدرته، إظهار دلالية الشكل بإظهار العلاقة العضوية بين موقع الراوي ونمط البنية التي بها يقول، فإنه حاول أيضاً قراءة الأيديولوجي بقراءته الفني، وذلك عن طريق البحث في علاقة الراوي بما يروي، وبمن يروي، وفي ما يستخدمه الراوي من تقنيات تساعده على تحقيق روايته، أي، على إقامة تركيب لغوي فني»( ).
وامتد التسويغ إلى كتابة ثلاثة فصول من كتابها عن «النقد/ القراءة» و«التعبير ومسألة الموقع» و«الكتابة والتحولات الاجتماعية»، لتقول بعض متواتر القول في الأدب الأيديولوجي والواقعي ونقدهما لدى كوكبة نقاده العرب، وخارج الحدود من أرنست فيشر إلى روجيه غارودي إلى جورج لوكاتش، ومن محمود أمين العالم إلى حسين مروة إلى فيصل دراج، على تباين في الاستهداف والمرجعية وتكوينات المنهج، كما في مثل هذه الآراء:
- «إن الموقع هو دينامية تكون النص الباحث عن شكله الفني الخاص».
- «ليس الاجتماعي خارجاً نقرأه في داخل، بل هو هذا «الداخل» الذي صاره، وقد اختلف وتميز في بنية شكله».
- «في هذا الطابع النقدي، تبدو الكتابة محكومة بموقع هو منطقها الذي به تمارس نشاطها صياغة وقولاً لها. تمارس الكتابة نطقاً فنياً لها، تمارسه من موقع. من موقع تتكلم الكتابة، ومن موقع ترى، وبهذه الرؤية يتحدد منطق الصياغة. على أن هذه الرؤية من موقعهي شكل من أشكال الوعي. إنه أيديولوجي حركته التناقض»( ).
وقرنت العيد في بقية فصول كتابها بين التنظير والتطبيق على مسرحيات وروايات وقصص لسوفوكليس وإلياس خوري والطيب صالح ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، وينتمي تحليلها للسرد الروائي، ولا سيما أنماط بنية القص والراوي إلى المناهج الحديثة، الشكلانية والبنيوية وما عرف بشعرية السرد( )، على أن أهم محاولة تنظيرية ليمنى العيد كانت كتابها «تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي» (1990). والغريب أن العيد ما زالت في هذا الكتاب معنية بالتسويغ الأيديولوجي لمنهجها الحديث، وفاء لعقيدتها أو توافقاً معها، وبلغ التسويغ أشده حين أوحت برفضها للمنهج البنيوي الذي مارسته باتساع، وصار علامة لكتابتها:
«ولا شيء يمنع، بل لعله أصبح من الضروري أن نتملك مثل هذه المعارف لنحسن، لا مجرد استخدامها، بل أيضاً رفضها. فالرفض من موقع المعرفة هو بحث وتطور في مجالها. كما أن استخدام المعارف لا يكون مجدياً إلا بتملكها»( ).
ولعل هاجس التسويغ لم يفارقها عندما كتبت الفصل الأول من الكتاب «دراسة موضوعها الشكل» فأعادت متواتر القول حول العون الذي يقدمه تحليل هيكل البنية لنهج القراءة المؤولة، «فالتحليل الذي يتناوله هيكل البنية يكشف أسرار اللعبة الفنية، لأنه تحليل يتعامل مع التقنيات المستخدمة في إقامة النص»، كما أن «مسألة الشكل ليست مسألة شكلية، بل هي معرفة موضوعها الشكل»( ). واسترشدت بتودوروف في التمييز بين المعنى والتأويل، إذ لا قراءة خارج التأويل، أي أن النص السردي دون قراءة، دون تأويل، يمنحه المعنى (الأيديولوجي) يستحيل إلى مجرد نظر في العناصر المكونة، وبحث عن الوظائف، وتعامل مع هيكل البنية النصية، مما يؤدي إلى إفقار للنص: «برودة التشريح، وحيادية الجثة»( ).
ومن الملحوظ، أن هذا الاستنتاج قد طمأن العيد، فمضت للتنظير في تقنيات السرد الروائي. اعتماداً على بروب وجينيت وغريماس وتودوروف على نحو واسع، وباختين وبريمون على نحو ضيق.
وضعت العيد في ختام كتابها شرحاً لأهم المصطلحات والمفاهيم الواردة في كتابها، مما يضاعف من قيمة جهدها العلمي والنقدي. ودرست العمل السردي الروائي من حيث هو حكاية، ومن حيث هو قول، وزاوية الرؤية والموقع، وألحقت ذلك بدراسات تطبيقية لرواية «أرابيسك» لانطون شماس وبعض قصص زكريا تامر ومحمد خضير وإلياس خوري ويوسف إدريس.
عرّفت العيد العمل السردي الروائي، على إطلاقه، بأنه «حكاية بمعنى أنه يثير واقعة، أي حدثاً وقع، وأحداثاً وقعت. وبالتالي، يفترض أشخاصاً يفعلون الأحداث ويختلطون، بصورهم المروية، مع الحياة الواقعية». وهذا يستدعي لدراسته من حيث هو حكاية ما يلي:
«أولاً: ترابط الأفعال وفق منطق خاص بها.
ثانياً: الحوافز التي تتحكم بالعلاقات بين الشخصيات، وبمنطق الترابط بين الأفعال.
ثالثاً: الشخصيات والعلاقات في ما بينها»( ).
عدلت العيد قليلاً في ترسيمة بروب، وأوجزت بغية كشف مسار الحكاية وترابط حلقاتها السردية المحكومة بمنطق يخّصها، ليبدو «توالي الأفعال على النحو الذي هو لها، توالياً له طابع الضرورة»( )، وقد طبقت عرضها الموجز على حكاية شعبية يمنية، وأفردت فصلاً خاصاً للحوافز، استناداً لتودوروف، الذي قدم «لوحة محيطة، ولكن مختزلة ومبوبة، لمجمل الحوافز التي تحكم أفعال الشخصيات في علاقات السرد الروائي»( ).
أرجع تودوروف الحوافز إلى ثلاثة أساسية هي:
الرغبة، وشكلها الأبرز.
التواصل، ويجد شكل تحققه في الإسرار بمكنونات النفس إلى صديق.
المشاركة، وشكل تحققها هو المساعدة.
وثمة ثلاثة أخرى ضدية أو سلبية هي:
الكراهية، تقابل الحب الذي هو الشكل الأبرز للرغبة.
الجهر، ويقابل الإسرار الذي يحققه حافز التواصل.
الإعاقة، ويقابل المساعدة التي يحققها حافز المشاركة.
وتنتظم الحوافز في تحفيز (تنامي الفعلية)، ويصبح الفعل عملاً يلتقي فيه نشاط الحافز وسكونه، أي أن الأفعال تسمى العوامل، وقد اعتمدت على غريماس في وضع لوحة العوامل.
وعرضت العيد للشخصيات والعلاقات فيما بينها من خلال تحليل قصة «مضجع العروس» لجبران خليل جبران من مجموعته «الأرواح المتمردة». وأدى ذلك إلى لزوم «استخدام مجموعة من التقنيات، تدفع إلى التفنن واللعب لخلق هيئة القص وإبداع القول أو الخطاب» (ص68)، أي العمل الروائي من حيث هو قول، فدرست ثلاث مقولات هي: زمن القص وهيئة القص، ونمط القص، وأوضحت علاقات زمن العمل القصصي، وهي الترتيب أو النظام والمدة والتواتر. وألمحت إلى اقتصار جينيت وحده على أهمية هذه النقطة، موضحة أن التواتر «يتحدد بالنظر في العلاقة بين ما يتكرر حدوثه أو وقوعه، من أحداث وأفعال على مستوى الوقائع من جهة، وعلى مستوى القول من جهة ثانية»، وهذه النقطة يعبر عنها أيضاً بتعليل الواقعة في النقد الانكلوسكسوني، وهي ضرورية ملازمة للخطاب القصصي لتمييزه عن مستوى الحكاية/ سرد الوقائع( ).
وشرحت العيد مقولة هيئة القص، معددة أنواع الرواة، وهم:
الراوي بضمير الأنا.
الكاتب الذي يعرف كل شيء، أو كلي المعرفة.
الراوي الشاهد.
كاتب يروي من خارج، غير حاضر.
وكان شرحها مختزلاً مبسطاً، وكذلك فعلت في عرضها لمقولة نمط القص، وتتوزع هذه الأنماط إلى نمط أسلوبي يتصف بالمباشرة، ونمط أسلوبي يتصف باللامباشرة، ونمط أسلوبي لا مباشر حرّ. وختمت تنظيرها بعرض زاوية الرؤية والموقع، باختزال وتبسيط أكثر من ذي قبل، ولم تلتزم فيه باجتهادات الشكلانيين ونقاد شعرية السرد الذين جعلوا «التبئير» موضع جدل لا ينتهي؛ وإن قاربت، على سبيل الإشارة، قضية المبدأ الحواري أو تعدد الأصوات عند باختين، فقد أثارت سؤالاً حول موقع الراوي في حال «اختلاف الأصوات واختلاف المواقع»، وهل هذا الاختلاف «مجرد تنويع على صوت الراوي الواحد وتعدداً له»( ).
عدت العيد كتابها تعليمياً، وهذا واضح، في عرضها الشارح، وفي ابتعادها عن مناقشة الكثير من القضايا المنهجية لعلم السرد وفروقاته بين باحثيه ونقاده. ولا يخفى أن ظلال التسويغ العقائدي للاشتغال بمنهج شكلاني حديث لم تنجل عن عملها النظري النقدي، مما انعكس في النتيجة نقداً توفيقياً لنهاجيات نقدية حديثة جهدت كثيراً لتوفير الاتساق والانسجام لفكرته وآليته وإجراءاته ولغته.
7ـ الجهد التنظيري الأول المكتمل:
كان شغل سعيد يقطين الجهد التنظيري الأول المكتمل لتحليل السرد وفق منهجية جديدة هي السرديات البنيوية، وظهر هذا الشغل في كتابين، الأول كبير في محتواه وصفحاته هو «تحليل الخطاب الروائي: الزمن ـ السرد ـ التبئير» (1989)، والثاني أصغر هو «انفتاح النص الروائي: النص ـ السياق» (1989).
يكاد يجزم يقطين في تقديمه أن النقد العربي يفتقر إلى تصور نظري للرواية في سؤال مفتوح على التجربة العربية، وكان سمى كتابه الأول «القراءة والتجربة: حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب» (1985)، مما يشير إلى تداخل في المفهوم بين الرواية والسرد والخطاب ما يلبث أن ينزاح لصالح علم السرد، عندما وضح أن موضوع كتابه «تحليل الخطاب الروائي» ليس الرواية، ولكن الخطاب، وليس الخطاب غير الطريقة التي تقدم بها المادة الحكائية في الرواية»( ). وصرح يقطين أنه يعنى بكيفية اشتغال مكونات الخطاب وعناصره، منطلقاً من السرديات البنيوية كما تتجسد في شعرية السرد (سماه الاتجاه البويطيقي) ( ) الذي يعمل الباحثون على تطويره وبلورته بشكل دائم ومستمر، وعبر تتبعه للعديد من وجهات النظر داخل الاتجاه نفسه، وحرص على «تكوين تصور متكامل مزاوجاً بين عمل البويطيقي وهو يبحث عن الكليات التجريدية، والناقد وهو يدقق كلياته ويبلورها من خلال تجربة محددة»( ).
وأوضح يقطين أنه وقف على ثلاثة مكونات في تحليله للخطاب الروائي، هي الزمن والصيغة والرؤية السردية، وهي «المكونات المركزية التي يقوم عليها الخطاب من خلال طرفيه المتقاطعين: الراوي والمروي له. أي أننا وقفنا عند حدود ما يعرف بالمظهر النحوي أو البنيوي، وهذا إجراء أساسي يفرضه علينا التحليل السردي»( )، على أنه سينتقل في كتابه «انفتاح النص الروائي» إلى المظهر الدلالي أو الوظيفي، ولجأ إلى التطبيق تيسيراً لتحليله، فدرس في عملية أولى رواية «الزيني بركات» لجمال الغيطاني دراسة جزئية، ودرس في عملية ثانية أربعة خطابات دراسة كلية هي «الوقائع الغريبة» لإميل حبيبي، و«أنت منذ اليوم» لتيسير سبول، و«الزمن الموحش» لحيدر حيدر، و«عودة الطائر إلى البحر» لحليم بركات، واعتنى على وجه الخصوص بعلاقة الراوي بالمروي له في الخطاب.
وضع يقطين مدخلاً إلى تحليل الخطاب الروائي، عرف فيه الخطاب، وعرض لعناصر تحليل الخطاب الروائي، واتبعها بتصوره لتحليل الخطاب الروائي العربي. وقد وجد أن أولى محاولات تحديد الخطاب كانت مع هاريس وبنفنست، وتطور مع فرانسوا راستيه ود. مانكينو وجان كارون وج. موشلر ومايكل هو وغيرهم.
وميز بعد ذلك بين القصة والخطاب، وتلمس تحديد مفهوم النسق والوظيفة، لينتقل إلى إقامة تصور جديد لتطور الأشكال تاريخياً، وكانت انطلاقته من الشكلانيين الروس مروراً بالبنيويين ونقاد شعرية السرد والنقد اللساني والعلاماتي، ولا سيما تودوروف وجينيت ويلمسليف وموريس جان لوفيف وفاولر ولودج وسوزان روبين سوليمان ورولان بارت، وشلوميت ريمون كينان وغيرهم، فناقش الآراء المتصلة بالاستعمالات الثلاثة للحكي، وهي:
القصة Histoire: المدلول أو المضمون السردي.
الحكي Recit: الدال أو الملفوظ أو الخطاب أو النص السردي.
السرد Narration: الفعل السردي المنتج»( ).
وأعلن يقطين في بحثه لحدود السرديات موقفه من تقسيمات الحكي إلى ثنائية وثلاثية وفق أسس وأهداف معينة في ناحيتين هما:
«الأولى: أعلن فيها انطلاقي من تمييز تودوروف وجينيت الثنائي للحكي إلى قصة وخطاب. ووقوفي في تحليل الخطاب الروائي على ما أسميناه بـ «المستوى النحوي».
الثانية: أدخل فيها مفهوماً هو النص، وضمنه أجدني انتقل من «المستوى النحوي» إلى «المستوى الدلالي» الذي لا يهتم به تودوروف وجينيت، وإن أعطانا تودوروف في «البويطيقا» حضوره كمستوى لم يهتم به السرديون البنيويون بعد. وفي هذه الناحيةأجدني أمارس تقسيماً ثلاثياً للحكي على غرار شلوميت وفاولر وليتش، لكن من منظور مغاير، وإن كانت الأهداف واحدة: الانتقال من البنيوي إلى الوظيفي»( ).
وكان هذا الإعلان سبيلاً للانتقال من المظهر النحوي إلى المظهر الدلالي، ومجاوزة للسرديات البنيوية وتوسيعها بما سماه السوسيو سرديات، فاستفاد من مشروع بيير زيما الذي بُني على السيميوطيقا أولاً، والنظرية النقدية مع جماعة فرانكفورت ثانياً، بينما يريد يقطين مشروعه الآخر المنطلق منه، وهو ما يشكل محتوى شغله في كتابه. وعبر يقطين عن مشروعه بأنه يبحث في علاقة زمن القصة بزمن الخطاب، وعلاقة ذلك ببناء النص. «وإذا كنا في صيغ الخطاب نتحدث عن نوعية العلاقات بين الخطابات وكيفية اشتغالها: خطاب مسرود، معروض، منقول. فإننا في المتعاليات النصية سنتحدث عن علاقة النصوص بعضها ببعض ضمن «نص الرواية». وهكذا لن نتحدث عن خطاب مسرود مثلاً، ولكن عن مناص وتناص وميتا ـ نص.. ونبحث في كيفية اشتغال النصوص، داخل نص الرواية، وأبعادها النصية»( ).
