عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 11-26-2012, 10:09 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

ولا شك في أن البحث في قضايا التبعية بدأ قبل ذلك بوقت، ولكنه لم يصبح ضاغطاً إلا في السبعينيات والثمانينيات، وكان كتاب عواطف عبد الرحمن (مصر) «قضايا التبعية الإعلامية والثقافية» (1984) ريادياً في بابه، متساوقاً مع هيمنة الإعلام على سلطة المعرفة، والاستخدامات السريعة والمباشرة لوسائله المختلفة في آليات التبعية الإعلامية والثقافية، فيما عرف بالغزو الثقافي. وقد أخذت هذه الآليات مفاهيم مختلفة ومتطورة مثل الاختراق والتغريب والتغطية، وبرز في هذا المجال إدوار سعيد (فلسطين) في كتبه الأساسية، فعرى الاستشراق بوصفه سلطة معرفية في خدمة الاستعمار في كتابه «الاستشراق» (1978)، وفضح التضليل الإعلامي الغربي ضد الإسلام في كتابه «تغطية الإسلام في وسائل الإعلام» (1981)، وكشف عن التواطؤ الكلي والتشابك الحميمي بين الإمبريالية والثقافة التي أنتجتها مجتمعاتها، وعن الأبعاد المقموعة للثورة ضد السيطرة الإمبريالية في جميع بقاع العالم غير الأوروبي، بتعبير كورنل ويست، في كتابه «الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism» (1993). ويخبرنا إدوار سعيد نفسه أن كتبه هذه تؤلف مشروعاً واحداً لوعي الواقع العربي والفلسطيني، ولتحقيق التقرير الذاتي للمصير. «إن تاريخ الإمبريالية ليعلمنا أنه ليس في وسع شيء سوى فكرة حقيقية للتحرير والمساواة أن يقاوم قوة الإمبريالية ويصدّها»( ).
وقد شرع المفكرون والكتاب العرب في وعي مخاطر الغزو الثقافي منذ مطلع الثمانينيات، وكان الحدث الأكبر في هذا المجال هو انعقاد مؤتمر «مواجهة الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني للأمة العربية» (تونس 29 آذار ـ 3 نيسان 1982)( )، وشارك فيه عدد كبير من المفكرين والباحثين والمثقفين العرب من الأقطار العربية جميعها، وقدم إليه أكثر من ثمانين بحثاً في محاوره الخمسة: الخصائص القومية للشخصية الثقافية العربية، الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني والاستلاب الفكري في الوطن العربي، الجذور التاريخية للغزو الثقافي، الغزو الثقافي الصهيوني للأمة العربية في الوقت الحاضر، مواجهة الغزو الثقافي في الوطن العربي. وسمي المؤتمر، بمؤتمر التحدي، وصدر عنه «إعلان تونس» الذي حمل خلاصة ما تزال صالحة للمواجهة.
وتوالت الكتب المؤلفة والمترجمة التي تتناول الغزو الثقافي والثقافة المقاومة، أشير إلى بعضها لفهم السياق الذي آل إلى معركة تالية هي معركة التطبيع، فقد جمع عزيز الحاج (العراق) بعض مقالاته في كتابه «الغزو الثقافي ومقاومته» (1983)، وهي مقالات تنصرف إلى معاينة ظاهرة الغزو الثقافي، وموضوع الهوية الثقافية، ومخاطر الهيمنة الثقافية الأمريكية المرتبطة بالتطور الرأسمالي المتصاعد، وأوجه نضالنا الثقافي ومهماته، وثمة مقالات أخرى عن مشكلات إعلامية واتصالية وثقافية واجتماعية أخرى. وعرّب غسان إدريس (سورية) كتاباً خطيراً هو «غزو العقول ـ جهاز التصدير الثقافي الأمريكي إلى العالم الثالث» (1985)( ) لمؤلفه إيف أود. لفت هذا الكتاب النظر إلى الهيمنة الأمريكية الآخذة بالتوسع، والامتداد إلى أجهزة الثقافة.
وخطا الباحثون العرب خطوات أعمق في دراسة جذور ظاهرة الغزو الثقافي، كما في كتاب مسعود ضاهر (لبنان) «مجابهة الغزو الإمبريالي الصهيوني للمشرق العربي ـ دراسة في الثقافة المقاومة» (1989). ومن المفيد، أن نذكر أن الكتاب يلتزم بمنهج تاريخي نقدي في رؤية الظاهرة من أجل ما سماه «إصلاح السياسة بالثقافة النقدية المقاومة» و«التحليل الكيفي للظاهرات الثقافية» و«استشراف المستقبل بالثقافة العربية المقاومة»، ومثل هذا المنهج، كفيل، برأيه، في التصدي «لإشكالية الغزو الثقافي الصهيوني الإمبريالي للمشرق العربي في علاقتها الجدلية مع نقيضها إشكالية المجابهة، وهما إشكاليتان لا تلتقيان إلا في حقل الصدام المباشر. لذلك أعلنت هذه الدراسة انحيازها الكامل إلى جانب مجابهة الغزو ورسم الطريق العلمية الموصلة إلى المجابهة بالثقافة العربية الوحدوية، ثقافة التغيير الجذري والتنمية الشاملة»( ).