عالج يقطين «الزمن في الخطاب» انطلاقاً من تعريف عام، وتقديم نظري، ونظرة الروائيين الجدد للزمن، ولسانيات الخطاب والزمن، وصولاً إلى موقف الشكلانيين الروس، وتوقف عند «خطاب الحكي» لجينيت، والمحددات الأساسية للزمن مما عالجته يمنى العيد أيضاً، وهي علاقات الترتيب وعلاقات المدة أو الديمومة وعلاقات التواتر. وعرض وجهات نظر كثيرة لجان بويون في كتابه «الزمن والرواية»، وبول ريكور في كتابه «الزمن والحكي»، وناقش إشكالية الزمن في العربية، ليجدد إعلانه مجاوزة تحليل زمن الخطاب من خلال السرديات البنيوية ولسانيات النص إلى «زمن النص» من «خلال العلاقة بين زمن الكاتب وزمن القراءة بوضعها في إطار تحليل النص، وبوضعه في إطار بنية سوسيو ـ لغوية شاملة»( ).
ثم عالج يقطين «صيغة الخطاب» منطلقاً من بيرسي لبوك وصولاً إلى نقاد شعرية السرد، ومؤكداً أن التحليل البنيوي للحكي استوى منذ أواسط الستينيات، وتوقف على وجه الخصوص عند ثلاثة أنواع من الخطاب في كتاب جينيت «حكي الأقوال» هي الخطاب المسرود، وخطاب الأسلوب غير المباشر والخطاب المنقول، وما يتبعها من تقنيات تكشف عن تقديم الحياة النفسية هي:
السيكو ـ سردي: تحليل أفكار الشخصيات التي يتكلف بها الراوي مباشرة.
المونولوج المنقول: وهو تلك الاستشهادات الحرفية للأفكار كما هي ملفوظ بها في الخطاب الداخلي، وليس «المونولوج الداخلي» هنا إلا متغيراً وتنويعاً أكثر استقلالية وذاتية.
المونولوج المسرود: الذي يقوم به الراوي تحت شكل الخطاب المباشر مقيداً كان أو حراً» (ص185)( ).
ويلاحظ أن يقطين يميل إلى تحليل جينيت الذي يأخذ عنه أنماط تقديم الكلام. وثمة تصنيفات أخرى للمادة الحكائية وصيغ سردها بسيطة أو مركبة. وعندما انتقل إلى تعدد الخطاب/ تعدد الصيغ، رصد عناصر الخطاب وأشكال الخطاب، وخصوصية صيغة الخطاب، ممعناً في التفصيلات الكثيرة التي وصل إليها علم السرد، وهي تفصيلات شكلية قليلة الجدوى، مما يذكرنا بتفريعات العلوم البلاغية المتأخرة كما عند السكاكي مثلاً، وتشير خلاصة الفصل الثاني على سبيل المثال إلى الصعوبات التي تحد من طموح مشروع يقطين النقدي من حيث الإمعان في الشكلانية ولسانيات الخطاب الذي يحدّ من توسيع السرديات البنيوية إلى مدار السوسيو سرديات، إذ ظل التحليل النظري والتطبيقي في حدوده البنيوية الشكلانية.
لا يخفى أن الوظيفية تدعيم للبنيوية، ولا تحقق غايات سوسيو سردية. ولعل تأمل شغله حول الرؤية السردية في الخطاب الروائي مما يؤدي إلى هذه الغايات. وقد عاد إلى مفهوم وجهة النظر في النقد الأنكلوسكسوني، ولا سيما لبوك وفريدمان، بوصفه منطلقاً لمفهوم «التبئير» في النقد البنيوي الفرنسي وما تلاه، وفي النقد السوفياتي، ولا سيما أوسبنسكي الذي قدم وجهة النظر على نحو شمول، تتصل «اتصالاً وثيقاً بتوليف العمل الفني بصفة عامة. ولما كان هدفه صياغة مشروع نظري مرتبط بنمذجة الممكنات التوليفية، من خلال ما يسميه «بويطيقا التوليف»، فإنه انطلق من أجل ذلك من «وجهة النظر»، ما دامت تتيح للفنان فرصة توظيف وجهات النظر وتنويعها داخل العمل الذي يتجسد، على مستوى بنائه، من خلالها». وقد رهن اوسبنسكي وجهة النظر بالمواقع التي يحتلها المؤلف، والتي منها ينتج خطابه السردي، وعاين هذه المواقع من خلال أربعة مستويات هي: المستوى الإيديولوجي، والتعبيري، والمكاني ـ الزماني، والسيكولوجي.
أما جينيت فقد استبعد مفهوم «الرؤية» و«وجهة النظر»، وعوضها بمفهوم «التبئير» الذي هو أكثر تجريداً، وأبعد إيحاء للجانب البصري الذي تتضمنه باقي المصطلحات، وقسمه إلى ثلاثة أقسام هي:
«1- التبئير الصفر أو اللاتبئير: الذي نجده في الحكي التقليدي.
2- التبئير الداخلي: سواء كان ثابتاً أو متحولاً أو متعدداً.
3- التبئير الخارجي: الذي لا يمكن فيه التعرف على دواخل الشخصية»( ).
إن انحياز يقطين لجينيت يتعارض مع السوسيولوجي، ويؤثر سلباً في توافر المعرفة الذاتية أو الموضوعية، أو ما يسمى في النقد الاجتماعي التملك المعرفي للعالم عبر تملكه جمالياً. ويزداد الالتباس أو التردد في موقف يقطين من جينيت أنه سجل ملاحظة دالة، فهو على الرغم من كونه «يقدم «التبئير» بديلاً عن باقي المصطلحات الموظفة، فإنه لا يقدم لنا أي تعريف له»( ).
لقد عرض يقطين التطور التاريخي والنقدي لمصطلح «التبئير» يحدد على ضوء ذلك استعماله لهذا المفهوم، وهو استعمال متعسف غارق في الشكلانية وولع ترسيماتها، اقتداء بجينيت بالدرجة الأولى. استعمل يقطين المفهوم «بمعنى «حصر المجال» من خلال اشتغال «الصوت السردي» كراو ومبئر في آن، أي كذات للتبئير هذه الذات «المبئر» تكون إما داخلية أو خارجية، ونفس الشيء يكون «المبأر» موضوع التبئير، سواء كان شخصية أو حدثاً أو مكاناً. ومن خلال نوعية العلاقة التي يقيمها المبئر مع المبأر يمكن أن نتحدث عن «المنظور السردي»، مكان التبئير الذي نحيله إلى نوعية الشكل، و«عمق المنظور» الذي نحيله إلى نوعية «الصوت»، وهكذا»( ).
وأورد تصنيفات وترسيمات كثيرة مثل الرؤية البرانية الخارجية (وتقابل عند جينيت التبئير الصفر)، والرؤية البرانية الداخلية (وتقابل عند جينيت التبئير الخارجي)، والرؤية الجوانية الداخلية والرؤية الجوانية الذاتية (وهما تقابلان عند جينيت التبئير الداخلي).
واختتم يقطين كتابع بالوعد. إنه بصدد معاينة يحتاج إليها مشروعه: إلى أي حدّ يتطابق هذا الخطاب كمستوى نحوي مع النص كمستوى دلالي في علاقته بالبنية النصية والاجتماعية التي أنتج فيها، أي أننا نحاول الانتقال من «البنيوي» إلى «الوظيفي» أو الدلالي، من السرديات إلى السوسيو سرديات»( ) وهو ما سيفعله في كتابه الثاني «انفتاح النص الروائي: النص والسياق» (1989).
سعى يقطين في هذا الكتاب إلى توسيع السرديات البنيوية التي وجدها في سوسيولوجيا النص الأدبي، كما بلورها بييرزيما، بعض تساؤلات مطروحة «بصدد النص في علاقته بالقارئ والسياق الثقافي والاجتماعي الذي ظهر فيه»( ).
وحاول إقامة هذا التصور الذي يتيح الانتقال من الخطاب إلى النص، من البنيوي إلى الوظيفي، من خلال مكونات محددة هي: 1- البناء النصي. 2- التفاعل النصي. 3- البنيات السوسيو نصية. وقد عاد في مدخله إلى مقدمات كتابه الأول «تحليل الخطاب الروائي» للدخول في علاقة الخطاب بالنص، وتوقف ملياً عند فان ديك في كتابه «النص والسياق» (1977) الذي يبين فيه «الفرق الموجود بين الخطاب والنص، من خلال الهاجس نفسه، وهو إقامة نحو عام للنص يأخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد البنيوية والسياقية والثقافية، أي من خلال الجوانب الدلالية والتداولية»، وهذا يتطلب، برأيه، «نظرية مركبة تستفيد من السوسيو ـ لسانيات والسيكو لسانيات وغيرهما.. لتتاح إمكانية معاينة النص من خلال خصائص السياق المعرفي والاجتماعي والأيديولوجي للأشكال والدلالات والوظائف»( ). غير أنه ما يلبث أن يظهر ارتياحه للنقاد البنيويون ونقاد شعرية السرد أمثال جوليا كريستيفا وميشيل آريفي وروبير لافون وفرانسوار مادري وبول ريكور أثناء حديثه عن النص ونظريته. ثم يتحرك يقطين بسرعة طائر بين المناهج والنظريات، ليبدي إعجابه بـ«ليننفلت» الذي يجد عنده الطموح نفسه، ولا سيما إعلانه «عن ضرورة توسيع السرديات ومجاوزه الترهينات السردية: الراوي ـ العامل ـ المروي له، التي وقفت عندها السرديات، ويقترح ضرورة إدخال ترهينات أخرى تتصل بالكاتب الملموس والقارئ الملموس. وعن طريق النموذج الذي يقدم يرى أنه يتيح إدماج عناصر أساسية ظلت مهملة مثل أيديولوجية الرواية وسياقها السوسيو ـ ثقافي، وتلقيها من لدن القارئ»( ).
ووضع تعريفاً أو تصوراً للنص على أنه «بنية دلالية تنتجها ذات فردية أو جماعية، ضمن بنية نصية منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة». وقد طبق هذه المكونات على الروايات التي عالجها في الكتاب الأول، وكانت النتائج متكلفة ومتعسفة غالباً تحت وطأة الإنهاك الشكلي والتفريعات الزائدة، ففي الحديث عن البناء النصي صال وجال في بناء النص على المستويين الداخلي والخارجي بتفريعات أثقلت التحليل والنقد، كما في هذه النتيجة على سبيل المثال:
«1- زمن القصة: قبلي وخارجي.
2- زمن الخطاب:
- زمن النص (الكتابة): آني وداخلي.
- زمن النص (القراءة): بعدي وخارجي»( ).
وقد ضاعفت من وطأة إنهاكها الشكلي كثرة الترسيمات والأشكال مما يجعل الكتابة النقدية لغزية. ولعل تأمل التركيب الذي وضعه في ختام الفصل يشي بذلك، إذ تعذر تلخيص استنتاجاته، وغابت عنه التفريعات الشكلية.
وحوى الفصل الثاني من كتابه «التفاعل النصي» تمهيداً يوضح استعماله لهذا المصطلح مرادفاً لمفهوم «التناص» Intertxualite أو المتعاليات النصية Trans****ualite كما استعملها جينيت بالأخص، مما يؤكد ولعه بالمنهج البنيوي، وقد فضل مصطلح «التفاعل النصي»، لأن «التناص» واحد من أنواع «التفاعل النصي»، أما مصطلح «المتعاليات النصية» فيفيد دلالات لا يريدها، أو لا يتضمنها مصطلحه «التفاعل النصي».
عرض مصطلح «أيديولوجيم» دون أن يشرحه عند حديثه عن النص والتناص، وتابع تطورات مصطلح التناص باختزال واضح، واعتنى بمصطلح جينيت وتفريعه للمتعاليات النصية، وهي: 1- التناص، 2- المناص، 3- الميتانص، 4- النص اللاحق، 5- معمارية النص، دخولاً في تصوره لمصطلحه «التفاعل النصي». ولدى التطبيق على النصوص الروائية المدروسة، بدا التكلف أيضاً، بسبب الإيغال في الشكلانية وتفريعاتها، ويتأكد هذا في الاستخلاصات الواردة في التركيب بخصوص مقولة انفتاح النص الروائي:
«1- إن البنيات النصية المتفاعل معها مستوعبة ومحولة ومعارضة، ومن خلال ذلك تصبح بنيات لها وجودها الداخلي في النص.
2- بذلك تسهم إلى جانب البنيات التي اعتبرناها «أصلية» في بناء النص وتبنينه (لاحظ هذا الاشتقاق المتكلف أيضاً).
3- إن انفتاح النص على صعيد البناء يوازيه انفتاح آخر على بنيات نصية أصبحت جزءاً منه، وبذلك فهو يتفاعل معها ويحاورها»( ).
وخصص الفصل الثالث والأخير للبنيات السوسيو ـ نصية، وانطلق، على مألوف عادته، من الشكلانيين الروس، ليصل إلى النص في علاقته بالبنية السوسيو نصية، مستلهماً تصور بيير زيما دون مجاراته فيما سماه «الوضع السوسيو لساني»، وقد تألف تصور يقطين من المكونات التالية:
1- الربط بين النص والبنية النصية الكبرى والبنية السوسيو نصية التي أنتج في إطارها زمنياً لمعاينة إنتاجيته أو عدمها.
2- الربط بين النص والمجتمع كما يتجلى ذلك في تفاعل النص مع البنية النصية الكبرى والسوسيو نصية من خلال النص ذاته، على اعتبار كون العلاقة بين هذه البنيات هي علاقات تفاعل وجدل: علاقات هدم أو بناء، علاقات صراع أو تعايش.
3- إن النص والبنية الكبرى والصغرى والبنيات الاجتماعية ليسوا متفقين (هكذا!) على ذاتهم، فالتفاعل المسجل بينهم جميعاً كما يتجلى من خلال النص، نجده أيضاً في علاقاتهم أيضاً مع بنيات أخرى خارجية (أجنبية)، وعلى المستويات جميعاً. ويختلف دور هذا التفاعل مع هذه البنيات الخارجية باختلاف مراحل تطور المجتمع وبنياته السوسيو نصية في تحولاتها.
4- كل هذه التفاعلات علاقات بين البنيات في مختلف تجلياتها لا تتم إلا من خلال تفاعل الذات من خلال فعل مزدوج: الكتابة والقراءة. سواء كانت هذه الذات ذات الكاتب أو ذات القارئ»( ).
أراد يقطين نصاً منفتحاً تكون معه القراءة متفتحة على السؤال والبحث، وقادرة على الاستفادة من الإنجازات الهامة في مجالات علوم الأدب والعلوم اللسانية والاجتماعية بما يسهم في إغناء للوعي بالذات وللنصوص التي تنتج، أي إغناء المنهج الذي به نحلل والنص الذي نقرأ. ولقد استطاع أن يهتدي إلى مشروعه النقدي، وأن يحدد كثيراً من عناصر تركيبه في استهدافه ومرجعيته وطبيعته وإجرائيته، ولكن ثمة ملاحظات تحتاج إلى إعادة صوغ الأسئلة، وإعادة خوض الممارسة النقدية حول اللغة التي تحتاج إلى عناية أكبر، والمصطلح القلق بين مرجعيته الغربية وتعريبه، والتقليل من حدة التأثير الناجم عن توليف مناهج متعددة، وتحديد الموقف من هذه القطيعة المعرفية مع الموروث النقدي العربي.
8ـ نحو علم السرد:
في أواخر الثمانينات، صارت المناهج الحديثة إلى رسوخ، واتسعت الكتابة النقدية النظرية، وظهرت مؤلفات تتناول جوانب من النقد القصصي والروائي والسردي الجديد، فروعاً لشجرة كبيرة نامية هي علم السرد، بالإضافة إلى أشجار أخرى تُسقى من مياه العلوم الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع، لتتأسس في التسعينيات اتجاهات للنقد القصصي والروائي الجديد. ونتابع الجهود النظرية أيضاً.
كان كتاب عبد اللطيف محفوظ (المغرب) «وظيفة الوصف في الرواية» (1989) من أوائل الكتب التي تتناول جانباً محدداً من جوانب نظرية الرواية وفق نهاجيات النقد الجديد. وتكمن أهمية هذا الجهد في إضاءة عنصر الوصف من منظورات نهاجية جديدة، مستندة إلى قدر معرفي باتجاهات نقد الرواية المتأثرة بالعلوم الإنسانية كالتحليل النفسي والنقد الاجتماعي، ولذلك لا ترتهن الكتابة النقدية عنده إلى مرجعيات النقد الجديد كلياً، بل تستفيد منها للإحاطة بمكانة الوصف في مجمل بناء الرواية وتأديتها لوظائفها. وقد اعتمد محفوظ في مدخله على مبدأ النمذجة الكتابية، وهو مبدأ تقليدي متصل بمبدأ المحاكاة، انتعش في حضن النقد الاجتماعي، ولاسيما النقد الأيديولوجي الماركسي، فأعاد قول باختين بأن الرواية جنس أدبي غير مكتمل، لأنها تتطور بفضل التحولات التي تسم النمذجة الكتابية، بما في ذلك النمذجة الأيديولوجية والغريزية والاستيتكية، وهذا التعليل لجوليا كريستيفا. ومن هذا المدخل، يكتسب الوصف أهميته «باعتباره يدخل بامتياز في تكوين النمذجة الاستيتكية، فضلاً عن قدرته الخارقة على المساهمة في خلق باقي النمذجات وإسعافها في تحقيق الغايات والأبعاد التي تتغياها» (ص5)، غير أن محفوظ سرعان ما استعمل المرجعية البنيوية ونقاد شعرية السرد على نحو مضمر غالباً، نعرفه من المتن نفسه، كاستعمال «الخطاب» و«مورفولوجية» و«السرد» و«التزامن» وسواها، كما في تعريفه للوصف أو مناقشته لمورفولوجية الوصف:
«الوصف يعرف عادة بكونه ذلك الخطاب الذي ينصب على ما هو جغرافي أو مكاني أو شيئي أو مظهري فيزيونومي.. الخ، سواء كان ينصب على الداخل أو الخارج. ويمكن أن يحصر الوصف في شكل دليل مركب، في شكل كلمة أو جملة أو متتالية من الجمل»( ).
فرق محفوظ بداءة بين الوصف والأنماط الكتابية التي تقاربه كالاستعارة والصورة، واعتمد في تعريفهما على رولان بارت وباشلار، ودرس وظيفة الوصف في الرواية، باعتباره تعبيراً لغوياً يتعالق مع السرد من خلال إشاراته وأفعاله بما يؤدي إلى تعالق قائم بين الوصف المعطى والشعور الباطني الموجه له، وهو ما يسمى بالعلاقات الممكنة بين حركة الوصف وحركة النفس، ووضع خطاطة لذلك لإبراز التعالقات بين المحفز الضمني، والنص الكائن الرامز، والنص الممكن المرموز إليه.
وانتقل محفوظ إلى قضية أكثر عمقاً تطرحها عملية التشكل، هي مورفولوجية الوصف، وبفضلها يضطلع الوصف بوظيفة خطيرة في خلق الدلالة الكلية للنص الإبداعي، ولها ثلاثة جوانب إشكالية هي مشكل الانتقاء، ومشكل الأوصاف، ومشكل التوارد التدريجي. وقام بتحليل تطبيقي على نصوص متعددة ليربط دلالة الوصف بالنص ككل، عبر المراحل التالية:
1- تحديد العين الواصفة، هل هي عين السارد أم عين الشخصية أم هي عين جماعية؟
2- دلالة النص الوصفي المعزولة.
3- دلالته في سياق الرواية بصفة عامة. ودرس بعد ذلك بالتفصيل علاقة الوصف بالسرد الروائي، محتذياً كلمة مفتاحية لجان ريكاردو، تقول: «كل عمل تخييلي هو مكان احتراب متواصل»، وميز بين الوظيفة السردية والوظيفة الوصفية، مشيراً إلى وجود سرد وصفي حين تندغم الوظيفتان، وإلى وصف موجه من قبل السرد، وهو أكثر تعقيداً، ويخلق احتراباً متفاوت الدرجة بين السرد والوصف، وله ثلاثة مستويات:
1- الوصف البسيط: ويقصد به الوصف الذي يعطى من خلال جملة وصفية مهيمنة قصيرة، لا تحتوي إلا على بعض التراكيب الوصفية الصغرى.
2- الوصف المركب: ويقصد به الوصف الذي ينصب على الشيء الموصوف (العنوان) الذي ينتمي إلى السرد الروائي، شريطة كون هذا الوصف معقداً، إما بفضل الانتقال من الموصوف إلى أجزائه ومكوناته، أو بالانتقال إلى المحيط الضام لهذا الموصوف أو المضموم ضمنه.
3- الوصف الانتشاري: ويقصد به الوصف الذي يراكب الأشياء والمشاهد واللوحات، بشكل يسمح له إعلان نفسه محوراً مهيمناً، يخضع لمشيئته محور السرد.
ويضع محفوظ ترسيمة لتعالقات السرد والوصف تستوعب قابليات علاقة الوصف بالحدث، «حين يصبح السرد وحده مضطلعاً بمهمة سرد أحداث مخبوءة ومتسربة عبر سراديب الجمل الوصفية»( ). وألحقها بترسيمات متعددة لعلاقة الوصف بالزمن، باعتباره يقوم بوظائف مختلفة في مجرى علاقة زمن السرد الروائي (الخطاب) وزمن الحكاية:
«1- حين يكون الوصف معبراً عن الحدث، فإنه يصبح اقتصاداً لغوياً، ومن ثم، فإنه يسرع بزمن السرد على حساب زمن الحكاية.
2- حين يكون الوصف تأملياً، أو ملاذاً لشخصية ما، حيث تبتعثه بصرية الشخصية (سواء كانت البصرية منصبة على الداخل أو الخارج) للهروب من انفعالات منبعثة من أحداث محرجة، فإن العلاقة بين الزمنين تتوازى.
3- حين نكون أمام ما أسميناه بالسرد الوصفي، حيث نكون أمام إبطاء ضئيل يسم الحكاية، وإطالة طفيفة لصالح زمن الخطاب بواسطة الأوصاف.
4- حين يكون الوصف تحليلاً محضاً لنفسية الشخصية، أو يكون توضيحاً للسرد أي حين يكون حشواً بتعبير ريكاردو، فإننا نحصل على زمن شبه متوقف في الحكاية.
5- أما حين يكون الوصف منصباً على الشيء أو المكان أو المظهر الخارجي لشخصية ما دون أن يكون هذا الوصف دالاً على أحداث ضمنية، فإن الحكاية تتوقف تماماً. وبذلك نحصل على علاقة متنافرة بين محوري الكتابة والحكاية، حتى لتبدو كتابة الحكاية، حكاية للكتابة حيث التوقف التام للحكاية»( ).
وقدم محفوظ دراسة تطبيقية منهجية في الفصل الثاني والأخير من كتابه عن «الوصف في مدام بوفاري»، من مستويين: مستوى الطبيعة ووصف الخارج، ومستوى وصف الداخل والأشياء. وعالج في المستوى الأول المناخ العام للوصف والبنيات المشكلة للوصف، والشكل الدلالة، وفي المستوى الثاني دلالة الأشياء في سيرورة الحكي، ودلالة الأشياء في علاقتها مع الشخصيات.
تشير دراسة محفوظ إلى تطور استعمال النهاجيات الحديثة من حيث هي خطوة نحو تعريب المصطلح، ومن حيث هي خطوة في هضم هذه النهاجيات واستيعابها في التنظير.
9ـ رؤية الاتجاهات الجديدة في سياقها التاريخي والمعرفي:
كان كتاب صلاح فضل «بلاغة الخطاب وعلم النص» (1992)، أول محاولة منهجية علمية لرؤية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية في سياقها التاريخي والمعرفي، وتكتسب هذه المحاولة أهميتها من كونها تصدر عن عالم وناقد عرف بمقدرته التنظيرية، وبممارسته النقدية المتزنة والمتوازنة الذاهبة إلى مدى عميق في تأصيل المناهج الحديثة في الثقافة العربية، كما في كتبه «منهج الواقعية في الإبداع الأدبي» (1978)، و«نظرية البنائية في النقد الأدبي» (1977)، و«علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته» (1982). وينزع في كتابه الجديد منزع «مجموعة من العلماء العرب الطليعيين في المشرق والمغرب، ومهدت له الأسلوبية بصفة خاصة»( ).
نظر فضل إلى عالم السرد وتحليل النص السردي في إطار تشكل بلاغة الخطاب وعلم النص، على أنه تطور لهما في الإطار المعرفي الجديد الذي شهد عمليات تحول كبرى، تنتقل فيها بالتدريج، أعداد متزايدة من العلوم الإنسانية، عن طريق الضبط المنهجي والتراكم المعرفي والتوالد عبر التخصص، إلى منطقة البحث «الأمبيريقي» التجريبي.. بحيث لم يعد كثير منها ينتمي إلى ما يسمى «بعلوم الروح التي لا تقبل الاختبار والتحليل والتقادم، بل أخذ يدخل في مجال «النظرية» بالمفهوم العلمي، ذات الفروض والعناصر المحددة، فشرع في درس تحول الأنساق المعرفية، لأنه مهاد لازم للإطار العلمي الذي تنبثق منه بلاغة النص الجديدة. و«لما كان علم الأدب لا يهتم سوى بالنصوص الأدبية، وعلم النص يتكئ بصفة خاصة على مجال اللسانيات، بدراسة الملفوظات اللغوية بكليتها والأشكال والأبنية المختصة بها، والتي لا يمكن وصفها بواسطة القواعد اللغوية، من هذه الزاوية فإن علم النص يقترب من الميدان الذي كان مخصصاً للبلاغة، بحيث يرى العلماء أنه الممثل الحديث لها. وإذا كانت «التداولية» (Pragmatique) هي أحدث فروع العلوم اللغوية (لا يورد تعريفاً لهذا المصطلح ولا يسوغه منهجياً)، وهي التي تعنى بتحليل عمليات الكلام والكتابة، ووصف وظائف الأقوال اللغوية وخصائصها خلال إجراءات التواصل بشكل عام، مما يجعلها ذات صيغة تنفيذية عملية، فإن اندماج الخطاب البلاغي الجديد في علم النص يتيح له تشكيل منظومة من الإجراءات المنهجية القابلة للتطبيق على المستوى التداولي»( ).
إن مفهوم النسق المعرفي في الفكر الحديث مرتبط بالبحوث التي قدمتها دراسة الأطر الاجتماعية للمعرفة. وقد دار جزء كبير من البحوث الاجتماعية اللغوية حول خواص الأبنية الصرفية الصوتية والدلالية، بما يفيد أن القدر الأوفر من الدراسات الهامة المتعلقة بالخطاب قد أجري خارج نطاق علم اللغة، خاصة في علوم مثل الأنثروبولوجية والاجتماع، بالإضافة للبلاغة الجديدة والشعرية. وتكون فرع هام في مباحث علم الإناسة يسمى «إثنوجرافيا الكلام» حيث تدرس الأنماط المختلفة للخطابات المستعملة في الثقافات العديدة، مثل القص والألغاز واللعب بالكلمات والسباب وغيرها من أساليب السرد والأسطورة. وقد أدى تطور نظريات اللغة ذاتها، برأي فضل، إلى تجاوز الثنائية التي كانت مثمرة في حينها، ولم تلبث أن أصبحت وهمية، والتي تضع المقاربة المنبثقة في مقابل المقاربة الخارجية.
وتوقف فضل عند مفصل هام هو بزوغ البلاغة البنيوية العامة، وهو الاتجاه الذي تبلور في عقد الستينيات من هذا القرن، في كتابات مجموعة من النقاد البنيويين من المدرسة الفرنسية والألمانية، حتى أعلنته «جماعة م Groupe M في بحوثها المتتالية. ويتميز بعدد من السمات، من أهمها قطيعته الفعلية مع التقاليد البلاغية القديمة، وغلبة الطابع غير التاريخي عليه. وارتباطه الوثيق بالتجربة الشكلية. واتخاذ مبادئها وسيلة لإضفاء الطابع العلمي، لا الأيديولوجي على بحوثه. بعد تغير المنظور العام بانتصار البنيوية وما بعدها، خاصة عندما قام علم اللغة بدور العلم القائد، وتزعم في الثقافة الغربية المعاصرة الاتجاه المحدد إلى التحليل التقني. مما برزت معه العلامة Signe باعتبارها نقطة البدء في استكشاف الرسالة طبقاً للمفهوم المتداول في علوم الاتصال الحديثة.
وتلا ذلك استكشاف آليات التحليل التداولي للخطاب وطرائقه مما أفاد علم السرديات “Narratologie”. ثم لم تلبث هذه الاتجاهات في تحليل الخطاب أن أسفرت في تطورها خلال السبعينيات عن منظومة متسقة من الإجراءات المنهجية التي تفيد من المنظور التداولي في اللغة بقدر ما تستثمر إمكانيات التحليل السيميولوجي للوحدات الوظيفية في النصوص تحت عنوان شامل هو تحليل الخطاب.
ثم انتقل فضل إلى دراسة الأشكال البلاغية من ناحيتين الأولى بنية الشكل البلاغي، فيما يخص مفهوم الشكل وتحديد الأشكال وتحرير الوظائف، والثانية هي إعادة رسم الخرائط وصلاتها بالبلاغة والأسلوبية ومستويات التصنيف.
لقد صار ميسوراً لفضل أن يتحدث عن علم النص بعد هذا التمهيد الطويل عن بلاغية الخطاب، إذ إن مفهوم النص يبنى من جملة المقاربات التي قدمت له في البحوث البنيوية والسيميولوجية الحديثة، دون الاكتفاء بالتحديدات اللغوية المباشرة، لأنها تقتصر على مراعاة مستوى واحد للخطاب، هو السطح اللغوي بكينونته الدلالية. من هنا، فإن تعريف جوليا كريستيفا J. Kristiva، على تشابكه، قد ظفر باهتمام خاص، لأنه يطعن في كفاية النظر إلى هذا السطح، ويبرز ما في النص من شبكات متعالقة. فالنص عندها عملية إنتاجية.
وثمة انعطافة أخرى، من انعطافات كثيرة شهدتها عملية تشكل عمل النص، هي تصور لوتمان I. Lotman لآليات التحليل الدلالي للنص الفني يمكن الاسترشاد به لملء فجوة التحليل النوعي للنصوص الأدبية وأبنيتها الخاصة.
ويرى لوتمان بالرغم من ذلك، أن هذه العمليات لن تقدم سوى هيكل عم أولي للنص، إذ أن وصف كل الروابط الماثلة في النص، وجميع العلائق الخارجية له يعتبر مهمة غير واقعية لضخامتها وقلة جدواها. وعندئذ تتجلى ضرورة اختيار المستويات المهيمنة للكشف عن الأبنية الدالة، مع توضيح أسباب الاختيار ونتائجه في إضاءة النص. ولعل تأمل جوهر هذه الانعطافات، في لغتها ومصطلحها وإجرائيتها، يشير إلى مدى إيغال علم النص في الشكلية والتعقيد، وهما مظهران أساسيان للسرديات وعلم السرد بعد ذلك، لأن علوم النص وجدت في هذا المجال ميدانها المفضل لتطبيق مبادئها عليه، كما أوضح فضل في فصله الأخير من كتابه الهام «تحليل النص السردي». وتناول فيه ثلاث قضايا هي «بلاغة السرد» و«أساليب السرد وأنماطه» و«سيميولوجية النص السردي».
التفت فضل عن إغراء كتابه تاريخ لنظريات السرد، إلى «تحديد موقف معرفي آني يبغي اكتشاف تجليات دراسة الخطاب الأدبي في مجال القص باعتباره نصاً مكملاً»( ). وانطلق من كتاب W. Booth «بلاغة القص» الذي ما يزال بعد مضي نحو ثلاثين عاماً على صدوره منبعاً كلاسيكياً للسرديات في النقد العالمي( ).