إنها عود إلى ثنائية التبعية والتنمية حين تغدو مواجهة الغزو الثقافي إقراراً بضرورة نقد المركزية وتعددها من جهة، وبحث الاختلاف على أساس سلطان العقل النقدي وحده من جهة أخرى، وهو ما ينادي به نوفل نيوف (سورية) في بحثه «مواجهة الغزو الثقافي ـ نموذج تطبيقي» (أدب ونقد 1996)، فقد ختم بحثه بعبارة دالة لهشام شرابي من كتابه «النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين» (1990):
«في غياب الحريات والحقوق الأساسية، لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق أهدافه الإنسانية.. ولم يعد التخلف مجرد وضع اقتصادي أو سياسي، بل أصبح نظاماً وحشياً، ونمطاً من العيش الحيواني اللاإنساني»( ).
إن التبعية ليست قدراً، ولئلا تكون كذلك، فإن مواجهتها بالتنمية الشاملة والمستقلة هي السبيل. وقد تعددت المواجهات الفكرية لفكر التبعية، وكان جلال أمين (مصر) من أوائل المفكرين الذين تصدوا لإشكالية التبعية الاقتصادية والثقافية في كتابه «تنمية أم تبعية اقتصادية وثقافية» (1983)( )، ويشير العنوان الثاني للكتاب إلى محتواه «خرافات شائعة عن التخلف والتنمية وعن الرخاء والرفاهية».
ليس بوسعنا الإحاطة بالقضايا المتصلة بالهوية وتحدياتها. وباستجابات المفكرين والكتاب العرب تأليفاً أو تعريباً، ولكنني أورد إشارات أو علامات لتنامي الوعي بها، ولا سيما التعريب الناجم عن استهداف الموضوعات المعربة، كما هو الحال مع علي وطفة (سورية) في تعريبه لكتاب إليكس ميكشيللي Alex Mucchielli «الهويةL’Identite » (1993)، فقد أراد إخراجه باللغة العربية ووضعه في متناول من تعنيه مسألة الهوية، وذلك أملاً منا في خدمة إنسان العروبة، حول مسألة الهوية وقضاياها. وحرص المعرب على شرح مفهومه للهوية، في مقدمته، مرتكزاً على العناصر المتغيرة، بالإضافة إلى الأخرى الثابتة، «فالهوية ليست كياناً يُعطى دفعة واحدة وإلى الأبد. إنها حقيقة تولد وتنمو، وتتكون وتتغاير، وتشيخ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب»( )، وهي نظرة قابلة للحوار إزاء معضلات خطيرة في تكون الهوية مثل الثابت والمتغير، والتاريخي والراهن، ناهيك عن جدل الخاص والعام في عناصر الهوية، ولعل هذا هو مفهوم المؤلف الخاص والعام بقوله: «لقد استطعنا، عبر تحليل مفهوم الإحساس بالهوية إلى عناصره الحسية الأولية والتي تتمثل في الإحساس المادي، والإحساس بالانتماء، والتماسك، والاستمرارية الزمنية، والاختلاف، والتقدير، والاستقلال والثقة، والإحساس بالوجود أن نسلط الضوء على مختلف الأزمات التي تتعرض لها الهوية، والتي تنشأ عندما تتعرض إحدى هذه الأحاسيس، أو بعضها للإصابة والتمزق»( ).
لقد صار هذا الحوار إلى التمعن في تأثير المتغيرات على الهوية في نزوعات التغريب على وجه الخصوص، حيث تستطيل في امتدادات الهيمنة والمركزية الغربية، فقد ترجم خليل كلفت (مصر) كتاب سيرج لاتوش Serge Latouche«تغريب العالم l'Occedentalisation du Monde ـ بحث حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم» (1989وظهرت ترجمته بالعربية عام 1992)، والكتاب أشبه بتقرير عن حال الاغتراب بما هو اكتمال هيمنة المركزيات، ولكنه في الوقت نفسه انفراجة الأمل بالتغيير: «وتحت هراسة التغريب يبدو أن كل شيء قد تمّ تدميره وتسويته وسحقه بالفعل، لكن في كل مكان، في الوقت ذاته، يكون كل ما هنالك في كثير من الأحيان أن تضاريس الأرض مشقوقة، فهي تقاوم أحياناً، وهي متأهبة لإعادة تكوين أديمها. والواقع أن استبعاد المكاسب المادية والرمزية للتحديث، وهي وفيرة دائماً، يمكن ويجب أن يبتكر حلولاً جديدة من أجل البقاء كمكان وكإنسانية، وهذه التطلعات المغايرة تستكشف نفسها من خلال الارتجال والتلفيق. ويمكنها أن تنتج مسوخاً، أو أن تستردها الآلهة، لكنها كذلك تغذي الأمل في ألا يكون حصار الآلة نهاية العالم، بل فجر بحث جديد عن الإنسانية التعددية»( ).
وهذا الأمل هو عاضد الاتجاه إلى الاستقلال الذاتي عبر نقد الذات ومجاوزة الراهن والإكراهات المتعددة في وجه الهوية القومية. ونجد تعبيراً عن ذلك في كتاب ناصيف نصار (لبنان) المسمى «طريق الاستقلال الفلسفي» (1996)، وثمّر هذه الدعوات محمد جابر الأنصاري (البحرين) بانتظام وعي الذات في المسار النهضوي، في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف التراث ونقده» (1992)، ثم أدغم مصطفى خضر (سورية) أسئلة وعي الذات جميعها بنقدها المتواصل داخل عمليات نقد الآخر. الحداثة في كتابه «الحداثة كسؤال هوية» (1996).