وعني فضل بموقف بوث من قضية المعنى وتعدده، وعزا ذلك إلى تأثره بالمناخ الثقافي السائد، حين وجد «أن حديث بوث عن أحكام القيمة واهتمامه بطبيعة المضمون الأيديولوجي للنص الروائي كان مرتبطاً بما شاع من تيارات نقدية في منتصف القرن عند انتصار الوجودية والاشتراكية النقدية في أوروبا، وتأثر النقاد الأمريكيين بهذه التيارات، وذلك قبل غلبة النزوع التقني الذي لا يتحرج من تبني المذاهب الشكلية لدى البنيويين، والتعديلات التداولية التي أدخلت عليه فيما بعد، مما سنقف عليه وعلى ما أعقبه من منظور سيميولوجي في علوم السرديات»( ).
وعرض فضل لأساليب السرد وأنماطه الذي تأثرت بإنجازات الرواية الفرنسية الجديدة، واستحضر قولاً لميشيل بوتور، أحد أعلامها، M. Butor مفاده أن الرواية لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب، بل بمجموعها. ثم مضى خطوة إلى الأمام مع ميخائيل باختين M. Bajtin الذي كان أهم من طرح نظرية التنميط الأسلوبي للنص الروائي.
أما الخاصية الجوهرية للغة الرواية عنده فهي الحوارية والإنارة بالتعدد، فلغة الرواية هي نظام لغات تنير إحداها الأخرى طوراً. وكان هذا التحليل التقني لأنماط السرد مدخلاً لاستكشاف الأساليب وتوضيح الأنماط النصية، وهي انعطافة أخرى إلى نقاد شعرية السرد، وقد وجد فضل أن النموذج التحليلي الذي قدمه جينيت يكاد يكون «أهم نموذج بعد «بوث» استوعب المقولات السابقة عليه، وقدم تأطيراً منظماً لأسس السرد الفني، فأصبح منطلقاً حتمياً لمن يحاول تعديله وتكييفه مع مقتضيات الخطاب النقدي النظري أو التطبيقي»( ).
وأبدى فضل استغراباً في محله هو أن جينيت «لم يترجم إلى العربية، مع أن كثيراً من الباحثين يتكئون كلياً أو جزئياً عليه، بحيث لا نكاد نتقدم في مجال السرديات خطوة حقيقية دون الإحالة على تصوراته، هذه التصورات التي أصبحت تقع في مركز التحليل التقني للنص السردي»( ).
ثم ختم فضل تحليله للنص السردي بعرض المقاربات السيميولوجية للنص السردي، لما تتيحه من آفاق خصبة في طرح قضايا التحليل التقني في إطار منظومة أشمل لدوائر النص الموسعة. واختار لذلك ما قدمته جماعة م من مقترحات تتصل بالسرديات، حيث يتمازج لديها المنظور البلاغي للخطاب بالتناول النصي، الأمر الذي يفضي ببلاغة الخطاب إلى أن تتحول إلى علم النص، واستند في نظرته إلى أن البحوث الحالية في الأبنية السردية أفضت إلى تصورات جديدة ذات طابع دلالي وإشاري، «فلم تعد تقف عند «سطح النص»، وتجري «على عينات» منه بدلاً من تبادله بأكمله، وذلك على أساس أن «بنية السرد» مستقلة عن الوسائل اللغوية التي تقدمها»( ). ويحتل جريماس مكانة أثيرة في هذا الاتجاه، فقد اعتمدت السرديات السيميولوجية على أسس كثيرة، أوضحها ما يطلق عليه «مربع جريماس» وعلاقته بالفواعل وكيفية الحال ومفهوم الحقيقة في السرد، والتأثير الناجم عن هذه الكيفيات مما يسمى بسيميولوجيا العواطف، وقد عرضنا لمثل هذا في مكان آخر من هذا البحث، لأن جريماس أثير عند أصحاب هذ النقد النظري على وجه العموم.
وثمة محاولات علمية أخرى أفادت من هذه المقولات السيميولوجية ومزجتها بنتائج النمذجة السردية، واجتهدت في إقامة هيكل عام منظور لبلاغة النص السردي هي محاولة «جماعة م»، وهم اعتمدوا في شغلهم على التمييز الذي وضعه يلمسليف I. Hjelmslev بين شكل التعبير ومادته، وشكل المضمون ومادته. وعلى هذا، فإن علامة سوسير Saussure تتحول إلى وحدة مكونة من شكل المضمون وشكل التعبير، وقائمة على التضامن بينهما، مما كان يسميه الوظيفة السيميولوجية، وعندئذ تصبح الوحدة ذات وجهين، مفتوحة على اتجاهين، صوب الخارج حيث مادة التعبير، وصوب الداخل حيث مادة المضمون.
وعالج فضل، في هذا المجال، الفروق البارزة بين أنواع الخطاب الروائي والمسرحي والسينمائي، وما هو متداخل بينها، أو يتبادل التأثير. ومما اعتنى به فضل في سيميولوجية النص السردي «حركة الضمائر وتماهيها وتبادلها في نسيج القص، يرتبط بمشكلات الصوت والمنظور كما رأيناها عند جينيت، وإن كانت «جماعة م» البلاغية تقدم رؤية أخرى مركبة منها، ومن غيرها من العناصر»( ). فقد رهنوها بالأشكال البلاغية من خلال تمثيل الراوي وعلاقة الراوي بالشخصيات، واستخلصوا لذلك الأشكال التالية: الحذف، أو الإضافة، أو حذف وإضافة أو استبدالا، ويخضع التعامل معها إلى أشكال العلاقات السببية في السرد. بيد أنهم طوروا أيضاً أشكال المحتوى اعتماداً على التصنيف الذي قدمه بارت لوحدات القص ووظائفها الأصلية النووية، وعدلوا نموذجه الوظيفي كي يشمل الوظائف التالية:
الأصلية أو النووية.
الشخصيات والمؤثرات.
حوامل المعلومات.
الفواعل وعلاقتها بالشخصيات.
وقاموا في نهاية الأمر بمحاولة طريفة لربط الأدوار السردية بالأشكال البلاغية من كتابة ومفارقة واستعارة على أساس تحليل الوظائف والتأثيرات الناجمة عن حالات السرد في ضوء هذه المعايير.
لم يغفل فضل، في تقديره لهذه المؤشرات النظرية لوسائل وتقنيات تحليل النص السردي، عن مغالاتها الشكلية وسياقها المعرفي الآخر الذي انتج في الغرب، غير أنه رهن جدواها الحقيقية في الأدب العربي الحديث بأمرين: أولهما تطبيقها، وثانيهما عالمية العلم. إن كتاب صلاح فضل علامة من علامات النقد النظري للاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية، للأسباب التالية:
1- التعامل مع هذه المناهج الحديثة وفق منظور نقدي بالنظر إلى موقعها التاريخي والنظري من جهة، وبالنظر إلى مكانتها في امتلاكها سبيلاً من سبل وعي الذات القومية من جهة أخرى.
2- تعريب هذه المناهج النقدية لا مجرد نقلها، على الرغم من أنه قرأها بغير لغاتها، أي عن اللغة الإسبانية، ما دامت غالبية مصنفاتها مكتوبة باللغات الأوروبية الأخرى، الإنكليزية أو الفرنسية أو الروسية أو الألمانية وغيرها.
3- لا ينقاد لهذه المناهج، متلمساً مفاصلها وآلياتها الجوهرية، قاصداً إلى تعريفها، لا الاستغراق في شكلانيتها وتعقيداتها والتباساتها، واضعاً إياهافي لغة نقدية واضحة.
10ـ تنامي عمليات نقد الاتجاهات الجديدة:
تابع عبد الرحيم الكردي جهود النقاد والباحثين العرب الذين وضعوا الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية نظرياً وتطبيقياً نصب أعينهم، وقد اختار لكتابه النقدي عنواناً صريحاً ومباشراً هو «السرد في الرواية المعاصرة: الرجل الذي فقد ظله نموذجاً» (1992)، فهو يعزز النظرة النقدية إلى هذه الاتجاهات نحو تأصيلها في التفكير النقدي العربي، على الرغم من الميل إلى التوفيق بين عدة اتجاهات، ومن الجلي، أن الكردي منشغل بأهمية تحديث المنهجية، ولكنه مدرك تمام الإدراك للإشكالية الناجمة عن ذلك، فبادر إلى ما يسمى بالتفاعل الثقافي الحضاري، أو ما يؤثر بعضهم أن يسميه بالمثاقفة الإيجابية، أي نفي الطابع الاستعلائي المهيمن لثقافة الآخر على الثقافة العربية.
بذا، تصبح كلماته في مقدمة بحثه ذات دلالة، فقد أثبت بحثه «أنه يمكن الاستفادة من المناهج الغربية في تحليل النصوص العربية بعد تطويعها لمنطق العقل العربي، دون أن تؤدي هذه الإفادة للذوبان والتغريب، بل إلى إثبات الذات والبرهنة على القدرة على الأخذ والعطاء»( ).
عدّ الكردي دراسة السرد الروائي من أكثر الدراسات النقدية الحديثة خصوبة وصعوبة، بل عدها من أكثر المقولات تعقيداً، مستهدياً بقول تودوروف. ومرد هذه الصعوبة إلى «ثلاثة جوانب، اثنان منها يتعلقان بمصطلح السرد، وهما: اضطراب مفهومه، وعدم وجود حدود قاطعة لمجالاته، وأما الجانب الثالث فيتعلق بتعدد المناهج والاختصاصات التي تتزاحم على ساحة الدراسات السردية»، وإذا كان هذا الرأي صحيحاً، فإن ذلك لا يعفينا من الإقرار بأن المصطلحات جميعها تشكو من التحديد والتعريف والتنوع الاستعمالي والوظيفي، وكان عبر الكردي نفسه عن ذلك خير تعبير في مقالته الواسعة والمعمقة «أزمة المصطلح في النقد القصصي» (فصول 1987). ولعله أراد من ذلك أن يجلو هدفه من كتابه، و«هو كشف مقومات السرد في الرواية المعاصرة، وتحليل عناصره ووظائفه وتقنياته، تحليلاً منهجياً منضبطاً، باعتبار السرد أكثر العناصر أهمية في النص الروائي، وباعتباره أيضاً أقوى المؤثرات المنشئة للدلالة فيه»( )، ولعله أراد أيضاً أن يسوغ نزعته التوفيقية في توكيده «على أن البحث في استناده إلى هذا المنهج حرص على ألا يذوب فيه، بل حاول الإفادة من أدواته في استكشاف جوانب السرد في الرواية المعاصرة، دون أن يصمّ أذنيه عن أدوات أخرى استخدمها أسلوبيون آخرون غير «ليتش» و«شورت» من أمثال «سبيتزر» و«فاولر» و«لودج» و«باختين»، كما أنه أفاد من قراءته لأعمال الشكلانيين والبنائيين، مكوناً لنفسه اجتهاداً خاصاً في التفسير والتحليل، اجتهاداً لا يقوم على الانتقاء الذي قد تتناكر مفاصله، بل على الاستفادة والاستيعاب لما يقبله الذوق العربي المصقول الضارب بجذوره في أعماق التراث، والمتطلع إلى كل نافذة تشع بضوء جديد»( ).
انقسم الكتاب إلى قسمين، قسم نظري وآخر تطبيقي، ونعرض للدراسة النظرية بالتحليل والمناقشة. وقد عمد، مثل بعض الباحثين والنقاد السابقين في المبحث الأول منها إلى العناية بالمداخل اللغوية في تحليل النصوص، وأشار مثلهم أيضاً إلى «أن المدرسة الشكلية كانت أقدم المدارس التي أفادت من الغويات في مجال تحديد موضوعها في الأدبية وليس الأدب»( ).
وأجمل بحثه في ثلاثة اتجاهات تمثلها ثلاثة نماذج:
النموذج الأول: ويعتمد على أن موضوع تحليل النص الأدبي ليس هو الأدب، وإنما الأدبية، وهذه الأدبية، عالجها «موخاروفسكي» و«توماشفسكي».
النموذج الثاني: وهو لـ«بروب» حيث أفاد من تقسيم «سوسير» للغة إلى «لغة» و«كلام»، وأفاد من أبحاث سائر أعضاء المدرسة الشكلية وأعضاء حلقة براغ اللغوية، عن موضوع الدراسة الأدبية، وحاول كشف النقاب عن الأنماط الثابتة والهيئات المتغيرة في الحكايات الشعبية الروسية.
النموذج الثالث: الذي وضعه ميخائيل باختين وهو يقفز بالفكر النقدي قفزة جديدة، إذ يتعامل مع النص الروائي بوصفه لغة تعبر عن لهجات المجتمع وأصوات أبنائه، فالرواية، حسب رأيه، ليست سوى تقليد للصراع الطبقي، أو تجسيم له، عن طريق اللغة.
ثم جاءت بعد ذلك المدارس البنيوية الأوروبية، ومن نماذجها «رولان بارت» و«ليفي شتراوس» و«تودوروف» و«جيرار جينيت، وكلها أفادت من المدرسة الشكلية ومن الدراسات اللسانية المعاصرة لها. وناقش في هذا الإطار جهود ثلاثة باحثين ونقاد عرب اقتفوا أثر البنيوية الأوروبية، وينتمون إلى بيئات عربية مختلفة، وهم سيزا قاسم ووليد نجار ويمنى العيد. وتناول بعد ذلك «الأسلوبية الحديثة، وهي مدرسة انجلوسكسونية، يقوم منهجها على نقض الأساس الذي قامت عليه البنيوية الأوروبية.
وخصص المبحث الثاني من دراسته النظرية لتحليل السرد، فحدد مفهومه، واتبعه بحديث عن السارد، والفرق بينه وبين كل من الراوي والعاكس، ثم بين أنواع الرواة وأنواع الساردين، والمحتوى السردي ودوره في تشكيل السرد، ووظائف السرد وعلاقتها بالوظائف اللغوية عند «هاليداي»، وأساليب الخطاب السردي أو طرق الاستحضار، أي طرق استحضار الأفعال والأزمنة والهيئات والأمكنة والأحاديث والأفكار. ثم قدم تصوراً لنموذج تحليلي يمكن استخدامه في تحليل السرد الروائي، ويعتمد هذا النموذج على تقسيم السرد إلى ثلاث طبقات هي: لغة السرد وطرق الاستحضار السردي، واتجاه السرد وتركيبه وحجمه. على أنني سأكتفي بعرض بعض المسائل التي لم تلق عناية كافية عند سواه من النقاد والباحثين.
أعاد الكردي حصر أنساق التحفيز، نقلاً عن «نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس»، وهي: التحفيز التأليفي والتحفيز الواقعي والتحفيز الجمالي، وأضاف إليها تحفيزاً رابعاً هو التحفيز السيكولوجي، ولعل إضافة هذا النوع من التحفيز، لا ينسجم مع تصنيف الشكلانيين لها، لأن التحفيز يتجه إلى اتساق الوحدات الجمالية داخل العمل الفني، أي أنها بعنايتها بالتنامي الفعلي، وهو معنى التحفيز، وبتشكيلها لنسيج أغراض هذا العمل الفني، تفيد فعالية الحوافز، وهي الوحدات القصصية الأصغر، في التركيب، وهنا مكمن تحذير توماشفسكي: «إذا كانت أجزاء العمل سيئة الاتساق، فإن العمل ينحل»( ).
ولربما كان استخدام الكردي لتصنيف التحفيزات ناجماً عن هذه التوفيقية التي لازمت شغله، وهي ليست ناجعة أو نافعة دائماً. ثم عرف بنموذج رولان بارت دون أن يعنى بتطور هذا المنهج من مرحلة لأخرى، ودون أن يتقصى ملابسات تبدل المصطلح أو تغير استعماله، كما هو الحال مع مصطلح «الإنشاء» الملتبس مع مصطلح الشعرية، موضحاً أن بارت قصد «من هذا المستوى الجانب اللغوي في النص، أو نظام الرموز الذي يربط بين قطبي النص الروائي: المنشيء، والمتلقي داخل النص ذاته، فالمنشئ هو الكاتب، لكنه الكاتب الكامن في النص، والمتلقي أيضاً هو أحد العوامل المضمنة في النص، مثله مثل الكاتب أو الشخصيات، ووظيفته هي تلقي خطاب المنشيء والتجاوب معه»( ).
وقد اختار نموذج ليفي شتراوس، ولا يعول عليه عادة في السرديات، ولا يفيد القول إنه يدخل «الأساطير والحكايات الشعبية والقصص في دائرة هذا المجال الأنثروبولوجي، باعتبارها جميعاً من نتاج العقل الجمعي»( )، فليس شتراوس ممن اشتغلوا في علم السرد، بل استفاد من السرديات في شغله الإناسي.
ونلاحظ أن الكردي لا يعتمد في تعريفه للنماذج السردية على مصادرها الأساسية أو نصوصها الأصلية، فقد عرف بجوانب من نموذج تودوروف، على سبيل المثال، اعتماداً على مراجع أخرى مثل «النظرية الأدبية المعاصرة» (1991 بالعربية) لرامان سلدن، و«نظرية البنائية في النقد الأدبي» (1977) لصلاح فضل. ويؤثر الكردي الاختزال الذي لا يفي بالغرض أحياناً، كما في عرضه لنموذج جيرار جينيت.
واستخدم الكردي مصطلح الأسلوبية الحديثة لدى تفحصه لتأثير اللغويات على تحليل النص الروائي، معتمداً على إنجازات النقد الانجلوسكسوني، التي لطالما أهملها النقاد والباحثون ذوو المرجعية النقدية الفرنسية، ومن أصحاب هذه الإنجازات ريتشاردز I. A. Richards، وكان تحدث عن الوظائف بوصفها طاقات كامنة في اللغة، تمكن المتحدث من استخدام الشيفرة اللغوية في نقل أفكاره وأحاسيسه ومشاعره إلى الآخرين، ولعل أقدم محاولة لتقسيم اللغة إلى وظائف تنسب إليه، وهذه الوظائف هي المعنى sense (لعله يريد المغزى أو الغرض) والشعور Feeling والنغمة Tone والقصد Intention، وتطورت هذه الوظائف عند بوهلر Buhler إلى وظيفتين، إحداهما لغة المشاعر والثانية لغة الأفكار، وعند جاكوبسون إلى ست وظائف هي: الوظيفة المرجعية Referential والوظيفة الانفعالية Emotive والوظيفة الطلبية Conative والوظيفة التواصلية Phatic والوظيفة الشعرية Poetic ووظيفة التعدية **** linguistic، وعند هاليداي الذي حصرها في ثلاث وظائف هي: الوظيفة الفكرية أي الوظيفة المتعلقة بالتجربة والخبرة Ideational، والوظيفة التواصلية Interpersonal، والوظيفة النصية ****ual، وعند جيليان براون وجورج بيل اللذين حصرا الوظائف اللغوية في اثنتين هما الحاملة أو الناقلة Trans Actional والمتفاعلة Inter Actional.
إن هذا التطور الأسلوبي واللغوي في فهم الوظائف وتحديدها كان أساس الاشتغال عليها في علم السرد. ونلاحظ أن الكردي أيضاً عمد إلى إغفال مراجعه غالباً في مبحثه الثاني عن السرد الروائي، ونذكر مثالاً لذلك ما أورده من تصنيفات متعددة للراوي وموقعه، ومنها تقنية العاكس Reflection، فقد حللها، وبين حالاتها استناداً إلى آراء كثيرة لا نعرف مصدرها، وإن توشحت هذه الآراء بمناقشته الواعي واستبصاراته الحاذقة، كما في خلاصة حديثه عن هذه التقنية: «إن ظهور تقنية العكس في الرواية المعاصرة تعد قفزة بأسلوب الرواية كله من النمط التقريري الإخباري الأحادي الرؤية، إلى ناحية العرض الموضوعي القريب من العرض الدرامي.. ولذلك فإن الروايات التي اعتمدت على تقنية المرايا كبحث عن جماع الراوي، وجعلته مجرد مرآة كبيرة يجتمع في ساحتها شتات الصور المتناثرة على صفحات المرايا المتكسرة والمقعرة والمحدبة، بل جردته من التسلح بأسلحة الوعي والتقنين القائمة على العقائد والأيديولوجيات، وحصرته في مجال الإدراك الحسي أو العقلي للصور المباشرة أو المعكوسة، وفي أحيان أخرى حملته رؤية سوية محايدة، تكون بمثابة المعيار الذي تقوم به سائر الرؤى»( ).
ويكاد الكردي ينفرد بين النقاد والباحثين العرب الذين عنوا بالاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، في حديثه التفصيلي عن استحضار الأفعال والأزمان والصفات والأماكن والأحاديث والتأملات والأفكار، ونورد مثالاً لذلك تصنيفه لاستحضار التأملات أو الأفكار:
الأسلوب المباشر.
الأسلوب غير المباشر.
التقرير السردي.
الأسلوب الحر غير المباشر.
الأسلوب الحر المباشر.
ثمة التباس واضح في هذا التصنيف. فهو لا يعرف بعناصر تصنيفه تعريفاً نظرياً فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تطبيقه على روايات عربية، كمثل قوله عن النمط الرابع من هذا التصنيف: «يأتي هذا الأسلوب بكثرة مختلطاً بالتقارير السردية لأفعال الفكر، وهو أسلوب شائع في الروايات المعاصرة، وبخاصة في الروايات السيكولوجية التي اعتمدت على تصوير العالم الروائي كله من خلال ارتسامه على العقل الباطني لواحدة من الشخصيات»( )، ثم يعالج تعرجات هذا النمط وتلويناته على رواية «قصر الشوق» لنجيب محفوظ.
واختتم الكردي دراسته النظرية للسرد الروائي بإضاءة مفهوم التوليف أو الأسلبة Stylisation باعتبار الرواية شكلاً أسلوبياً توليفياً، وينشأ هذا الأسلوب عن تعدد القوالب الأدبية المستخدمة في السرد، أو عن تعدد الأصوات واللهجات. واستعان بشرح هذا الأسلوب بباختين في كتابه «الخطاب الروائي» (بالعربية 1987)، وأكمل جهده بوضع مقياس لتحليل نص سردي اهتدى إليه من هذه الدراسة النظرية، وهو مقياس قابل للتطبيق اختبره في دراسته التطبيقية مما يجعل من كتابه نافعاً في اختبارات المثاقفة، وعضد ذلك بإذكاء محاولته لصوغ رؤية نقدية عربية في السرد، تستفيد من علم السرد بمختلف اتجاهاته الجديدة، ودون أن تتنكر للتراث النقدي العالمي في فهم القص والرواية، ولا سيما النقد الانجلوسكسوني الذي أهمل لدى المشتغلين باللغة الفرنسية وبمناهج أعلامها. وهذا ما جعله مقياسه يصمد للاختبارات بقوله:
«على وجه الإجمال، فإن الباحث يستطيع عن طريق هذه الوسائل الثلاث، «الابتداع والتكرار والإحصاء» أن يرصد الظواهر السردية في أية رواية، بكل مستويات السرد، كما يمكنه أن يقدم وصفاً مقنناً قريباً من الضبط العلمي لأحجام هذه الظواهر، وبذلك يمكن فهم النص والاستمتاع به فهماً واستمتاعاً قائمين على القبول والقناعة والفهم، وليس على التغرير والانبهار والاستسلام»( ).
ولابدّ من ذكر الملاحظات التالية:
- اعتمد الكردي على جهود سابقيه ممن اشتغلوا على هذه الاتجاهات الجديدة أمثال سيزا قاسم وسعيد يقطين ويمنى العيد وسواهم.
- يحتاج الكتاب، مثل غالبية النقد النظري الجديد إلى تدقيق المصطلحات لوفرتها وتعدد استعمالاتها، كما هو الحال مع مصطلح التحفيز Motivation الذي ذكر له معنى آخر هو التغريب، بينما التغريب مصطلح يفيد كسر الإيهام، وقد صار ملازماً للاستخدام البريختي في المسرح.
11ـ بروز النظريات الشكلية:
ومن الواضح، أن غريماس يحتل مكانة كبيرة في علم السرد، فقد ندر أن وجدنا باحثاً أو ناقداً عربياًممن نظروا للسرديات، أو أخذوا باتجاهات النقد الجديدة للقصة والرواية، لم يعتمد في مرجعيته غريماس ونظريته السردية. وعندما افتتحت «الدار العربية للكتاب» على مشارف التسعينيات، سلسلة نقدية بعنوان «مساءلات»، نشرت كتاباً لمحمد الناصر العجيمي (تونس) حمل عنوان «في الخطاب السردي: نظرية قريماس» (1993).
قرر العجيمي في مشكلية دراسته «أن هذه النظرية لم تصادف من نفوس الدارسين العرب هوى، فلم يتوفر على دراستها وتقديمها إلا عدد محدود منهم حتى ليداخلنا شعور بأننا نطرق أرضاً بكراً»( )، ومثل هذا الشعور يجافي الواقع، فقد لاحظنا أن غريماس ونظريته الأكثر وروداً في مرجعية الآخذين بالاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية، ويعزز ذلك قلة إطلاع العجمي على الكتب والدراسات المعنية بالموضوع، فقد ذكر دراسة واحدة عن القصة هي «مدخل إلى نظرية القصة» لسمير المرزوقي (وغفل عن اسم جميل شاكر الذي شاركه التأليف)، ودراسة واحدة في المفهوم لأمينة رشيد، وأربع دراسات في المسرح لسامية أسعد وهدى وصفي وماري زيادة، ولا شك أن ذلك انعكس سلباً على تعريف العجمي بهذه النظرية، فهو مسبوق بجهود علمية سابقة تعريفاً نظرياً أو تطبيقياً أو ممارستهما لدى باحثين ونقاد كثيرين. إذن يستفاد من هذا الكتاب أن باحثاً آخر يضاف إلى قائمة الباحثين المعجبين بهذا الناقد المنظر.
أوضح العجيمي أن غريماس لم يؤلف دراسة تستوعب نظرة تأليفية جامعة جهازاً نظرياً يتيح للدارس مرجعاً ميسور التناول، فعرف بمؤلفاته الأهم بإيجاز، وهي:
1- البنيوية الدلالية (1966).
2- في المعنى (1970).
3- العوامل والقائمون بفعل والصور (1973).
4- مسألة من مسائل الدلالة السردية: الموضوعات ذات القيمة (1973).
وأشار في ملاحظات ثانية إلى جملة من الدراسات المتبنية منهجه تنظيراً أو تطبيقاً أو المتوخية طرفاً من التحليل أكثر وضوحاً، وجميعها باللغة الفرنسية. ولاحظ أيضاً اختلافاً بين هذه الدراسات، على اتفاقها بالمنهج، ومنها الاختلاف على سبيل المثال، في واحد من «أقل المفاهيم إثارة للجدل، وهو الفاعل الذي يصنف عند جميع الدارسين ضمن المحور السردي في المستوى السطحي باعتباره وحدة تركيبية نحوية لاحظنا مع ذلك أنه لا يكتسب صفته تلك إلا بتحميله دلالة الفاعلية الكامنة في المستوى العميق»( ).
وثمة اختلافات في دلالات مصطلحات أخرى مثل «المكون التصويري» و«المؤتي»، ومرد ذلك أن لدى غريماس حشداً من المصطلحات بالغ الوفرة على نحو لا نكاد نجد له نظيراً في المناهج النقدية الحديثة. وحدد أسس عمله بالوضوح والأمانة العلمية، وأنه لن يعرض إلا ما حصل بشأنه إجماع أو شبه إجماع، والانطلاق من الأفكار الأقل تشعباً إلى الأكثر تشعباً، واستعمال المعرب من مصطلحاته مع إعادة النظر فيه وتعديله.
عرف العجيمي بعلم الدلالة بالقدر الذي يسمح بوضع نظرية غريماس في إطارها المعرفي العام. فقد أسس هذا العلم «الألسنيون الذين يركزون على الدال مقصين المدلول من مجال اهتمامهم باعتباره غير قابل للتقسيم وفق الوحدات المميزة»( ). وذكر أن علم الدلالة شامل لعلوم إنسانية، وأن العلاماتية أشمل من اللسانية، ودو سوسور يؤكد أن الألسنية ليست سوى فرع من فروع العلامات العام، بينما يخالفه بارت الرأي، وأن وظيفة علم الدلالة في إبراز حركية الدلالة وإعادة بنائها. وخلص إلى فرضيتين، الفرضية الأولى التي تنتهي الدلالية إلى إفرازها هي أن الدلالة مثلها مثل اللغة شكل وليست مادة، والفرضية التابعة لها والمتفرعة عنها هي أن الدلالة خاضعة ـ قياساً على اللغة كذلك ـ إلى نظام( ).
وأوضح العجيمي أن الدراسة الدلالية عند غريماس تقوم على مبدأين: أولهما الاستقراء الذي يرمي إلى الإحاطة بالواقع الموصوف، وثانيهما التحليل الذي يقتضي الوفاء للمثال النموذجي المنسحب على مكونات المدونة. أما وسيلة الدلالية فهي تفجير الخطاب وتفكيك الوحدات المكونة له ثم إعادة بنائها وفق جهاز نظري متسق التأليف. وأضاف أن الدراسة الدلالية «تلتزم النص وتتقيد به، ذلك أن الغاية المستهدفة من الدراسة هي إبراز آلية النص في خلق المعنى وتبليغ صداه»( ).
وتستكمل الدراسة الدلالية في مستويين:
1- مستوى سطحي، ينشعب إلى مكونين:
- مكون سردي: ويقوم أساساً على تتبع سلسلة التغييرات الطارئة على حالة الفواعل.
- ومكون تصويري أوبياني: ومجاله استخراج الأنظمة الصورية المبثوثة على نسيج النص ومساحته.
2- ومستوى عميق: ويختص بدراسة البنية العميقة استناداً إلى نظام الوحدات المعنوية الصغرى.
وعمد العجيمي إلى التعريف بنظرية غريماس من نصوصه، فعرف بالسردية التي تقوم على مجموعة من الملفوظات المتتابعة والموظفة المستندات فيها لتشاكل ألسنياً جملة من التصرفات الهادفة إلى تحقيق مشروع. وما يسوغ إرساء قواعد النحو السردي هو وجود آليات ثابتة تحكم المتحولات المتنوعة المتجلية في أنماط السرد المعروفة، وتقوم هذه الآليات على عدد محدود من الطاقات الدافعة المنتظمة في أنسقة معينة يجمع بينها «العوامل».
ثم شرح العجيمي عناصر هذه الآليات ومصطلحاتها، مثل النموذج العاملي من حيث هو نظام ثابت، والفاعل والموضوع، والمؤتى والمؤتى إليه، والمساعد والمعارض، والأنموذج العاملي في حركيته، ومضاعفة المشروع السردي وأنواع الانتقال كالتحويل الاتصالي والتحويل المفضي إلى الانفصال، والهبة والاختبار، وبعض هذه العناصر تطوير لتصنيف بروب وللوظائف التي حددها.
وخلص بعد ذلك إلى نتائج مفادها «أن الخطاب السردي ليس معادلاً للسردية. فلكل من المصطلحين مفهومه وحدوده. يدل الخطاب السردي على النص المقروء في حقيقته المادية من حيث هو نص مكتوب، بلغة معينة وتستغرق قراءته وقتاً معلوماً كما تخضع لترتيب زماني خطي. أما السردية فتحيل على النقيض من ذلك على ضرب معين من القراءة وطريقة خاصة في وصف المادة وتنظيمها، أي إعادة كتابتها انطلاقاً من فرضية مؤداها أن المعنى ليس معطى قبلياً، إنما يستخلص من فنون التآلف والاختلاف والتقابل القائمة بين الوحدات التركيبية العاملية والتحولات المتتابعة في المحور السياقي. ولا تختص السردية بالخطاب الأدبي دون سواه، بل يجوز تطبيق مقولاتها على نصوص غير موسومة أدبياً كالنصوص الحضارية الفكرية والسياسية والقانونية»( ).