لقد صارت الهوية إلى وعي حاد لتحدياتها في أتون المتغيرات العاصفة بعد حرب الخليج الثانية (1991) التي تزامنت مع متغيرات دولية أشمل، أو عجلت بهذه المتغيرات، وأفرزت ضغوطات أشد على الهوية تمثلت بالنسبة للعرب في أمرين، أولهما العولمة، وهي تطوير لآليات الاستقطاب والاستلاب والتغريب والتبعية والغزو والاختراق والتغطية، وثانيهما التطبيع الذي يعني إكراه العرب على القبول بعدوهم العنصري التوسعي المحتل «إسرائيل الصهيونية»، والتحالف معه، وتأبيد احتلاله للأرض، واقتسام الثروات العربية من السماء إلى الماء إلى الخيرات الأخرى.
إن القبول بالأمرين معاً يندرج في البحث الواسع لما يسمى بإكراهات الهوية نحو الإذعان والاستسلام لشروط القاهر على المقهور، ويعني ذلك ـ فيما يعنيه ـ المحو الذاتي ليس بجعل الهوية واستحقاقاتها أوهاماً فحسب، بل بتكييف شروط الهوية لإملاءات الهيمنة العالمية (المركزيات الغربية وحليفتها إسرائيل).
وهكذا، لا تفترق غائية العولمة عن توظيف التطبيع لنفي الذات القومية عندما تبلغ إكراهات الهوية حدودها القصوى، فتنعدم قابليات المقاومة وثقافة المقاومة، وهي في جوهرها الوعي بالذات داخل الممارسة القومية والوطنية لمختلف مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكنت أوضحت في بحثي «الخطاب الثقافي العربي وتحدي التطبيع» (1997) أن «نضوج الخبرة النضالية في مقاومة التطبيع يندرج في العمل القومي وكفاح الأمة العربية في حفاظها على الهوية، وفي تحصينها للذات، متجاوباً مع عمليات المقاومة الأخرى: الغزو الثقافي في مفاصله الملتبسة والواضحة من التبعية الجائرة إلى العولمة القاهرة»( ).
أثار تنامي أبحاث الهوية إشكاليات متعددة تمثلت في تشريح عنيف ومباشر وتحليل نقدي متواصل لإكراهات الهوية، ولا سيما التغريب والتبعية والغزو والتطبيع والعولمة تعزيراً للعناصر الباقية للذات القومية وللتراث العربي الحي ولمعوقات التقدم في العلاقات بالسلطة والديمقراطية والعلم والعقل والقومية، وقد تجاوبت أصداء ندوة مركز دراسات الوحدة العربية «العرب والعولمة» (1997) مع هذه الإكراهات تدعيماً للوعي الذاتي، فقد قدم إلى الندوة تسعة بحوث عن مفهوم العولمة وعلاقتها بالتطور التقاني وثورة المعلومات والدولة والمركز (نموذج الولايات المتحدة)، والهوية الثقافية والاقتصاد والتنمية، بيد أن الهام هو النقاش الاستطلاعي عن العرب والعولمة ومفاده التوكيد إياه على مواجهة إكراهات الهوية بتعضيد الخصائص العربية وتدعيم التنمية المستقلة في خضم تيار الاستجابة الفاعل في مواجهة التحديات المصيرية.
6- التطلع إلى الحديث والحداثة:
كان التطلع إلى الحديث، والرغبة في التحديث والحداثة أحد أبرز المؤثرات في اشتداد عود الاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية. وفهمت الحداثة ملتبسة مع مفاهيم كثيرة سادت الحياة الثقافية والأدبية والنقدية والعربية مثل «الجديد» أو «التجريب» أو «الطليعية» في مواجهة القديم، وهي صراعات مستمرة برزت على نحو خاص مع ما سمي بعصر الانبعاث في أوائل القرن التاسع عشر، ولم يستقم استعمال مصطلح الحداثة إلا في وقت متأخر.
6-1- من صراع القديم والجديد إلى الحداثة:
نُظر على الدوام إلى الصراع بين القديم والجديد في بعده القومي( )، وفي بعد المثاقفة (الاتصال بثقافة الآخر الغازي المستعمر)، وفي بعده الحضاري الشامل، وقد وضع محمد الكتاني (المغرب) كتاباً كبيراً، هو أشبه بالموسوعة يقع في 1360 صفحة من القطع الكبير، يحمل عنوان «الصراع بين القديم والجديد» (1982). وقد وجد «ظاهرة الصراع في أدبنا الحديث متصلة بالتحولات الاجتماعية، وبالتحديات الحضارية، وبالمؤثرات الاستعمارية، وبالغزو الفكري، وبكل ما تواجهه أمة ذات حضارة عريقة أمام أمة غازية غالبة تفرض على الأولى منطق الغالب، وتحاول تذويب كيانها في دوامة من الاستلاب والتبعية».
خصص الكتاني فصولاً مطولة لفحص مفهوم القديم والجديد وظهوره في الأدب العربي الحديث ومستويات تصوره في ضوء الوعي الديني والأدبي والقومي والوضعي والاجتماعي، ومحاوره الأساسية: الصراع حول العامية والفصحى، الصراع حول الأساليب الأدبية، الصراع حول البلاغة العربية، الصراع حول قضايا الشعر، الصراع حول مناهج الدراسة وتقويم التراث، وختم بحثه بأسس الرؤية التقويمية للصراع، ولاحظ أن النثر العربي يحقق التوازن والتلاؤم في عالم الحداثة أكثر من الشعر، وفشل المحاولات التجديدية الفاقدة للجذور الإيديولوجية العربية، وانحسار المد الكلاسي والرومانسي، واسترجاع الأدب العربي لتوازنه بين القديم والجديد، واستمرار الصراع بين المثالي والمادي في فكرنا العربي.