ويتصل المكون التصويري بالمفردات المعجمية والصورة وبالغرض والدور الغرض، وبالقائم بالفعل. بينما تتألف البنية العميقة من وحدات دلالية صغرى سماها «المعانم» بمستوياتها المتعددة: المعنم من حيث هو سمة مميزة، والمعانم السياقية، والقطب الدلالي والمربع الدلالي.
حرص العجيمي على التعريف بنظرية غريماس، التي تثير جدلاً ونقاشاً مثيرين، وتجنب توجيه النقد لها، لأنها تستمد أصولها من علم هو «علم الدلالة» الذي اعترف بتكلفه ووفرة توليد مصطلحاته الصعبة. وعدّ من فضائلها «مزية إعادة الاعتبار للنصوص، وتجديد نظرتنا إليها، بإزاحة ما علق بها من ركام هائل من التأويلات التي انتهت في أحيان كثيرة إلى تعويض النص الأصلي النص الفعل، (ولو لم يكن للدلالية إلا هذه المزية) لاستحقت أن تحظى بالاهتمام»( ).
يعبر كتاب العجيمي عن استيعاب نظرية من أعقد نظريات علم السرد، فلطالما استعملت نظرية غريماس أو جوانب منها لدى نقاد الاتجاهات الجديدة المتكونة وباحثيها، وكذلك فعل مؤلف هذا الكتاب حين طبق هذه النظرية في خاتمة كتابه على نص «الأرانب والفيلة» لعبد الله بن المقفع من «كليلة ودمنة»، غير أنه، مثل بقية الباحثين والنقاد، اختزل بعض عناصر النظرية أو بسّطها مما يشير إلى إتصافها بالشكلانية والتشكل الأسلوبي اللساني، تشتيتاً للدلالة، أو ضياعاً لها في خضم التفريعات والترسيمات والتصنيفات اللازمة وغير اللازمة.
12ـ ارتهان للمرجعية الغربية:
شهدت التسعينيات، كما لاحظنا، انتشاراً واسعاً للاتجاهات الجديدة المتكونة لنقد القصة والرواية، وارتهاناً كاملاً أو جزئياً للمرجعية الغربية، اندراجاً في التقليد الغربي المجتلب وتطبيقه تعسفاً، أو جوراً على النصوص العربية.
ومن أمثلة ذلك كتاب عبد الجليل مرتاض (الجزائر) وعنوانه «البنية الزمنية في القص الروائي» (1993)، ودرس فيه مؤلفه القص الروائي من وجهة نظر لسانية. وقد ندب المؤلف نفسه لمعالجة هذا الموضوع لاعتقاده أن ثمة إشكالية قائمة هي إشكالية زمن الخطاب والقراءة، مستفيداً من أبحاث اللسانيين من دوسوسور إلى جيرالد برانس، ولاسيما بحثه في القارئ المتغير (المرسل إليه) الذي يشكل، برأيه، أحد العناصر الأساسية لكل عملية سرد قصصي، علاوة على «أنه لولا القارئ المتغير لما كان القارئ الثابت، وبالتالي، لما كان هناك شيء اسمه إبداع أو شيء آخر، وجدير بهذا القارئ المتغير ميزة أنه يشكل وظيفة أساسية في أي إبداع حتى أن بعض النقدة يرى أننا نكتب دائماً في سبيل أن نقرأ»( ).
ولا يخفى ما في هذا الكلام من اختلاط يحيل الإبداع كله، بل وأي شيء آخر مثل معنى الوجود وأصل الحياة، وما لا أعرف، إلى مفهوم «القارئ المتغير». (يا للعجب!). ولكننا نتابع عرض هذا الكتاب بإيجاز لنتعرف على مدى التأثير الغربي المطلق على بعض الباحثين المأخوذين بهذه الاتجاهات الجديدة، دون درس كاف.
ذكر المؤلف أنه يحلل النصوص، جرياً على عادة الباحث اللساني من حيث دالها ومدلولها ودرساً لأضدادها وتعارض أصواتها وطريقة نطقها مجهورة أو مهموسة، وهو ما سيقوم به مع البنية الزمنية، والوقوف عليها «من خلال الأزمنة المتعددة المتغايرة (ماض، حاضر، مستقبل)، وما يقوم مقام الأزمنة من أدوات أخرى أو سياقات.. الخ، بواسطة عملية الاستبدال، بمعنى أن الزمن الماضي يظهر علاقة استبدال بينه وبين الزمن الحاضر في سياق كلامي حاضر أو ماض أو هما معاً، وبعبارة أخرى يتم هذا التعامل حين نتأكد أو نلاحظ أن العنصر «أ» يظهر علاقة استبدال بينه وبين العنصر «ب» في سياق كلامي «ج»، مثلما ورد في مدونتنا الموضوعة سلفاً للدراسة الزمنية»( ).
واختار لدراسته مجموعة قصص «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» للطاهر وطار. أما مراجعه فهي مزيج من اتجاهات متعددة لرونالد ليوار (من خلال ترجمة كتابه «مدخل إلى اللسانيات»، وقام بالترجمة بدر الدين القاسم (سورية)، وصدر عن جامعة دمشق عام 1980)، وقاسم المقداد وتودوروف وميشال بوتور وسمير المرزوقي وجميل شاكر ورولان بارت وغيرهم، أي أنه يستفيد من البنيوية والشكلانية ونزعات النقد اللغوي الجديد عند اللسانيين وسواهم، كأن يأخذ من تودوروف في مسألة القراءة والتأويل فيما هو قابل للتوظيف أو هو «ناشز» عن السياق، فاسترجع كلام البنيويين السرديين عن الزمن، زمن التاريخ، زمن التخيل، الزمن المحكي، زمن الكتابة أو زمن الخطاب (وسماه أيضاً الزمن الحاكي)، وتؤلف، برأيه، مستويات القراءة الداخلية، وألصق كلمة تودوروف لتدعيم مثل هذه الاختلاطات: «وكل منا يعلم أثناء الممارسات أنه توجد قراءات أكثر وفاء من قراءات أخرى، رغم أنه لا توجد قراءة تامة الوفاء»( ) ثم وضع ترسيمة لزمن القراءة، وشرحها على النحو التالي:
«1- القراءة الداخلية:
زمن التاريخ (أو الزمن المحكي) ـ زمن الكتابة (أو زمن الحكي) ـ زمن القراءة.
2- القراءة الخارجية:
زمن الكاتب  زمن القراءة  الزمن الخارجي.
وما دام عملنا متصلاً بالمجال اللساني التطبيقي، فيمكن أن نصرح بأن القراءة الخارجية أو الزمن الخارجي لا مانع من أن يمثل على المحور الأفقي التركيبي SYNTAGMTIQUE في حين تمثل القراءة الداخلية أو الزمن الداخلي المحوري العمودي PARADIGMATIC الدال على علامات الإبدال»( ).
واتبعها بتوصيفات وترسيمات للوظائف الزمنية، وللنحو الروائي والمسار الزمني، ولتقنية الحركات الزمنية الروائية، ولتنظيم البنية الزمنية والأحداث، ولسرعة السرد الزمني، والقياس الزمني الفونتيكي للنص الزمني، والقياس الزمني بالنسبة للمقاطع المشهدية، وتضارب الزمن الموضوعي، والبنية الزمنية داخل الخطاب. والنتيجة هي تراكم في التحليل لا يستقيم في منهجية واضحة، ولا يؤدي «إلى منهج نقدي لساني صارم»( ) كما أراد.
13ـ هيمنة المؤثرات الأجنبية:
يعبر كتاب سعيد بنكراد (المغرب) «مدخل إلى السيميائيات السردية» (1994) عن ضعف التواصل الثقافي العربي، إذ ينطلق مؤلفه من تقرير واقعة حركة النقد الأدبي العربي الموارة بانشغال مجموعة من العلماء العرب الطليعيين في المشرق والمغرب بالأطر المعرفية والنقدية الجديدة، وهو الواقع الذي انطلق منه صلاح فضل في كتابه السالف الذكر «بلاغة الخطاب وعلم النص» (1992)، ويتشابه هذا التقرير مع مقدمات محمد الناصر العجيمي التي ترى أن ساحة النقدية العربية خلو من الجهود النظرية في ميدان السرديات. وهذا هو بنكراد يجهر بأنه «نادراً ما نعثر على عرض شامل وكامل لنظرية واحدة بحدودها المعرفية وامتدادها داخل الحقول الأخرى». ويسمي ذلك قصوراً، ويعزوه إلى «تلقف» عجول للمعرفة الوافدة، «فغالباً ما تكون هذه المنشورات عبارة عن ترجمة لمقالات أو أجزاء من كتب، وأحياناً تعاليق مختصرة عن نظرية أو مجموعة من النظريات. ورغم أهمية هذه المنشورات وقيمتها العلمية، فإنها تظل ناقصة، ومضللة أحياناً»( ). ومن الواضح، أن بنكراد يطلق الكلام على عواهنه، ربما لعدم إطلاعه، على شغل يمنى العيد أو صلاح فضل أو عبد الرحيم الكردي أو محمد الناصر العجيمي.. الخ، لأن جهده مسبوق أيضاً في التعريف بنظرية غريماس وما بعده، مما يشكل السيميائيات السردية. وهذا مما جعل كتابه تعبيراً عن ضعف التواصل الثقافي العربي، بالنظر إلى جدية الشغل والرغبة في تأسيس معرفي نقدي للمناهج الجديدة.
وبطبيعة الحال، يظل هذا الجهد نافعاً لو أخذناه مفرداً، توكيداً للقطيعة المعرفية التي يمارسها مع التقليد النقدي العربي، لأنه قائم على الانبهار المطلق، مثل باحثين ونقاد كثر، بنظرية غريماس، إلى حد الاستسلام لمصطلحها ولآلياتها واستهدافاتها. وقد فعل بنكراد ما فعله العجيمي، عارضاً «نظرية واحدة هي نظرية غريماس بأكبر قدر من الشمولية والوضوح معتمدين في المقام الأول على أعمال صاحب هذه النظرية، وعلى بعض الأعمال الشارحة لهذه النظرية في المقام الأول»( ). بيد أن جهد بنكراد، يضيف إلى عرض النظرية تدقيقاً للتراث البروبي وللنماذج المستمدة منه، لأنه حاضنة هذه النظرية «الكريماصية» حسب تعريبه (عرّبها العجيمي قريماس).
تتميز نظرية كريماص عند بنكراد عن باقي النظريات الأخرى في المجال السردي بخاصية أساسية يمكن تحديدها في صيغة بسيطة: مشكلة المعنى أولاً، وبشموليتها في التصور والتحليل ثانياً، والشمولية هنا لا تعني إلغاء التاريخ، لأنها محكومة كأي أثر معرفي بالزمنية الإنسانية، ولا تعني إلغاء النظريات الأخرى، إذ لا وجود لنظرية تقدم نفسها بديلاً لنظريات أخرى، وتتميز ثالثاً بقدرتها نظرياً وتطبيقياً على معانقة خطابات أخرى غير الخطاب السردي، فعلى الرغم من أن المنطلق الرئيس في مسيرة كريماص كان هو الحكاية الشعبية أو النص السردي بصفةعامة، فإن نظريته تستخدم أيضاً كأداة لمقاربة ظواهر نصية بالغة التنوع مثل النصوص القانونية والظواهر الاجتماعية والخطابات السياسية. وتتأسس نظرية كريماص على التراث البروبي بوصفه انعطافة هامة في علم السرد، مما دعا بنكراد إلى التمعن في صنيع بروب، فعرض تصنيفه، وأوجز فرضياته حول الحوافز والعناصر والوظائف والأفعال. ولم يغفل عن ذكر القراءات الناقدة للمشروع البروبي، ولا سيما قراءة كلود ليفي شتراوس التي انصبت على الشكلانية، «فالفصل بين المستوى التوزيعي Axe Syntagmatiqe والمستوى الاستبدالي Axe Paradigmatique هو الذي قاد بروب إلى الفصل بين المضمون والشكل، والشكل وحده، حسب بروب، قابل للإدراك، أما المضمون فلا يشكل سوى عنصر زائد، ولا يملك أية قيمة دلالية»( ). مثلما تنصب قراءة شتراوس «في مرحلة ثانية على الوظائف نفسها، أي نمط اشتغالها وعددها وتتابعها. فإذا كانت العناصر المتحولة في التحليل البروبي، هي ما يشكل كنه الحكاية عند شتراوس. فإن الوظائف في تتابعها وعددها قابلة لأن يعاد فيها النظر، فاستناداً إلى تقاطع التوزيعي مع الاستبدالي، وإمكانية إسقاط المحور الأول على الثاني، يمكن تقليص عدد الوظائف، ما دام عدد كبير من هذه الوظائف قابلاً للمزاوجة». ويهدف شتراوس بهذا التقليص إلى «تكسير التتابع ـ إحدى الفرضيات التي قام المشروع البروبي عليها ـ وبالتالي رفض التعريف الذي يعطيه بروب للحكاية باعتبارها تتابعاً لواحد وثلاثين وظيفة، وهذا التكسير هو ضرب للبعد الكرونولوجي للحكاية. وتلك كانت نقطة الانطلاق في قراءة كريماص للمشروع البروبي»( ).
واستند بنكراد في عرض هذه القراءة على كلود زلبرياغ C. Zilberbeg. وتابع عرضه للسرديات بعد بروب، الذي استطاع تحويل اتجاه السرديات نحو الاهتمام بما يشكل العنصر المميز للنص السردي، أي نحو البحث عن معنى الحكي في ما يجعل من كل عناصر النص عناصر متماسكة داخل كل بنيوي تام، وهو ما ترسخ وحفر مجراه في علم السرد مع انطلاقة جديدة قام بها كريماص بإصدار كتابه الأول عام 1966 «الدلالة البنيوية»، فأضيف اللسانيات إلى الإرث الشكلاني، لتصبح السرديات أكثر تطوراً وتماسكاً. وقد حدد أهم المحاور التي تشكل العمود الفقري للتصور الكريماصي، فيما يلي:
1- التنظيم العميق Organization، إذ ترد السيميائيات السردية إلى أصول متنوعة يمكن تحديدها في المنابع التالية:
- الإرث اللساني السوسيري.
- مدرسة براغ.
- أعمال برونديل وهلمسليف.
- تراث الشكلانيين الروس وخاصة بروب.
- الإرث الفرنسي (تنيير وسوريو).
2- التنظيم السطحي: وتبدو فيه البنيات السيميائية السردية المشكلة للمستوى الأكثر تجريداً، في حدود كونها محفلاً أولياً داخل المسار التوليدي، على شكل نحو سيميائي وسردي، ومن ثم فإنها تحتوي على مكونين: مكون تركيبي، ومكون دلالي. وتستدعي البنيات العاملية النظر من زاويتين هما الزاوية الأولى وتحدد النموذج العاملي كنسق، وتحدد الزاوية الثانية هذا النموذج كإجراء. لا شك، إن عرض نظرية كريماص ونقدها غير متيسر في صفحات قليلة، وما فعله بنكراد هو عرض يميل إلى الإيجاز والاقتصار على بعض العناصر. ومن هذه الناحية، يعد شغل العجيمي أشمل، وأكثر مقاربة، لأنه ألحقه بنقد تطبيقي، وهو الأمر الذي نشده بنكراد ولم يقم به، على أهميته، في «مدنا بمعرفة أكبر لهذه النظرية، وعلى تحديد مردوديتها وقصورها ومواقع ضعفها»( ).
وتطرح هذه الدراسة، مثل مثيلتها، هيمنة المؤثرات الأجنبية على الممارسة النقدية التي تتوسم الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، في التفكير الأدبي برمته، على سبيل الترجمة، لا التعريب، وهذا جلي في الاختلاف البين في نقل هذه المناهج الحديثة، سواء في التركيب أو المصطلح أو التوصيف.