لقد وضعت مصنفات كثيرة، ناهيك عن المقالات والأبحاث، في صراعات الأدب العربي الحديث في مظاهره المتعددة: القديم والجديد أو التجريب أو الطليعية، وتدور غالبيتها حول الأدب، ولا سيما الشعر، وذكر الكتاني في مقدمة كتابه اثني عشر كتاباً.
واعتقد أن كتاب الكتاني الأشمل في مجاله. وعندما حرر محمد كامل الخطيب (سورية) إعداداً وتقديماً، كتابه «القديم والجديد» (1989) كان شاحباً إزاء كتاب الكتاني، لأنه يحمل المنظورات الشاملة إياها في رؤية الصراع بين القديم والجديد، وإن اختلفت الرؤى والأفكار الموجهة والناظمة لفهم حركة الصراع ومحاوره ونتائجه، وعلى تباين المستوى بين الكتابين، فالأول دراسة مستوعبة وناقدة، والثاني مختارات لبعض الكتّاب والمفكرين مزودة بمقدمة قصيرة، أشار فيها إلى أن «قضايا عصر النهضة ما تزال قضايانا، من تحديد مفهوم الأمة، إلى تنظيم مؤسسات المجتمع، إلى الأجناس الأدبية، وشخصيات عصر النهضة ما تزال حية بيننا، من أبي الهدى الصيادي والرافعي، إلى سلامة موسى والعقاد ومحمود أحمد السيد إلى علي عبد الرازق وسليم خياطة والصراع الذي جرى آنذاك ما يزال يجري الآن»( ).
واختار الخطيب لكتابه تصنيفاً آخر حوى مقدمات حول مسألة القديم والجديد، ومشكلة كتاب «في الشعر الجاهلي» مثالاً للمعارك الفكرية، ونقاشات وحوارات حول القديم والجديد في مجالات فكرية واجتماعية وأدبية مختلفة.
ثم اكتشفت «الحداثة» ومصطلحها في خضم هذه الصراعات، وقابله، فيما بعد، مصطلح «القدامة»، وصار التطلع إلى الحداثة، في واجهة الاهتمامات الثقافية والأدبية والنقدية، مرتهناً بالأبعاد إياها التي طبعت الصراعات السابقة: البعد القومي، بعد المثاقفة، البعد الحضاري الشامل. وبين 152 مرجعاً لدراسة الفكر العربي الحاضر عالجها بولس الخوري (لبنان) في كتابه «التراث والحداثة» (1983) ربما كانت هي الأهم بين مثيلاتها، يظهر بجلاء القلق الفكري العنيف الذي يهز وجدان المثقف العربي إزاء قضايا التأصيل في موازاة التحديث: كيف نخلق التركيب الجديد، أو هو التأمل العملي الذي أطلقه صادق جلال العظم ثم تبناه آخرون: العالم القديم يمثل «الأطروحة»، واقتحام الغرب يمثل «النقيض»، فيما «التركيب» يمثله عالم جديد عربي أوروبي. وهكذا.
وعندما وصف الخوري هذه المراجع، توصل إلى نتيجة محددة هي أن التحرر في المجال الثقافي يكون «بالتخلص من نير الأجنبي الذي يسعى إلى فرض ثقافته ليحلها محل الثقافة الوطنية العربية. قد يؤدي هذا الإصرار على حماية الهوية الثقافية إلى نوع من الاختناق الذاتي، وذلك برفض الاتصال والانفتاح والانغلاق على الذات والانخداع بالاكتفاء الذاتي. بالمقابل يأتي التحديث موازياً لهذا الاتجاه، وهادفاً إلى إخراج الثقافة التقليدية من شكلها القديم. ويكون هذا الإخراج بالإقرار بأن للثقافة هوية ثابتة، من جهة، وطابعاً تاريخياً من جهة ثانية، فيمكن، بالتالي، تطوير الثقافة كي تتحول من شكلها القديم إلى شكل حديث»( ).
6-2- الحداثة في الأدب أولاً:
كانت الاستجابة العربية للحداثة في الأدب بعامة، وفي الشعر بخاصة بالدرجة الأولى. وخاض شعراء مجلة «شعر» البيروتية معركة الحداثة الأولى الذين بدوا لأول مرة وكأنهم يغنون خارج السرب، وجمع مقدمهم يوسف الخال (لبنان) مقالاته في كتابه «الحداثة في الشعر» (1978)، وعدّ البيان الشعري «مستقبل الشعر في لبنان» الذي ألقاه يوسف الخال في الندوة اللبنانية عام 1956 بياناً نظرياً للحداثة الشعرية، على أنها «نتاج عقلية حديثة تبدلت نظرتها إلى الأشياء تبدلاً جذرياً وحقيقياً انعكس في تعبير جديد»( ).