14ـ استواء المؤثرات الأجنبية:
نسترد مع محمد القاضي (تونس) في كتابه «تحليل النص السردي» (1997) اللغة الناصعة المشرقة الدقيقة والوظيفية في محمولها الاصطلاحي والمنهجي والمعرفي، تلك اللغة التي عرفناها عند صلاح فضل وشيوخ النقد وأساتذته الآخرين أمثال حسام الخطيب وجابر عصفور وفاروق عبد القادر وغيرهم، فهذا الكتاب إشارة لاستواء المؤثرات الأجنبية في الحركة النقدية العربية الحديثة، فلا جور ولا استعلاء ولا استغراب، فقد استطاع القاضي أن يقدم نموذجاً ساطعاً للناقد العربي الحديث في لحظة وعي فارقة بالهوية، موقفاً واضحاً وصريحاً من المؤثرات الأجنبية، ومنها المناهج الحديثة.
وتكمن مزية القاضي أنه وضع المناهج الحديثة بمصطلحها وبإجرائها النقدي المعقد في لغة عربية نقدية صافية تدعو إلى الإعجاب دون حذلقة أو فذلكة، معرباً وفق استجابات نقدية شديدة الوضوح في بيان عربي فصيح، لا مترجماً ينقل المعارف ويراكمها على سبيل الإعجاب أو الانبهار، مجتهداً في تعريبه بما ينفع في تطوير مناهج نقدية عربية حديثة، لأنه يعول على الممارسة النقدية المستهدية باستيعاب معرفي يصير إلى نسيج هذه الممارسة، فهو يؤمن «أن التحليل يتجاوز دائماً المنهج، فبقدر ما يفتح المنهج آفاقاً للقراءة، تسهم القراءة في تطوير المنهج وزحزحته عن «مواقعه» التقليدية، لأن في المنهج الكثير من ثبات المؤسسة ووقار السنة، أما القراءة ففيها حرارة الكشف وألق الدهشة. ولذلك عدت القراءة المولدة كتابة للنص الجديد، ولذلك أيضاً كانت القراءة الحقيقية عملاً لا يعاد ولا يستعاد»( ).
إن القاضي يصدر عن رؤية للتعامل مع هذه المناهج الحديثة، فلم يشرحها لمجرد التعريف، بل للتمحيص بغية تثميرها، ولهذا لم يجعل التطبيق صدى للتنظير، ولم يلتزم «بتطبيق المناهج بحذافيرها تطبيقاً آلياً، وإنما توخيت طريقاً وسطاً، فحللت كل نص من حيث مكوناته: أعمالاً وفواصل، ومن حيث هو صياغة قولية أي خطاب، وختمت بإدراجه في سياق تاريخي، فتتبعت دلالاته ومختلف الصلات التي تنشأ بينه وبين الأنساق المحيطة به آن إبداعه، أو آن قراءته»( ).
كان المنهج الشكلاني هو قاعدة علم السرد، عند القاضي، فدرس نشأة هذا الاتجاه، ومراحل تكونه، وانتقال أصحابه من الشكل، إلى التطلع إلى علم للأدب مستقل أساسه المقومات التي تنفرد بها المادة الأدبية، وعماده الوعي النظري والتاريخي للظواهر المتصلة بالفن الأدبي في ذاته. فليس الأدب موضوع علم الأدب، إنما هو الأدبية، أي ما يجعل من أثر ما أثراً أدبياً، وليست الأفكار موطن الأهمية في الأدب، وإنما هي الوقائع التعبيرية. وهكذا، اتجاه الشكلانيون إلى تحليل عناصر العمل، وفرقوا بين الخبر أو القصة fable والبناء sujet، ثم فرقوا بين القصة والرواية، ذلك أن الرواية تقوم على ثلاث مراحل: تمهيد فتأزم فانعراج، أما الأقصوصة فنهايتها التأزم. وميزوا بين العمل وصاحبه، فليس الأثر انعكاساً لتجربة صاحبه النفسية، ولا يمكنه البتة أن يكون كذلك.
ولاحظ القاضي، مثل الكثيرين، أن بروب هو الذي أفرد لمعالجة النصوص السردية مؤلفاً كاملاً استطاع به أن يغير مسار الدراسات السردية وهو علم بنية الخرافة» (وربما كانت هذه الترجمة أكثر الترجمات توفيقاً). فشرح عمل بروب وتطور أبحاثه من السرد إلى السيميائية السردية.
ثم عرف القاضي بالمنهج الإنشائي La Poetique (وهو تعريبها بتونس، بينما تعرب في المشرق العربي والمغرب الأقصى الشعرية)، وترتد اللفظة بأصولها إلى اليونانية، فلا عجب أن تتخذ معاني مختلفة بحسب العصور والسياقات.
وتابع القاضي رحلة المصطلح ومحاولات تشكله في نظرية أدبية من أرسطو إلى هوراس Horace وبوالو Boileau وسكاليغار Scaliger وكاستيلفيترو Castelvetro وفيلهلم شليغل Wilhelm Schlegel وفردريك شليغل، ونوفاليس Novalis وهولدرلين Holderlin، وكولريدج Coleridge، إلى القرن العشرين حيث تستوي الإنشائية مبحثاً نظرياً مستقلاً. وقد تجلى ذلك في حركات أربع ظهرت في بلدان مختلفة:
1- الشكلانية الروسية، وتكمن أهميتها في انصراف أصحابها إلى البحث فيما به يكون الأثر أدبياً، وهو الأدبية، فلم يعيروا الآثار كل اهتمامهم، وإنما انشغلوا بالكشف عن البنى السردية والسمات الأسلوبية، والبنى الصوتية، وإن لم يغضوا الطرف عن التطور الأدبي وصلة الأدب بالمجتمع.
2- مدرسة علم البنية lecole morphologique بألمانيا، وقد نشطت بين سنتي 1935 و1955، وكان همهم منصباً على وصف الأجناس والأشكال التي يرد فيها الخطاب الأدبي، أكثر من انصبابه علىوصف «أسلوب» كاتب مخصوص.
3- النقد الجديد New criticism: إن القسم الأكبر من النقد الانجلوسكسوني ـ بما فيه النقد الجديد ـ معاد لكل نظرية، ومن ثم فإنه معاد للإنشائية، مقبل كل الإقبال على تأويل النصوص. ولكن منذ العقد الثاني من هذا القرن ظهرت دراسات تتعلق بعمل المعنى في الأدب على نحو ما نرى في أبحاث ريتشاردز Richards وامبسون Empson، وبمسألة الراوي في القصة، وقد اهتم بها خاصة لبوك Lubbook. وبعد ذلك انكب القوم على دراسة الصورة الشعرية. وقد كان كتاب ويليك Welleck ووارن Warren الموسوم بـ «النظرية الأدبية» حصيلة تيارين، هما الشكلانية الروسية والنقد الجديد.
4- التحليل البنيوي Annlyse structurale: وقد ظهرت في محاولاته الأولى في الستينيات متأثرة بالبنيوية في علم الإناسة واللسانيات، وباتجاه فلسفي أدبي يمثله موريس بلانشو Maurice Blancho. وقد دفعت إلى هذا الاهتمام الجدير بالإنشائية دوافع شتى من أهمها انتشار اللسانيات الحديثة، وظهور التحليل البنيوي للأسطورة، وترجمة نصوص الشكلانيين الروس إلى الفرنسية.
ومضى القاضي إلى تعريف الإنشائية على أنها «كل نظرية للأدب داخلية. ومن ثم فإن مقصدها إقامة مقولات نستطيع بها أن نتبين وحدة كل الآثار الأدبية وتنوعها»( ).
ينظر المنهج الإنشائي في النص السردي عند القاضي من زاويتين: باعتباره مجموعة من العناصر (أحداث ـ شخصيات ـ إطار مكاني ـ إطار زماني)، أصطلح عليها باسم الخبر Histoire، وهو مفهوم قريب مما سما الشكلانيون القصة Fable، وباعتباره تنضيداً لتلك العناصر على نحو مخصوص يختلف باختلاف أعوان السرد والرؤية، وسمي هذا المستوى بالخطاب Discours، وهو قريب مما أطلق عليه الشكلانيون اسم البناء أو الحبكة Sujet. واختار القاضي علمين من أعلام الإنشائية هما بارت، وتودوروف في مستوى الخبر، وتودوروف في مستوى الخطاب، وحذا فيه حذو جونات (يقصد جينيت).
وانتقد القاضي بارت لدى حديثه عن نظام القصة الذي يختلط بمعاني تعدد الدلالات Ploysemie، ويوجز انتقاده «بأن الروح التي تحرك هذا المقال أقوى من الجهاز الذي أفرزه». ويميز القاضي بين منهج بارت ومنهج تودوروف، فقد سعى الأخير إلى «تقديم نموذج شامل لتحليل النصوص السردية حاول فيه أن يستخرج مقولات القص الأدبي». من خلال مفهومي المعنى والتأويل، ويقول تودوروف: «إن وصف الأثر يهدف إلى استخراج معنى العناصر الأدبية، أما النقد فغايته تأويل تلك العناصر» ( ).
بين القاضي أن الفصل بين الخبر والخطاب منهجي بحت، وشرح مستويي الخبر: منطق الأعمال والشخصيات وعلاقاتها، وركز على درس القصة من حيث هي خطاب عند تودوروف الذي يهتم في هذا المستوى بالقصة من حيث هي كلام يرسله الراوي إلى القارئ، ويصنف القضايا في ثلاثة أصناف:
زمن القص: ويعالج الصلة بين زمنية الخبر وزمنية الخطاب.
أنماط الرؤية: ويتساءل فيه عن الطريقة التي يدرك بها الراوي الخبر.
أساليب القص: وهي تتعلق بنمط الخطاب الذي يتوخاه الراوي ليعلمنا الخبر.
ويلفت القاضي إلى أن تودوروف ينسج في مسألة الزمن على منوال جيرار جينيت في تحليله الذي أورده في كتابه «وجوه 3» في القسم الموسوم بـ«خطاب القصة». وقضايا هذا المستوى هي الترتيب والمدة والتواتر، وكنا عرضنا لها في كتب سابقة، ومثلها أنماط الرؤية وأساليب القص. غير أن الحس النقدي للقاضي حاضر على الدوام، فقد وضع الإنشائية في سياقها التاريخي والمعرفي والنقدي، حين رأى «أن الإنشائية تميزت عن الشكلانية بالوعي النظري الصريح لموضوع البحث ومنهجيته. ومن ثم فإن وصف الظاهرة السردية جاء عند الإنشائيين أكثر وضوحاً وتماسكاً وشمولاً وانتظاماً مما كان عند أسلافهم. وربما كان هذا من أهم الأسباب التي أتاحت للمنهج الإنشائي الرواج، وحققت لمقولاته الرئيسية التمكن في مجال تحليل النصوص السردية»( ).
وثالث المناهج التي عالجها القاضي هو «المنهج النصاني»، فاحترز في بداءة حديثه من أمرين، أولهما أن إطلاق اسم «المنهج» عليها هو من باب التجوز، فبارت (الصاحب الأهم لهذه الطريقة)، لم يهتم بضبط الخصائص البنائية للأثر بقدر ما انكب على قراءة له حاول أن يبين منطلقاتها ومصطلحاتها، وهي قراءة تسعى إلى تفجير النص، لا إلى ردّه إلى بنية مخصوصة واختزاله فيها. وثانيهما أن بارت لم يتوخ في عمله هذا أسلوباً «علمياً»، وإنما صاغه في لغة تكاد تكون شعرية، في كتابه «س/ز» S/Z، ومنه أخذ القاضي تعريف النصانية. وتقع هذه الطريقة في صلب بنيويته، وما استلزمته من مزايا القراءة التي آلت إلى مناهج ما بعد البنيوية.
أحال بارت قيمة النص إلى ممارسته، لا إلى العلم أو الأيديولوجيا، لأن القيمة الأيديولوجية لنص ما هي قيمة تمثيل لا إنتاج، وهو ما يبيح للقارئ الخروج من الكسل والسلبية والجد إلى ضرب من اللعب والاندراج في فتنة الدال وشهوة الكتابة. ويتحقق ذلك للقارئ بالتأويل، ولا يعني هذا المصطلح أن يغطي نصاً معنى، بل تعني أن نتنبه إلى أنه نص جمع، أي متعدد الشبكات، هو بعبارة بارت مجرة من الدوال، لا بنية من المداليل.
ويضاعف هذا أهمية القراءة المستمرة نظراً لتعدد الأنظمة، ولاتصال القراءة بالنسيان، «فلست أقرأ إلا لأنني أنسى». وهكذا، ينفتح الباب على مصراعيه لعلم النص، «فالنص الواحد ليس طريقاً تجوز منها إلى نموذج Modele، وإنما هو مدخل لشبكة لها ألف باب»( )، وعلى دأبه، لا يبالغ القاضي في قيمة هذه المناهج أو الطرائق كما في رأيه في النصانية التي تعتمد على القراءة: ففي «هذه القراءة ـ أو القراءات ـ لا يبحث بارت عن أجوبة نهائية بقدر ما يريد أن يؤكد أن هذه الأقصوصة نص جمع، وأن القراءة يمكن أن تكون عملاً إبداعياً يفوق من بعض النواحي عمل الكتابة نفسها»( ).
إن شغل القاضي النظري متميز في وعي الناقد العربي لذاته، إذ استوت في ممارسته النقدية المؤثرات الأجنبية لتصبح مقوماً من مقومات الاتجاهات الجديدة، على أنها عنصر تحديث يدعم أبحاث الهوية، بخصائصها المعرفية والنقدية واللغوية. ويتجلى ذلك أيضاً في تطبيقه.
تغدو المثاقفة في نقد القاضي إدغاماً لوعي الآخر في وعي الذات، مثلما يسهم في تطوير النقد العربي الحديث بموقفه النقدي الواضح من المناهج الحديثة. حلل في تطبيقه أربعة نصوص سردية هي «مثل الأسود وملك الضفادع» لابن المقفع، وخبر «محبوبة جارية المتوكل» للنويري إشارة لدراسته المطولة عن الخبر في التراث السردي العربي، و«المقامة الخمرية» للهمذاني، وأقصوصة «الرحلة» ليوسف إدريس. ويتصف موقفه النقدي بأنه لا يستغرق في متاهة الشكليات وتعسف التصنيفات، مؤثراً التدرج في فهم المصطلح في حاضنته التاريخية وتشكلاته المعرفية والنقدية وصولاً إلى البعد الدلالي. ويوضح القاضي مستوى الخطاب وبقية المصطلحات المعقدة دون إدعاء أو تعقيد، ومرد ذلك إلى هضمها وتمثلها وانتظامها بقلمه إلى مدى الحاجة إليها واستجابتها للأجهزة النقدية العربية، ويعتمد على النصوص الأصلية المنقودة لأصحابها، ملتفتاً عن المراجع غير الوظيفية، فهو يدقق في مرجعيته ومراجعه مما يؤكد البعد الدلالي. وضع القاضي كتاباً مختزلاً، ولكنه عميم الفائدة، يصير فيه النقد إلى فعاليته المعرفية والنقدية. ولعلنا نعود إلى تطبيقه النقدي لاحقاً.
15ـ ظلال التأثير الأجنبي المستمرة:
تبدو صورة النقد النظري المتأثر بالاتجاهات الجديدة مهيمنة على الممارسة النقدية في بعض البيئات الثقافية والأدبية العربية كالمغرب وتونس والعراق ومصر والأردن إلى حد كبير، وبعض الأقطار العربية الأخرى إلى حد أقل. وثمة جهود نقدية كثيرة منها تدغم هذا التأثير الأجنبي في عمليات استيعاء ذاتية، أشرنا إلى عدد منها، وثمة جهود أخرى تستظل بظلال هذا التأثير الأجنبي، وتكاد تكون منقطعة عن موروثها النقدي وأنساقه الثقافية، كما هو الحال مع شعيب حليفي (المغرب) في كتابه الهام والممتع والمبتكر «شعرية الرواية الفانتاستيكية» (1997) ( ).