وتلاه أدونيس (علي أحمد سعيد ـ سورية) في الدعوة إلى الحداثة في مجلته «مواقف» البيروتية (اللندنية فيما بعد)، وانتقل من التقليد إلى الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة، إلى قصيدة النثر إلى الكتابة. وبلغت وطأة الحداثة عند أدونيس أن سماها «صدمة الحداثة»، وهو عنوان الكتاب الذي جمع فيه مقالاته وأبحاثه عن «تنظيره» للحداثة. وضع الحداثة في مواجهة القدم، (القدامة عند الناقد محمد لطفي اليوسفي)، ومثلما وضع الخطابة، سمة ثقافية عربية، في مواجهة الكتابة، سمة حداثية. واستعان بوصف حداثة شعراء النهضة: البارودي، جماعة الديوان، خليل مطران، حركة أبو للو، وعاين مسائل الانتقال إلى الكتابة: الكلام القديم والكلام الحديث، جبران خليل جبران، الارتداد والتنميط، الارتداد وشكلانيةالإيصال، وكثف وجهة نظره في دواعي أن تكون الحداثة تجاوزاً للإتباع أو الثابت في الثقافة العربية طلباً للإبداع أو المتغير المتجدد، وهي الفكرة المركزية لكتابه «الثابت والمتحول: بحث في الإتباع والإبداع عند العرب» (1978).
وحذا محمد بنيس (المغرب) حذوه، فأصدر أيضاً «بيان الكتابة» (1981)، وأعاد نشره مع مقالات وأبحاث وشهادات أخرى في كتابه «حداثة السؤال: بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة» (1985). وتميزت دعوة بنيس بطلب التغاير الثقافي مع الآخر الغربي ومع السلف، في خطاب يستند إلى قواعد هي المغامرة والنقد والتجربة والممارسة والتحرر و«هذه القواعد تمس ثلاثة مجالات، اللغة والذات والمجتمع. يصعب أن تنفصل قواعد الكتابة عن مجالاتها، وهي التي تريد مفاجأة وتركيب المغاير، الانتقال من بنية السقوط والانتظار إلى بنية التأسيس والمواجهة»( ).
ومن البحرين نشر قاسم حداد وأمين صالح بيانهما الحداثي باسم «موت الكورس» (1984)، وكان محمد لطفي اليوسفي (تونس) أعاد نشر بعض بيانات الحداثة في كتاب «البيانات» (1993)، ووجد فيها جميعاً، وربما «موت الكورس» على وجه الخصوص، هاجس إلغاء الحدود القائمة بين الأجناس الأدبية: «ظلت محافظة على ملامحها كبيانات تنهض على السرد، وتقول أشد الأسئلة حرقة وإلحاحاً في الثقافة العربية. ولكن السرد تزيّا، في السّر بملامح الشعر، حتى ليكاد الشعر يتماهى مع السرد. وإذا البيان لحظة خطرة تضعنا في حضرة نمط من الكتابة آخذ في التشكل، نمط يعصف بالحدود جميعها»( ).
واقترب عبد السلام المسدي من قضية النقد والحداثة مساءلة وتصنيفاً، وأصدر كتابه الموسوم «النقد والحداثة: مع دليل ببليوغرافي» (1983)، تقصى، فيه، موضوعة الحداثة بين الأدب والنقد، وتوقف عند بعض قضاياه الملحة: اللسانيات والأدب، في تعريف الخطاب الأدبي، التضافر الأسلوبي وإبداعية الشعر، الأدب العربي ومقولة الأجناس الأدبية. ويؤشر هذا الكتاب إلى رسوخ الحداثة في الأدب العربي المعاصر اتجاهات تتأصل في حركة النقد بخاصة، فقد رأى مؤلفه أن «الملحق الببليوغرافي خير شاهد على أن مسار حداثتنا مسار غالب أصيل»( ).
وكنت وضعت كتاباً حول معضلة الحداثة سميته «الأدب العربي وتحديات الحداثة» (1987)، ويضم مقاربات حية عن سيرورة التقاليد الثقافية وشجون تأصيلها، تعريب الحداثة، معضلات التنمية الثقافية والقلق الفكري، التفكير الأدبي العربي المعاصر واقتحام الغرب. وفي عام 1994، جمع فاضل العزاوي (العراق) مقالاته وشهاداته حول الحداثة في كتاب حمل عنوان «بعيداً داخل الغابة: البيان النقدي للحداثة العربية» (1994)، وحوى، فيما حواه، «بيان 1969 «الشعري» الذي ركز على ارتباط الحداثة بتغير الحياة وإعادة تركيب العالم داخل رؤيا شعرية جديدة»( ).
ونلاحظ أن المصنفات عن الحداثة في الأدب والشعر والقصة قد تضاعفت أثر ذلك، كما هو الحال مع هذه العنوانات: «قضايا الحداثة في الشعر والقصة القصيرة» (1993) لأحمد فضل شبلول، و«الحداثة الشعرية» (1995) لمحمد عزام، و«وعي الحداثة: دراسات جمالية في الحداثة الشعرية» (1997) لسعد الدين كليب.
6-3- نقل أو تعريب فكرة الحداثة:
انتشر فكر الحداثة في الأوساط الثقافية والنقدية نقلاً أو تعريباً له، وكان تعريب كاظم جهاد لكتاب هنري لوفيفر H.Lovever «ما الحداثة» (1983)، نشداناً لتعريف الحداثة في أكثر من كونها مجرد فكرة، وعلى الرغم من أن لوفيفر رأى تجلي الحداثة في ممارستها بالأساس، إلا أنه لا يمكن، تعريف الحداثة، كفكرة، «أو للتعمق أكثر كأفق لآفاق تكشف عن نفسها تدريجياً»( ).
لقد أدرك النقاد والباحثون العرب أن الحداثة لا تقتصر على مجالات الأدب، فهي فلسفية، وأنها ظاهرة غربية، فعكفوا على تعريب الكتب الرئيسة في فهم الحداثة، وسياقها التاريخي والمعرفي، وقد ترجمت فاطمة الجيوشي كتاب هابرماس J.Habermas «القول الفلسفي للحداثة Le Discours Philosophique de la Modernite» (صدر بالألمانية عام 1985 وترجم إلى العربية عام 1995)، قصد الإجابة على الأسئلة الشائكة والمعقدة. وقد حوى الكتاب تتبعاً لمفهوم الحداثة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وحفل بتحديدات مهمة لعلائقها الداخلية وعلاقاتها الزمنية والموضوعية، فدرس وعيها للزمان وحاجتها إلى إيجاد ضمانات خاصة في داخلها، ومفهوم هيجل ونيتشة لها، وعلاقاتها بالأنوار، وما آلت إليه في المجالات المتعددة: نقد الميتافيزيقا، نقد الأدب والفن، نقد العقل، إنتاج المجتمع.
يتطلب هذا الكتاب إعمال التأمل في نظرته للحداثة المتشربة لتطورات العالم الحديث الأوروبي، ولا يخفى أن أسئلة هذا المصنف تنفتح على خصوصيات التجربة الأوروبية، وينبغي ألا نغفل عن ذلك في قراءة تعاين جذور الحداثة وتطوراتها في ثقافة شديدة التنوع والثراء في مفصل خطير، تبدو فيه الحداثة مهددة من داخلها، مثلما تواجه مخاطر خارجية من مركز الهيمنة الأمريكي، ونلاحظ أن المؤلف يعي مأزق الحداثة في إيماءات السيطرة: «إن حلم هذه الهوية الأوروبية المختلفة كلياً التي تتلقى بحزم إرث العقلانية الغربية، ينمو في الزمن حيث تستعد الولايات المتحدة، تحت راية ثورة أمريكية ثانية، للوقوع مجدداً في أوهام بدايات النزوع للحداثة. إن طوباويات الروايات السياسية القديمة كانت قد أنشأت تناضحاً خداعاً بين أشكال الحياة العاقلة. السيطرة التقنية على الطبيعة والتعبئة الفظة لقوة العمل الاجتماعية. إن تصور الحداثة لذاتها، منذ بداياتها، كان مشغولاً بهذا التطابق بين السعادة والتحرر من جهة، والسلطة والإنتاج من جهة أخرى. الأمر الذي أدى إلى قرنين من النقد الذاتي»( ).
أثار المؤلف في كتابه تحديات الحداثة العلمية والمعرفية، ولا سيما إحلال العقلنة النظمية محل العقل المتمركز على الذات الأوروبية والأمريكية، وهو مسار حداثة لا يوافي تحدياتها العربية، ولكن فهمها وفهم هذا المسار قمين برؤية أفضل لحداثة تداهم ولا تفهم تماماً.
لقد ترجمت مصنفات كثيرة، ولكنني آثرت التوقف عند نماذج أكثر دلالة على سيرورة الحداثة ونقدها في الغرب، وقد كان آلان تورينAlain Touraine في كتابه «نقد الحداثة Critique de la Modernite» (1992وظهرت ترجمته بالعربية عام 1997) من أكثر مفكري الغرب تصدياً لخطاب الحداثة الذي قام على الحرية (الإنسان هو ما يفعله)، وانتصار العقل وسيادة القانون والدولة محل التعسف والعنف، بيد أن الحداثة اندرجت في السلطة، «فما نسميه مملكة العقل، أليس هو السيطرة المتنامية للنظام على الفاعلين، ولفرض السوية والتنميط Normalization الذي، بعد أن أطاح باستقلال العاملين، امتد إلى عالم الاستهلاك والاتصال؟ تمارس هذه السيطرة بطريقة ليبرالية أحياناً، وأحياناً أخرى بطريقة تسلطية»( ). وهذا معنى الحداثة بوصفها سيطرة قائمة على العقل وعلى العلم وعلى التقنية، «فقد أطاحت الحداثة بوحدة عالم خلقته الإرادة الإلهية، أو العقل أو التاريخ، وحلت محله العقلنة وتحقيق الذات»( ).
إن ثمة افتراقاً بين الحداثة اليوم، ومعارضاتها: الانفصال الكامل بين المجتمع كتيار جارف من التغييرات التي يبلور الفاعلون في غماره استراتيجياتهم للغزو أو للبقاء على قيد الحياة، وبين خيال ثقافي ما بعد حداثي. وبالمقابل، انتشار في الوقت نفسه وفي كل مكان هوس هوية لم تعد تحددها الملاحظ الاجتماعية. وما يقترحه آلان تورين هو «إعادة تعريف الحداثة كعلاقة يسودها التوتر بين العقل والذات، بين العقلنة وتحقيق الذات، بين روح النهضة وروح الإصلاح، بين العلم والحرية. وهو موقف بعيد عن حداثة اليوم التي دخلت في مرحلة الانهيار، وعن ما بعد الحداثة التي يجول شبحها في كل مكان»( ). إن نقد الحداثة عند تورين بالسعي إلى تخليصها من التراث التاريخي الذي اختزلها في العقلنة، وإلى إدخال فكرة الذات الشخصية وتحقيق الذات إليها.