وجد حليفي الرواية مؤلفاً للتخييل، بالإضافة إلى كونها موقفاً فكرياً وثقافياً وفنياً واجتماعياً، وخلاصة مواقف تتشرب أصوات عصرها، فرصد أربع بنى أساسية اهتمت بها الرواية العربية، وهي تنظر إلى الواقع مرتادة دهليزه المظلمة، وإلى الإنسان، مكسرة الحواجز الوهمية حتى تخترق لا شعوره، فتسائل أحلامه وكوابيسه:
1- تجسير الفجوة ـ في الخطاب الروائي ـ بين ما هو عاطفي واجتماعي، أي بمعالجة قاسية ومتفردة للأحلام الناعمة للفرد، داخل شروط اجتماعية تحكم العلاقات العامة والخاصة.
2- الاهتمام بالشعور الباطني ـ اللاوعي في الإنسان، عن طريق استبطان أحلامه بالتأمل ورسم التعقيدات النفسية، وما تولده من كوابيس، وعقد نفسية وهلوسات.
3- العمل على تطويع مكونات الخطاب الروائي، من أدوات سردية متنوعة، وأوصاف تبئيرية تتقصد الهامشي المخبوء، واستنطاق المسكوت عنه في فضاءات موبوءة تتفاعل وسط زمان يعتبر هو الحامل لسيرورة المرارة عند الكائن العربي، مثلما كان، والاهتمام باللغة وتطويعها حتى تنبض بالشيء الذي تحكي عنه، في إطار علاقة الكلمات بالجملة، بالسياق، وبالبنية البلاغية مع بروز أدوات أسلوبية متجددة أضفت على النسيج الروائي جمالية متقدمة.
4- التشكيل ومعمارية الرواية في استغلال أشكال تعبيرية كالفانتاستيك لتفسير تجربة الكائن، وتكسير الرتابة التي هيمنت على ذائقة القارئ طولياً، بخلق غرابة مقلقة، والنفاذ إلى الشعور والذاكرة وتفتيتهما إلى ذرات مرتبكة( ).
وأشار حليفي إلى الأشكال والأساليب النثرية القديمة للعجائب، ومظانها هي:
1- القصص الشعبية، ومنها «ألف ليلة وليلة».
2- الخطابات الرمزية، ونموذجها «كليلة ودمنة»، ومنها ما يعتمد على الحلم مثل «رسالة الغفران».
3- كتب التاريخ، وما حوته من بعض الأخبار العجيبة، مثل «مروج الذهب» أو كتب الرحلات.
4- مؤلفات الصوفية مثل ابن عربي في فتوحاته المكية، والكتب *****ية وكتب الفقهاء( ).
ومن الواضح، أن حليفي لا يستقصي الأنواع والأشكال التراثية المتاحة، وكنا أشرنا إلى أهمها في موقع سابق، ولا يتقصى مفاهيم العجيب في التراث العربي، والسردي بخاصة. مثلما جاوز البسط النظري لمفاهيم بحثه بعامة، إلى تلمس التصوري النظري لشعرية الرواية الفانتاستيكية مباشرة، وعلى الرغم من اعتماده على عبارتين مفتاحيتين الأولى لتودوروف والثانية للكندي، فإن حليفي اعتمد كلية على مأثور الاتجاهات النقدية الجديدة، ولا سيما شعرية المفارقة والتردد، مما اعتنى به تودوروف، فتوقف عند المقاربة التاريخية بإيجاز شديد في بضعة أسطر، والمقاربة الدلالية، بالاهتمام نفسه، والمقاربة البنيوية باتساع، من خلال تصورات بعض أعلامها البارزين، مثل تودوروف، وإرين بيسيير Irene Bessiere، وروجيه كايوا Roger Caillois، ولوي فاكس L. Fax، وعدّ ذلك ممهدات نحو تصور لمفهوم الفانتاستيك في الرواية العربية، وأردفها بعنوان صغير: «مجازفة نظرية». وشرع في مجازفته النظرية من مسألتين مهمتين:
1- الأولى، وهي أن الروائي العربي يحتمل جداً، (لاحظ قلة العناية باللغة)، أن يكون مطلعاً على الآداب الفانتاستيكية في الغرب، إما بشكل مباشر أو عبر الترجمة، وبالتالي، فهو قد يتمثل هذه المكونات والعناصر ليضفرها في تصوراته الفكرية.
2- المسألة الثانية، وهي الرجوع إلى بعض الآثار النثرية القديمة وتمثلها ما دام الإنتاج العربي النثري القديم يحتوي على بذور ناضجة للعجائبي( ).
ثم خلص حليفي إلى استنتاجات لبناء استراتيجية الحديث عن الفانتاستيك في الثقافة العربية، مفادها أن الفانتاستيك ليس جنساً أدبياً قائماً بذاته، ولكنه صيغة، ومعنى هذا أنه ليس هناك جنس الفانتاستيك، بل هناك تقنية الفانتاستيك( ).
ودقق حليفي علاقة الفانتاستيك بالمجالات القريبة منه: العجائبي والغرائبي، ومنه العجائبي المبالغ فيه Hyperbolique، العجائبي الدخيل Exotique، العجائبي الأداتي Instrumentale، العجائبي العلمي ـ أو الخيال العلمي، ثم الفانتاستيك والحكاية *****ية، ثم الفانتاستيك والخيال العلمي، ثم الفانتاستيك والرواية البوليسية، ثم الفانتاستيك واليوتوبيا، ثم الفانتاستيك والأسطورة، ثم الفانتاستيك والفكاهة السوداء، ثم الفانتاستيك والعلوم، ومنها علوم ***** والتنجيم، وعلم النفس والتحليل النفسي، وما وراء علم النفس ****pshycique.
وعالج حليفي موضوعات الفانتاستيك، والإشكالات التي تثيرها، أما الموضوعات فهي أولاً: الامتساخ والتحول، ومنه امتساخات الإنسان، والحيوان، والنبات المؤنسن، وثانياً تغير السببية/ الزمن ـ الفضاء، ومنه الزمن والمكان، وثالثاً الاختلالات. ورابعاً لعبة المرئي واللامرئي.
وعني حليفي بالتفسير العقلي والتفسير فوق الطبيعي للخطاب الفانتاستيكي، حيث تتساكن داخل الخطاب الفانتاستيكي خطابات أخرى مفتوحة، غير منتهية تخضع للتطور، وتعتمل داخلها أيضاً العناصر التي تعطي العمل الروائي أهميته، وإمكانية التواصل مع المتلقي. و«الرواية الفانتاسكية، برأي حليفي تحديداً، هي رؤية وشهادة، رؤية على واقع حقيقي تصور بشرايينه دماء متباينة ومفارقة، وشهادة باعتبارها جواباً متحركاً، على أسئلة ثابتة وقدرية، كالموت والقهر والكبت والاستبداد والجنون، كلها أسئلة تتخفى خلفها قاطرات من أسئلة كونية تدخل، بدورها، في إطار الإرث الذي تتجاسر على حمله في تاريخنا»( ).
واهتم بالتفسير بوصفه مكوناً أساسياً من المكونات الداخلية للمحكي الفانتاستيكي، فهو يستعمل لتبديد الغموض الذي يؤكد الحدث، وله وظيفة امتصاصية إزاء الحيرة والقلق المتولدين عن الأحداث، ويتولد عن التفسير بين ما هو فانتاستيكي والمجالات القريبة منه مظهران هما:
المظهر الأول: يتجلى في التفسير بأنواعه، وهو الذي يكون السارد فيه محدود المعرفة، يعاين ويصف، ثم يتكفل بنوع من التأويل، فتأتي بعض أوصافه التي يصف فيها باطن الشخوص، وبعض أسرارهم، من باب التأويل والحدس.
ولاحظ حليفي بعداً عمودياً للفانتاستيك، تنتظم فيه الموضوعات/ الثيمات من خلال صور فوق طبيعية أساساً هي «انعكاس مرآوي لمتخيل يعكس وعياً جمعياً، وإحساساً ذي إيماضات تضرب في ألياف ذات الكائن، وموضوعات الواقع، صور شبكية كرؤى صادمة تتصيد الغريب والعجيب على محور عام للفوق طبيعي، ويُعد جد مربوط بالمخيلة»( ) ويحيل حليفي هذا الرأي إلى بيير ميسنيه Pierre MESNIER. وهناك وظائف للمحور الأفقي، كالربط بين ما هو واقعي، وماهو فوق طبيعي، ووظيفة تأجيلية، تستهدف، أساساً، تأجيل حدث فوق طبيعي، تشويقاً لفترة، وهذا الغرض يتم عبر التضمين والتناوب. أما المحور العمودي، فيتم استغلاله من طرف المحكي الفانتاستيكي في بعدين عمقي، يستمد موضوعاته من الموروث القديم الديني و*****ي والفولكلوري، ومائل.
وأشار حليفي إلى ما يسمى «البعد الرابع»، وهو المجال الذي يشتغل فيه الفانتاستيك والخيال العلمي بحرية كاملة بحيث إن هذا البعد لا يقتصر على الزمان والمكان فقط، من خلال وصف أمكنة لا توجد إلا عمودية، وإنما يطال الزمان بدخوله في بُعد رابع لا يرى ويضبط. وذكر حليفي أنماط التفسيرات العقلية، مثل التفسير بالحلم، والتفسير بالهذيان والهلوسة، والتفسير بالجنون، وأوضح حليفي حضور التفسير فوق الطبيعي في المحكي الفانتاستيكي، مما يميز الخيال العلمي والرواية البوليسية، وينتج عنه حالات غموض التفسيرات في ثلاث خانات تتكامل فيما بينها، وتعضد الواحدة الأخرى: الزيغ الكرونولوجي Aberrations ، ثم الأشباح، و********ات. وتوصل حليفي إلى استنتاج تركيبي عام، وهو أن ثمة مكونين أساسيين، يساهمان في إبراز الفانتاستيك، وهما الشرط وجواب هذا الشرط، ويمثل الشرط الحدث، فوق الطبيعي، والذي قد يجسده الشبح أو أحد المسوخ، بينما يمثل جواب الشرط التفسير الذي تقدمه الرواية لذلك الشرط. وخصص حليفي الفصل الثاني من كتابه للخطاب في الفانتاستيك، معالجاً مكونات السرد الفانتاستيكي، ولاحظ في هذا المجال أربعة أنماط مفتوحة تتناص فيما بينها، هي: سردية التاريخي، وسردية اليومي، وسردية الطابو، وسردية التعجيب. وفصل القول في السرد/الوصف، وتكونه للخطاب الفانتاستيكي خلل أنماطه الأربعة أيضاً وهي:
السرد اللاحقNarration Ultérieure.
السرد المتقدم Narration Antéieure.
السرد المتزامن Narration Simultanée .
السرد المدرج/المتخلل Narration Intercalée.
وذكر ثمة وظيفتين تعملان بدرجات متفاوتة في الخطاب الفانتاستيكي، هما وظيفة ذات علاقة تفسيرية Fonction Explicative، وعلاقة ثيمائية (يقصد موضوعاتية) Relation Thématique.
ووصف السارد الفانتاستيكي، وهو«كائن تخييلي يعمد المؤلف إلى خلقه، حتى يدهم سلطة السرد، انطلاقاً من وضعيته التي هي وضعية إنتاج كلام، وسط تعددية أصوات تشكل النسيج الحي للرواية، ويأتي مبعث السارد الفانتاستيكي، في هذا الباب، ضمن نسق نظري عام يعي مزالق البنيويين، وينظر إلى السارد ضمن رؤية جدلية، انطلاقاً من المتون الروائية الفانتاستيكية التي تحقق فرادة ساردها، وجدليته التي تسمح ببناء نسق تأويلي للمحكي»( ). وحاول حليفي تصنيف أنماط السارد، مستنداً إلى جيرار جنييت وروجيه كايوا، حيث ثمة سارد ملتحم بالحكايةNarateur Homodiegetique ، وهو السارد المتضمن في الحكاية، ويشغل وظيفتين في آن واحد، فهو راو ومشارك في الأحداث، وسارد غير ملتحم بالحكاية Narateur Hétérodiegetique، وانطلاقاً من هذين الضربين، ميز رؤية السارد من خلال ثلاثة أنماط هي:
السارد- البطل، وهو الذي يظهر ملتحماً بالحدث.
السارد- الشاهد، وهو الذي يروي الأحداث، ليس بوصفه مشاركاً، ولكن باعتباره شاهداً.
السارد- المجهول، وهو الذي يبقى مجهولاً، لا متعيناً، في نظر المتلقي، تفاجئه الأحداث، وهذا النمط نادر.
أما الأنماط المميزة للمنظور السردي، فقد كيفها مع المنظرين الفرنسيين في المناهج النقدية الحديثة، ولاسيما نقاد شعرية السرد، على النحو التالي:
أ- الرؤية من خلف، أو التبئير الصفر، بتعبير جينيت، حيث السارد يعلم أكثر من الشخصية، فهو كلي العلم وكلي الوجود عالم بخفايا الأمور.
ب- الرؤية مع، أو التبئير الداخلي للكواليس، ويكون السارد في تساو مقصود مع الشخصية، لا يعمل إلا على تقديم كلامها، فهو يرى كل شيء من خلال وعي الشخصية، كما يكون متعدداً بانتقاله من شخصية إلى أخرى، ثم العودة إلى الأولى، أو رؤية الحدث نفسه عن طريق شخصيات روائية.
جـ- الرؤية من الخارج، أو التبئير الخارجي، حيث السارد هو مجرد راصد للحركة الخارجية، يقف في حياد تام ليحقق موضوعية تكون معرفة السارد فيها أقل من معرفة الشخوص، ثم كيّف حليفي وظائف السارد الفانتاستيكي، مما هو شائع لدى نقاد شعرية السرد، وهي الوظيفة السردية، ووظيفة التنسيق، ووظيفة الإبلاغ والتواصل، ووظيفة انتباهية، ووظيفة الاستشهاد.
وتوقف حليفي عند الوصف الفانتاستيكي، في مستوياته وأنواعه ووظائفه، وعند الكرنوتوب والخطاب الفانتاستيكي، والكرونوتوب مصطلح أطلقه باختين، ويفيد أن الزمان والمكان شيئان متقابلان بعكس تصورات نيوتن النظرية، فالفضاء الفانتاستيكي، أو هندسة التعجيب، «يتحدد انطلاقاً من علاقته بالزمن، ثم بانفلات الفضاء عن الأبعاد الآقليدية إلى أبعاد متعددة مفتوحة، فالعالم الروائي، لا يتكون من الوجوه الهندسية البسيطة، ولكنه يستنتج من أشكال جد معقدة» يتعبير موريس ليفيMaurice Levy( ).
ثم درس الشخصية الفانتاستيكية، سمات وأنواعاً، وأدواراً، وعلاقات، وخلص إلى استنتاج يميز الرواية الفانتاستيكية، ويعمق سبل بحثها بآليات ونهاجيات الاتجاهات الجديدة: «إن من أهم خصائص الفانتاستيك تأكيد المفارقة وبعث الحيرة، ولاشك في نفس المتلقي، عن طريق إبراز ما فوق طبيعي، وتقليص دور ماهو طبيعي حيناً، أو استغلاله للإيهام مرة ثانية، كما يتم اللجوء إلى خرق ومسخ هذا الطبيعي، أو تدميره في مرة ثالثة، مثلما اوضحت ذلك الطروحات، التي عرضنا لها، وخصوصاً تصورات إرين بيسيير، وجان بلمين نويل، المتقدمة في هذا المجال، والتي حاولت الاستفادة مما جاء به تودروف في تحديداته الدقيقة، وسيجموند فرويد بخصوص مفهوم الغرابة المطلقة، ما يستتبعها من استيهامات واضطرابات نفسية»( ).
واختار حليفي لتطبيق مفهومه عن «سردية التعجيب» «فقهاء الظلام»(1987) لسليم بركات (سورية)، ويشير جهد حليفي برمته إلى الأخذ الكامل لمعطيات الاتجاهات الجديدة في تنظيره وممارسته النقدية.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59