6-4- فهم الحداثة ونقدها عربياً:
غير أن الاستجابات العربية للحداثة جاوزت خلال العقدين الأخيرين حدودها في الأدب بعامة، وفي الشعر بخاصة إلى عمليات فهم الحداثة ونقدها من منظورات شاملة. وكان زكي نجيب محمود (مصر)، وحليم بركات (سورية)، وهشام شرابي (فلسطين) من أوائل المفكرين العرب الذين صدروا في فكرهم عن فهم للحداثة ومآزقها في الحياة العربية المعاصرة، وعن تمحيص لتجلياتها المؤرقة على الوجدان القومي، وأذكر على سبيل المثال كتاباً واحداً دالاً لكل منهم: «تجديد الفكر العربي» (1971) لزكي نجيب محمود، و«المجتمع العربي المعاصر» (1984) لحليم بركات، و«النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين» (1990) لهشام شرابي.
ولعل حنا عبود (سورية) أول ناقد عربي يتصدى لمفهوم الحداثة من منظور شامل في كتابه «الحداثة عبر التاريخ: مدخل إلى نظرية» (1989)، فتختلف الحداثة عن التجديد الذي يتخلق يومياً، وهذا ما دعاه لاختبار مفهوم الحداثة عبر التاريخ، فتوقف عند حداثتين الأولى زراعية في العالم القديم، والثانية صناعية في أوروبا الحديثة، وتلمس لعرضه مؤلفات وأفكار وظواهر اجتماعية وسياسية ترى في الحداثة صيغة شمولية تسود المجتمع، وليس تجريداً مرحلياً، والعرض جريء يستند إلى ثقافة ثرة ورأي مستقل وحذر في تناول منعكسات الحداثة على الفكر العربي والثقافة العربية.
مهد عبود لمدخله إلى نظرية الحداثة بالتعريف بالنظريات التطورية وغير التطورية، أو النظريات المتعارضة على حدّ تعبيره، متجنباً التعريج على المؤلفات التي ظهرت في العربية عن الحداثة، لأن مرامه هو إضاءة وجهة نظره المحددة، لا إرهاق كراسته بمناقشات هامشية لا تسهم في إبراز ما يريده. ثم عالج النظريات الوظيفية والحداثة، وصور تماهي الذات، والحداثة الأولى، وعصر الوحدانية، والحداثة الثانية، وخلص بالرأي إلى أن الباحثين لا يتفقون على زمن معين للحداثة، وعرض لآراء كريستوفر كودويل وهنري لوفيفر وادموند ولسون ومالكولم برادبوري وجيمس مكفرلين وارنولد هاوزر.
ثم استنبط عبود قانوناً للحداثة، بالاعتماد على مصطلحين يونانيين هما الانانكي Ananke والمويرا Moira، وقد اعتقد اليونان أن الأنانكي هو القدر الأعظم أو القانون الأكبر أو النظام الذي ما بعده نظام، حيث تخضع له الآلهة والبشر معاً، أما المويرا فهي في عرفهم القدر الأصغر الذي يخضع له البشر وتفرضه الآلهة. فتكون الحداثة خطوة تقترب إلى الأنانكي، والحداثة تزداد طرداً مع الاقتراب من الأنانكي. وإذا ساد الفكر الوحداني، تباطأت الحداثة أو تعثرت أو تلاشت، وذكر بعض الملامح الأخرى:
- تشتمل الحداثة على نوع من الخرق للزمن والتاريخ.
- ليست الحداثة مكوناً في الذات. إنها خروج منها، فالأنانكي لا يعترف بالذات. إن الذات من ضمن موجوداته التي يسري عليها قانونه.
- الحداثة لا تستهويها «الإنسانية»، ولا تختبئ وراء هذا الشعار وأمثاله. إنها مواجهة وخرق للوصول إلى الأنانكي.
- فيما يتعلق بالإنسان أو المجتمع أو الطبيعة، تسعى الحداثة للوصول إلى الأنانكيات المتحكمة والطبقة الآسرة التي لا فكاك منها، فتكتشف التدمير المحيق من غير أن تعد بعصر ذهبي ومن غير فرض إيديولوجياً معينة، فكل إيديولوجيا عبارة عن وحدانية.
- تسعى الحداثة إلى الحرية من خلال معرفة الأنانكي، وليس من تجاهله، أو تزيينه أو شرحه شرحاً متحيزاً، إن الاستلاب الذي يخضع له الإنسان لا يرجع فقط إلى الأنظمة الاجتماعية والأيديولوجيات الوحدانية، بل يرجع أيضاً إلى الأنانكيات المتحكمة به.
- لا يخفى أن الحداثة تدفع بالشكل إلى أبعد حدوده، ليتطابق مع مقتضيات الأنانكي، ولا ينطبق هذا على الأدب، بل على كل شيء. ولهذا تسعى الحداثة وراء الأشكال التي تؤمن تأدية مثلى للوظيفة، فنحن دائماً أمام محاولة المقاربة، مما يعزز دور الجمالية الفوضوية، التي تسعى دائماً إلى التجاوز من أجل أنانكية أشد إقناعاً( ).
وكانت المحاولة الثانية المكتملة لدرس الحداثة فلسفياً في كتاب «فلسفة الحداثة» (1992) لمؤلفيه فتحي التريكي ورشيدة التريكي (تونس). وقد صدر فيه مؤلفاه عن فكرة مفادها أن الأخذ من الغرب لا يعني قطيعة معرفية مع الموروث، لأن الغرب نهض في حداثته على العلم العربي والحضارة العربية. إن الحداثة، في رأيهما، «مصيرنا، وأن علينا فتح كياننا على تاريخيتنا لا من حيث أنها تربط حاضرنا بجذورها، وبالحضارات التي تعاقبت علينا فقط، بل وأيضاً من حيث أنها انفتاح على الإقبال والمصير، لهذا لم نعد بحاجة إلى تأصيل كياننا بقدر ما نحن بحاجة إلى فتحه على الحداثة، وعلى مسارها في تمظهرات الفكر العالمي.. فلسفة الحداثة في كنهها ما هي إلا تسرب الوعي في الذات بضرورة انتصار الحياة والوجود على الموت والعدم، نعني وجودنا التاريخي الذي يحدد مصيرنا العربي الإسلامي»( ).
وجد مؤلفا «فلسفة الحداثة» أنها معضلة مجاوزة «مجموعة من العمليات التراكمية التي تطور المجتمع بتطوير اقتصاده وأنماط حياته وتفكيره وتعبيراته المتنوعة معتمدة في ذلك على جدلية العودة إلى الأصل وتجاوز التقاليد المكبلة ومحررة الآنا في الآن نفسه من الانتمائية الضيقة للماضي، لتجعل من الآنية فاعلاً حقيقياً في الذات والمجتمع، ومن الإقبال عنصراً معياراً للفكر والعمل»( ).
وعندما ناقشا الحداثة والهوية، تصور استراتيجية ممكنة للخروج من أزمة الوعي العربي، في أمرين أولهما تهافت فكرة توحيد العيش وأنماطه، ورفض الهيمنة الغربية، والتحديث كتكريس لهذه الهيمنة، ويكون ذلك بالإبداع العلمي والتقني والثقافي، وبالفكر المتحرر البناء، وثانيهما إن إثبات هويتنا لا يكون بتأصيل كياننا فقط، بل بتحديثه، وجعله قابلاً للتأقلم مع أنماط الحياة الجديدة ولتحدي مساوئها.
ومن الواضح أن فلسفة الحداثة عندهما لا تخرج عن المحاولات التوفيقية التي أثارها مفكرو النهضة العربية. أما التنظير للحداثة والمخيال فلا يواجه الأسئلة القائمة، وكانت اختارت رشيدة التريكي مجالين أكثر تعقيداً والتباساً هما الحداثة في الرسم وجمالية الزمن التصويري.
وارتفعت وتيرة أسئلة الحداثة مع مصنف «الحداثة» (1996)، وهو من إعداد محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (المغرب). وقد ميزا فيه بين الحداثة الكلاسيكية التي تتميز بعقلانية أداتية صارمة، وبنزعة تقنية وبقدرات لا متناهية على السيطرة على الطبيعة والإنسان، وبين ما بعد الحداثة التي تحاول تقديم صورة أكثر إنسانية عن الحداثة بحيث تدمج في منظورها الذات البشرية الفاعلة والمعاني الغائبة، والأبعاد الأكثر جمالية محاولة الحدّ من بعض مظاهر أداتيتها، ولاحظا أن «المجتمع التقليدي الذي تعرض لهذه الصدمة يشهد اهتزازات وتحولات في كل مستويات نسقه الاجتماعي، إما في اتجاه التكيف مع الحداثة أو في اتجاه رفضها، مطلقة في هذه المجتمعات صراعاً عسيراً بين مقومات التقليد ومقومات الحداثة. وهذا الصراع ليس اختيارياً أو إرادياً، بل هو مخاض موضوعي ناتج عن مظاهر تقدم الحداثة التي تتحول إلى تيار كاسح يغزو كل الآفاق والفضاءات بمختلف الوسائل والآليات كما أنه صراع مفتوح لأنه يقحم هذه المجتمعات في مخاض من التحول الطويل المدى»( ). ويفيد هذا الرأي اتصال الحداثة بالهوية بالنسبة إلينا، غير أن الباحثين، في مختاراتهما لنصوص أو أجزاء من نصوص، أدغما نصوص المفكرين والنقاد العرب في نصوص المنظرين والباحثين الغربيين، دون أن يدققا بين مفاهيم «الجديد» و«الحديث» و«الحضارة» و«الأنوار» و«الحداثة»، واتجه تصنيفهما إلى التحديدات اللازمة المفهومية والزمنية، والأسس الفلسفية، والمظاهر السياسية والاجتماعية، والعرب والحداثة وما بعد الحداثة. وقد زادت المختارات على ستين نصاً تناولت مختلف جوانب هذه الظاهرة الشائكة، من منظورات متعددة. ولعل وصف جانب العلاقة بالحداثة يشير إلى مدى اضطلاع الفكر العربي بمواجهة أسئلة الحداثة. فكانت الاختيارات التالية:
• التيارات الحداثية في الفكر العربي (محمود أمين العالم).
• مقومات الحداثة في الإسلام (حسن حنفي).
• ابن رشد: إشكالية الحداثة والإسلام (محمد أركون).
• تحديث وليس حداثة (محمد أركون).
• النظرة المشوهة (داريوش شايغان).
• تحولات الحداثة (برهان غليون).
• هل يمكن التعبير عن الأفكار الحديثة بلغة تقليدية (هشام شرابي).
• تحدي روح الحضارة الحديثة (حسن صعب).
• تحديث أم تغريب أم تأصيل (فضل الرحمن).
• فكر الحداثة (عبد الله العروي).
وعلى أي حال، تكشف هذه المختارات عن الانشغال الجذري والواسع لإشكالية الحداثة في الثقافة العربية المعاصرة، وعن النزوع العميق للتحديث في مجالات الحياة العربية كافة، على الرغم من التع
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59